بازگشت

تمهيد


كانت اجراءات الامام الحسين عليه السلام الدفاعية باقامة الاستحكامات و الحواجز، تفهم العدو بشكل واضح أنه لم يقدم لكي يستسلم و يعطي نفسه و أصحابه لقمة سائغة له، و تفهم الجميع بما فيهم نحن أنه عازم علي المضي بالمعركة التي بدأها حتي النهاية و اذ لاح له، بل تأكيد أنه و أصحابه مقتولون لا محالة، فأنه لم يرد لذلك الدم أن يذهب هدرا، فتلك الساعات القليلة التي تتسارع فيها الأحداث، و يقف جيش بأكمله شاهدا عليها، سيكون من شأنها اذا ما أضيفت اليها ساعة أو ساعتان، أن تجعل أفراد ذلك الجيش يتساءلون و لو بعد حين عن الدوافع التي جعلته لا يستسلم بسهولة رغم قوة العدو الظاهرية، و جعلت أصحابه يستبسلون و يقتلون بين يديه بعد أن يتقدموا اليه بالتحية و السلام، فالساعة الواحدة لها قيمتها الحقيقية في ذلك الموقف الدقيق.

و قد روي لنا أفراد من جيش ابن زياد العديد من مشاهد بطولة الامام و أصحابه، و لم يملكوا أنفسهم بعد أن عادوا الي أهليهم بعد المعركة الا أن عبروا عن اندهاشهم و تعجبهم منها، و كانوا شهودا للأمة كلها علي ما رأوه و ما سمعوه، و كان كافيا لاشعارها حقيقة دوافع تلك الثورة رغم محاولات رموز الحكم لطمسها و تشويهها و عرضها علي أنها نزاع علي السلطة، و علي أن دوافعها لم تكن كما ذكره الامام عليه السلام.

لم يتخاذل الحسين عليه السلام أمام أعدائه الذين قد يزيدون عليه ألف مرة، و لم يتنازل عن المبادي ء التي نادي بها منذ أن رفض الحكم المنحرف أول مرة، و كان بذلك يريد للثوار في سبيل الاسلام أن يجعلوا من موقفه رائدا لهم، فلا يتخاذلون أمام أعدائم مهما كانت قوة أولئك الأعداء و مهما كان عددهم، و كانت مطاولة العدو التي قد تزيد من وقت المعركة ساعة أو ساعتين من شأنها أن تربك هذا العدو، بعد أن يري كيف أن هذا العدد الصغير استطاع أن يقف بوجهه و يصمد كل هذه المدة، بعد أن


حسب أن مجرد وجوده علي الساحة كفيل بالقاء الخوف و الرعب في نفوس أفراده، و تجعل أعداء الاسلام يحسبون حسابا حقيقيا للأمة، بل و حتي لأفراد معدودين منها اذا ما فكروا باعلان انحرافهم عنه و اذا ما تمادوا في ظلمهم و جورهم.

و هذا هو ما حصل فعلا؛ اذ يقف الطغاة علي امتداد تاريخنا الاسلامي مذعورين أمام صرخة ثائر أو صاحب حق أو منتصف واحد للاسلام، و يرتجفون اذا ما واجهوا أية صحوة اسلامية مهما كان عدد أصحابها و دعاتها.

و قد رأينا كيف أن الحسين عليه السلام، عندما رأي جيش الحر، حاول أن يميل بأصحابه الي ملجأ يجعلونه في ظهورهم ليستقبلوا القوم من وجه واحد، و هو اجراء سليم و صحيح، بل أنه الاجراء الوحيد الذي كان ينبغي القيام به في ذلك الموقف و هو يواجه عددا كبيرا من الجند الفرسان بلغ ألفا.

و قد رأينا قيامه بسقي أولئك الفرسان و ترشيف خيولهم، و هو مسعي انساني كبير أتاح له التحدث اليهم فيما بعد، عارضا عليهم السبب الذي جعله يقوم بثورته و يقدم الي العراق.

كان صموده و استعداده للمضي في المعركة الي نهاية الشوط عاملا مهما لا علي تقوية صمود أصحابه و رفع معنوياتهم و حسب، و انما علي تبليغ رسالته الي الأمة كلها، و اشعار الجيش المقابل أنه كان ينساق وراء أهواء الحكام و مصالحهم و أنه هو الخاسر في النهاية، اذ يندفع خلفهم دون أن يكون له هدف واضح، كان من شأن صموده أن يشعر أعداءه بضعفهم رغم القوة الظاهرية و استعراض العضلات الذي قاموا به.

كانوا رغم عددهم الكبير و تجهيزاتهم و أسلحتهم بحاجة لمن يشد أزرهم و يشجعهم و يحرضهم علي الحسين و أصحابه، و قد رأينا كيف أن ابن زياد قد بث بين صفوفهم من يقوم بهذه المهمة أمثال شمر و ربيع بن تميم و عزرة بن قيس و حصين بن تميم.

و كما رفض الحسين عليه السلام منذ البداية رأي من أشار عليه بالذهاب الي شعب من شعاب اليمن فيتحصن هناك، و قد أوضحنا الأسباب التي دعته لذلك، رفض رأي الطرماح بن عدي عندما أشار عليه قبل وصوله كربلاء بالذهاب الي جبل (أجأ) المنيع و يقيم هنالك ما بدا له.

ان الدولة ستعمد الي محاصرته هناك و ستستنفر قواها و ستلجأ الي أساليب


الرشوة و التهديد لمنع الناس من الالتحاق به، و سيكون من السهل عليها تشويه قضيته و عرضها كما فعلت بالضبط و فشلت علي أنها قضية منافسة علي الملك و الزعامة، لا علاقة لها بالاسلام.

و في كل مراحل المعركة، لم يتردد الحسين بعرض قضيته بكل وضوح، و لم يأل جهدا باستمالة من يستطيع استمالته الي جانبه، اذ أنه كان يري أن من يميل معه من جيش الأعداء، كان يشكل حجة قوية عليهم أمام أجيال الأمة المعاصرة و اللاحقة، اذ ما ينشد من يترك جانب السلطان القوي المتسلح و يلتحق بعصبة صغيرة ستلقي الموت بعد قليل، سوي أن يموت معهم؟ و لأي غرض سيكون هذا الموت ان لم يكن لهدف كبير مثل نصرة الاسلام و حمايته؟