بازگشت

اثنان و سبعون كانوا أمة


و في يوم المواجهة، و بعد أن صلي الحسين عليه السلام بأصحابه صلاة الغداة، و كان معه علي الأرجح اثنان و ثلاثون فارسا و أربعون راجلا..

(جعل زهير بن القين في ميمنة أصحابه، و حبيب بن مظاهر في ميسرة أصحابه، و أعطي رايته العباس بن علي عليه السلام أخاه، و جعلوا البيوت في ظهورهم، و أمر بحطب و قصب كان من وراء البيوت يحرق بالنار مخافة أن يأتوهم من ورائهم.

و كان الحسين عليه السلام أتي بقصب و حطب الي مكان من ورائهم منخفض كأنه ساقية، فحفروه في ساعة من الليل، فجعلوه كالخندق، ثم ألقوا فيه ذلك الحطب و القصب، و قالوا: اذا عدوا علينا فقاتلونا، ألقينا فيه النار كيلا نؤتي من ورائنا، و قاتلنا القوم من وجه واحد. ففعلوا، و كان لهم نافعا). [1] .

و هي خطة حربية ماهرة، أكدت للعدو أن الحسين و أصحابه ليسوا في موقف المستسلم اليائس و انما دور المدافع الحريص علي الفوز.

و هنا قد تثار أسئلة عديدة، ما جدوي تلك الاستحكامات مادامت لن تصمد الا لبعض الوقت، يتمكن العدو بعده من النفاذ الي المعسكر و قتلهم؟

و ما جدوي توزيع الحسين عليه السلام أصحابه بذلك الشكل ماداموا قلة، و ماداموا سيقتلون و هو ما كانوا يعرفونه هم قبل غيرهم؟ و نعيد هنا ما سبق أن قلناه، فهم ليسوا في موقف اليائس العاجز حتي يقفون دون حراك لمواجهة عدوهم، و لم يأتوا ليلقوا بأنفسهم بين حراب العدو و سيوفه في عملية انتحار و ينتهي الأمر.

كان لكل دقيقة ثمنها الكبير في ذلك اليوم، و كان لابد أن تشهد الأمة كلها كيف تستبسل هذه الفئة القليلة، و كيف تدافع عن نفسها و كيف تعرض قضيتها فتحاور


و تجادل و تدعو و ترشد و تقاتل، كان لابد من تسجيل كل لحظة و كل موقف من لحظات و مواقف تلك المواجهة، و عدم جعلها تمر دون أن ترتسم تفاصيلها في أذهان كل أبناء الأمة.

لم يكن في أي تصرف من تصرفات الامام الحسين عليه السلام و أصحابه ما يوحي بأنهم كانوا يمكن أن يتنازلوا بسهولة أمام أعدائهم، و أنهم سيقدموا دماءهم بتلك السهولة التي قد تبدو و كأنها تضيع هدرا لقد نفي الحسين عليه السلام كل تصور يمكن أن يساور الأذهان بهذا الصدد.

و يمكن أن نشاهد حقا هنا من يقدم علي الموت بخطوات متأنية مدروسة و يستشهد برغبته و ارادته مادام هذا الموت يحقق الأهداف التي سعي اليها طيلة حياته.

كانت كل مجموعة صغيرة من أصحاب الحسين عليه السلام تواجه كتائب بكاملها، و كان كل فرد منهم يمثل كتيبة بمفرده، و لم يكن أي منهم مستعدا للموت بسهولة دون أن يدافع عن نفسه و يساهم باقامة الاستحكامات و المتاريس و الخنادق التي أمر الامام باقامتها و حفرها، و ذلك ما أثار عدوهم و جعله يفقد هدوء أعصابه، و قد بدا ذلك واضحا من رد فعل شمر، و هو من أشد أعوان ابن زياد و المناصرين له، و قد هتف عندما نظر الي الأبيات فاذا هو لا يري الا حطبا تلتهب فيه النار:

(يا حسين، استعجلت النار في الدنيا قبل يوم القيامة). الطبري 318 / 3.

كان شمر يعلم من هو الحسين، و كان يعلم من سيرد النار، غير أنه كان يتوقع أن يجد الحسين و أصحابه خائفين مستسلمين مترقبين عطفا و عفوا من عدوهم، و لم يتوقع أن يجد جماعة مصممة قد استعدت للقتال و صممت علي الموت.

فمن يحفر خندقا و يقيم متراسا و يشعل نارا ليعيق عدوه عن مهاجمته من كل الجهات، و يؤخره عن مهمته، جدير أن يشعر هذا العدو أنه أمام انسان ذي عزيمة صادقة، خصوصا و أنه محاط بالآلاف المؤلفة من أفراده المتلهفين لقتله و الفتك به.

و هو أمر جدير أن يلفت نظر الأمة كلها الي عدالة قضيته و صواب توجهاته و أهدافه. و هو ما سيجعل لكل قطرة من دمه ثمنها المناسب الكبير، اذ سيتراءي لونها الأحمر الثاني أمام كل الأنظار عبر كل فصول التاريخ و أدواره مشيرا الي مجاهد لم يشأ التخلي عن قضيته حتي الرمق الأخير.



پاورقي

[1] الطبري 317 / 3، کما أنه عليه‏السلام أمر اصحابه (أن يقربوا بيوتهم من بعض، و أن يدخلوا الاطناب بعضهما في بعض و أن يکونوا هم بين البيوت الا الوجه الذي يأتيهم منه عدوهم) الطبري 137 / 3.