بازگشت

الدور الاعلامي لموكب السبايا


و كان أمرا في غاية الأهمية أن يصل صوته للأمة كلها و أن تعرف تفاصيل المعركة و ما دار فيها من أمور و حوادث و ما فعله الحسين و قاله، و ما فعله أصحابه، و ما فعله أعداؤه أيضا، اذ كيف تتفاعل هذه الأمة مع حدث لم تعرف تفاصيله و كأنها تشهده، و كيف يتم الأمر دون شهود حقيقيين عاشوا الأحداث و شهدوها، ليرووا للأمة كل تفصيلاتها بدقة و صدق بعيدا عن التلفيقات و الأكاذيب الأموية.

و مع أن شهودا من بين صفوف الأعداء، تطوعوا بعد المعركة مباشرة أن بعد مضي سنوات منها فرووا لنا قصص العديد من فصولها و أحداثها، و قد هزتهم و أثارتهم، و جعلتهم ينظرون باعجاب الي الحسين عليه السلام، و أصحابه و هي شهادات لها قيمتها التاريخية، لأنها لم تصدر عن أناس كانوا يتحيزون اليهم، بل عن أناس وقفوا موقف العداوة منهم.

الا أن شهادات أخري تصدر عن الطرف الآخر ممن كانوا ينتمون للحسين عليه السلام و يقفون في صفه و يتبنون مواقفه، و ممن عرفوا بالنزاهة و الصدق، و كانوا يسيرون علي خطه ستبقي هي الشهادات الكبيرة ذات الاتجاه الصادق و التي تفيد حقا بالتعريف بثورته، فلم يكن من استسهلوا الشهادة و المشاق و المتاعب في سبيل الله و في سبيل الاسلام ليقدمون علي تزوير الحقائق و الوقائع كما يفعل أعداؤهم لعرض صورة معينة جميلة بنظر المسلمين، و ينسون الهدف الأول الذي أقدموا من أجله علي الشهادة و المخاطر و الجهاد في سبيل الله.

و كانت مهمة من شهدوا المعركة و عاشوا أحداثها و وقائعها، ثم أتيحت لهم فرصة النجاة من العدو و البقاء علي قيد الحياة، تسير في اتجاهين:

الأول: رواية وقائع المعركة و تفصيلاتها و دور العدو المتجني و البعيد عن الاسلام مقابل دور الحسين عليه السلام و أصحابه المبدئي الذي كان يهدف الي رص


الصفوف حول الاسلام، مما سيكون له أثر بالغ باثارة انتباه المسلمين الي الثورة كلها و الي موقف الحسين عليه السلام منذ البداية و الي دور النظام الأموي المباشر في هذه المعركة و في الفصل الأخير منها المتمثل بمجزرة الطف في كربلاء.

الثاني: اثارة الرأي العام الاسلامي و تحريضه و تهيئته للوقوف ضد الحكم الأموي اليزيدي، و كل نمط مشابه من أنماط الحكم المنحرفة، و استثمار الفاجعة للفت أنظار الناس الي خروج هذا الحكم عن الاسلام و اعتماده كل الأساليب غير المشروعة للبقاء و التسلط.

و كان مشهد نسوة آل الرسول صلي الله عليه و آله و سلم، و هن يعشن ذلك الحال بعد مأساة كربلاء، كفيل بجعل الناس تلتفت الي خطورة الأوضاع التي تعيشها، فأي حرمة، و أية كرامة ستبقي لأي فرد من المسلمين، مادامت عائلة الرسول صلي الله عليه و آله و سلم التي يحمل المسلمون لها كل التقدير و مشاعر الحب و القداسة، تمتهن و تذل بذلك الشكل المخزي؟

أية عهود من العبودية سيعيشون في ظلها مادام الحاكم لا يريد الا توطيد عرشه و اقامة سلطانه..؟

ان موكب سبايا كربلاء خلال مسيرة الرجوع الملحمية، سجل صوتا اعلاميا واضحا و مؤثرا، و جعل الأمة كلها تتعاطف مع قضية الحسين عليه السلام و تستجيب له و تعلن العداوة للنظام الأموي، و ان جاء رد الفعل متباينا و متأخرا، بفعل القمع و التضليل الأمويين.

و قد أعد الحسين عليه السلام النسوة للقيام بذلك الدور الاعلامي لما بعد المعركة، و جعل كل أصحابه و كل شخص في قافلته بما فيهم النساء يدرك الهدف من مسيرته و يستعد لتقبل كل التضحيات و المصاعب و لا يتوقف عن ممارسة مسؤولياته تجاه التغيير الذي أراده الامام عليه السلام.

و بالتأكيد، فان معركة الطف لم تكن الفصل الأخير من ثورة الحسين عليه السلام، و لعلها كانت نقطة البداية لمعركة كبيرة دائمية ضد الانحراف و الظلم، الي يومنا هذا، شارك فيها ملايين الرجال و النساء و الأطفال، كان الأوائل منهم قد صحبوا الحسين عليه السلام شخصيا و تلقوا عنه بشكل مباشر، و أقدموا علي تنفيذ واجباتهم بكل جرأة و اخلاص و بكفاءة قل نظيرها.


كانت خطبة الحسين عليه السلام بأصحاب الحر في (البيضة)، و هو يشير الي نفسه معرفا بمقامه و نسبه و موقعه من رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم، ثم الي قيامه باستصحاب أهله و أولاده، كفيلة باشعارهم بطبيعة المهمة التي قدم من أجلها الي الكوفة. بعد ما أوضحها لهم في بداية تلك الخطبة و في خطبه السابقة. [1] .

كان هو الأحق بالأمر، ممن غير و بدل و انحرف، و قد جاء بناء علي دعوتهم و استجاب، و لم يقدم بعد أن شرط عليهم الشروط و طلب منهم استتباب الأمور لصالحه، و أنما قدم بعياله و أولاده و أطفاله لمشاركتهم ما ادعوا أنهم عازمون علي فعله، و هو اعلان الحرب علي الدولة الأموية، و طرد ممثليها و أعوانها من بلدهم و بذلك يكون قد استجاب لدعوتهم و لم يتأخر عن تلبيتها أن يتردد عالما أنهم اذا ما فشلوا و انهزموا قبل أن يقدم عليهم فأنهم سيلقون مسؤولية ذلك عليه شخصيا، و ربما تلقي عليه مسؤولية كل هزيمة لاحقة.

انه أكرم الناس و عياله أكرم العيال، و مع ذلك فانه عرض نفسه و عياله للموت و السبي و التشريد من أجل هدف رأي أنه جدير بكل ذلك، و هو الدفاع عن الاسلام، فأي عذر سيتبقي لأولئك الذين سيتكاسلون أو يتجنبون عن اللحاق به و قد وضع نفسه و أهله في مقدمتهم، و أصبح أسوة لهم؟

روي الامام علي بن الحسين بن علي، زين العابدين عليه السلام قال: (اني جالس في تلك العشية التي قتل أبي صبيحتها، و عمتي زينب عندي تمرضني، اذ اعتزل أبي بأصحابه في خباء له، و عنده حوي، مولي أبي ذر الغفاري، و هو يعالج سيفه و يصلحه و أبي يقول:



يا دهر أف لك من خليل

كم لك بالاشراق و الأصيل



من صاحب أو طالب قتيل

و الدهر لا يقن بالبديل






و انما الأمر الي الجليل

و كل حي سالك السبيل



ما أقرب الوعد من الرحيل

فأعادها مرتين أو ثلاثا حتي فهمتها، فعرفت ما أراد، فخنقتني عبرتي، فرددت دمعي، و لزمت السكون، فعلمت أن البلاء قد نزل، فأما عمتي فأنها سمعت ما سمعت، و هي امرأة، و في النساء الرقة و الجزع، فلم تملك نفسها أن و ثبت تجر ثوبها، حتي انتهت اليه، فقالت: واثكلاه، ليت الموت أعدمني الحياة، اليوم ماتت فاطمة أمي و علي أبي و حسن أخي. يا خليفة الماضين، و ثمال الباقين.



فنظر اليها الحسين عليه السلام فقال: يا أخية لا يذهبن حلمك الشيطان.

قالت: بأبي أنت و أمي يا أباعبدالله، استقتلت نفسي فداك.

فرد غصته، و ترقرت عيناه و قال: لو ترك القطا ليلا لنام.

قالت: يا ويلتي، أفتغصب نفسك اغتصابا، فذلك أقرح لقلبي، و أشد علي نفسي، و لطمت وجهها، و أهوت علي جيبها فشقته، و خرت مغشيا عليها.

فقال اليها الحسين فصب علي وجهها الماء، و قال لها: يا أخية، اتقي الله، و تعزي بعزاء الله، و اعلمي أن أهل الأرض يموتون، و أن أهل السماء لا يبقون، و أن كل شي ء هالك الا وجه الله الذي خلق الأرض بقدرته، و يبعث الخلق فيعودون، و هو فرد وحده.

أبي خير مني، و أمي خير مني، و أخي خير مني، ولي و لهم و لكل مسلم برسول الله أسوة. فعزاها بهذا و نحوه، و قال لها: يا أخية، اني أقسم عليك فأبري قسمي: لا تشقي علي جيبا، و لا تخمشي علي وجها، و لا تدعي علي بالويل و الثبور، اذا أنا هلكت، ثم جاء بها حتي أجلسها عندي، و خرج الي أصحابه). [2] .


پاورقي

[1] و قد ذکرنا الخطبة التي استهلها عليه‏السلام بقوله: «أيها الناس، ان رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم قال: «من رأي سلطانا جائرا، مستحلا لحرام الله، ناکثا لعهد الله، مخالفا لسنة رسول الله، يعمل في عباد الله بالاثم و العدوان، فلم يغير عليه بفعل و لا قول، کان حقا علي الله أن يدخله مدخله... الي أن يقول: فان تممتم علي بيعتکم تصيبوا رشدکم، و أنا الحسين بن علي و ابن‏فاطمة بنت رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم نفسي مع أنفسکم، و أهلي مع أهليکم و أولادکم، و لکم في أسوة) النويري 419 / 20، و الطبري 307 / 3، و ابن‏الأثير 280 / 3، و البلاذري 171 / 3.

[2] الطبري 317 / 316 / 3، و ابن‏الأثير 286 / 3، و الارشاد 216، و اللهوف 34، و روضة الواعظين للقتال 184، و أنساب الأشراف للبلاذري 186 / 3، و نهاية الأرب للنويري 447 / 20، مع بعض الاختلافات البسيطة في النصوص.