بازگشت

الامام الحسين يتيح لأصحابه اتخاذ القرار الحاسم


ولم يكن الامام الحسين عليه السلام بحاجة لاختبار أصحابه و قد عرف منهم الثبات و القوة و الاستعداد لمواجهة الأخطار، بعد أن عرفوا أية مهمة عظيمة كان يتصدي لها، غير أن لحظة المواجهة الأخيرة قد دنت، و لابد أن تلوح أمامهم مخاطر تلك اللحظة


ليتخذوا القرار الأخير و الحاسم و النهائي في حياتهم، فاذا ما ساروا الي الموت ساروا بارادتهم و كامل وعيهم، و سيكون ثواب ذلك القرار متناسبا معه.

لن يستطيع أحد بعد ذلك القول انهم كانوا مدفوعين بدافع القرابة أو العصبية أو بدافع عهود سابقة أو مواقف سابقة بدرت منهم، ثم لم يستطيعوا بدافع الحياء أو بدافع التخلص من ذلك الموقف بشكل ما، و استمروا مع الحسين عليه السلام و وجدوا أنفسهم بمواجهة آلاف الجند المحاربين.

و سيكون من الواضح أن الامام الحسين عليه السلام عندما دعاهم عشية يوم المعركة للذهاب الي مكان أكثر أمنا و النجاة بحياتهم، لأنه كان المستهدف الأول من قبل دولة الظلم المنحرفة، و رفضوا ذلك مصرين علي الاستشهاد معه، انهم كانوا بمستوي المواجهة الكبيرة التي كان يعد لها الامام عليه السلام، و بمستوي الأهداف الكبيرة التي كان يخطط لتحقيقها علي كل المديات و في كل الأزمان.

و هكذا روي لنا الامام زين العابدين عليه السلام الذي كان مريضا في ذلك الوقت مرضا منعه من المشاركة في المعركة، ان الامام الحسين عليه السلام جمع أصحابه عندما قرب المساء قائلا لهم:

(أثني علي الله تبارك و تعالي أحسن الثناء، و أحمده علي السراء و الضراء. اللهم اني أحمدك علي أن أكرمتنا بالنبوة، و علمتنا القرآن، و فقهتنا في الدين، و جعلت لنا أسماعا و أبصارا و أفئدة، و لم تجعلنا من المشركين.

أما بعد: فاني لا أعلم أصحابا أولي و لا خيرا من أصحابي، و لا أهل بيت أبر و لا أوصل من أهل بيتي، فجزاكم الله عني جميعا خيرا، ألا و اني أظن يومنا من هؤلاء الأعداء غدا، ألا و اني رأيت لكم فانطلقوا جميعا في حل، ليس عليكم مني ذمام، هذا ليل قد غشيكم فاتخذوه جملا). [1] .

و قال لهم بعد ذلك:

(هذا الليل قد غشيكم، فاتخذوه جملا، ثم ليأخذ كل رجل منكم بيد رجل من


أهل بيتي، تفرقوا في سوادكم و مدائنكم حتي يفرج الله، فان القوم انما يطلبوني، و لو قد أصابوني لهوا عن طلب غيري). [2] .

هذه دعوة صريحة يضع فيها الامام عليه السلام أصحابه أمام اختيارهم الحر الواعي، فبعد ساعات سيواجه الدم السيف، و لن يكون الا القتل، فهل سيجدون في أنفسهم القوة لمواجهة ذلك بعد أن أصبح الأمر قريبا و أمرا واقعا لا محالة؟ لم يكن الحسين عليه السلام بحاجة لسماع أجوبتهم التي أكدت علي استعدادهم للمضي معه حتي النهاية، فهو قد عرفهم و خبرهم، غير أنه رأي أن الأمة بحاجة لسماع تلك الأجوبة الحازمة المصممة التي تأبي التراجع أو الاستسلام، و تريد خوض غمار ذلك الموت المؤكد طالما أنه يحقق الهدف المنشود، و طالما أنه سينبه الأمة من رقدتها و يعرفها علي القادة المزيفين الذين تربعوا علي عروشهم بكل الوسائل غير المشروعة، و علي آخرين مشابهين سيظل الزمن يجي ء بهم مادامت مسيرة الحياة مستمرة علي هذه الأرض، و طالما أنه يؤكد لهذه الأمة أن هناك من ينتصر للاسلام بدمه و حياته، ليكون هو الغالب و تكون الأمة هي الغالبة في النهاية، كأمة مسلمة حقيقية، و طالما أنه سيستنفر المزيد من الأنصار اللاحقين علي مر الزمن.

و لعلنا سنتعرض بتفصيل أكثر لمواقف الحسين عليه السلام و أصحابة (في كتاب منفصل ان شاء الله) لنتعرف الي الدوافع الحقيقية وراء تلك المواقف، و نستفيد من تلك اللحظات القصار التي وضعوا فيها أمام المجهر و وقف شهود من بينهم و من بين أعدائهم، يبينون لنا أدق التفاصيل عن أكبر حدث تاريخي أتيح للأمة أن تشهده، و كان بداية لانتفاضة مستمرة بوجه الانحراف و الظلم و الشرك.

و قد رأينا كيف وقف الحسين عليه السلام و أصحابه يوم الطف، و كيف واجهوا العدو بتلك الصلابة الفائقة، و كيف أن وقفتهم كانت منسجمة مع لقائهم بالامام عليه السلام و موقفهم معه عندما دعاهم للتفرق في سوادهم و مدائنهم الي أن يفرج الله، لأنهم لم يكونوا مطلوبين مثله و لم يكونوا مستهدفين كما استهدف هو.

لم يكن لقاء الحسين عليه السلام بأصحابه مجرد لقاء عاطفي تلقي فيه الخطب و تسيل فيه الدموع، مع عاطفة الاسلام النبيلة طبعته بطابعها الجميل، و أنما كان


لقاء جددت فيه العهود و حصل فيه الاتفاق علي الشهادة، مادامت هي السبيل الوحيد لمواجهة الانحراف، و هو ما كان ينبغي أن تعرفه الأمة كلها.


پاورقي

[1] الطبري 315 / 3، و اللهوف ص 38، و روضة الواعظين للقتال 183، و ابن‏الأثير 285 / 3، و الخوارزمي 2 / ف 11، و الارشاد ص 210، و امالي الصدق م 30، و جمهرة خطب العرب 41 / 2، و البحار 492 / 44، و مناقب ابن‏شهر اشوب 99 / 4، و الايفد ص 63، و انساب الاشراف 185 / 3، و النويري 435 / 20.

[2] المصدر السابق.