بازگشت

الحسين يصف أفعال أعدائه و لا يشتمهم


قال لهم، بعد أن استشهدهم عن نفسه و مكانته، و بعد أن علم تصميمهم علي قتله رغم علمهم بمكانته و مقامه من رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم و من الاسلام:

(تبا لكم أيتها الجماعة و ترحا، حين استصرختمونا و الهين، فأصرخناكم موجفين، سللتم علينا سيفا لنا في أيمانكم، و حششتم علينا نارا اقتدحناها علي عدونا و عدوكم، فأصبحتم البا لأعدائكم علي أوليائكم، ويدا عليهم لأعدائكم، بغير عدل أفشوه فيكم، و لا أمل أصبح لكم فيهم. الا الحرام من الدنيا أنالوكم و خسيس عيش طمعتم فيه، من غير حدث كان منا، و لا رأي تفيل لكم.

فهلا لكم الويلات، اذ كرهتمونا و تركتمونا و السيف مشيم، و الجأش طامن، و الرأي لما يستحصف ولكن أسرعتم اليها كطيرة الدبي، و تهافتم عليها كتهافت الفراش، ثم نقضتموها. فسحقا لكم يا عبيد الأمة، و شذاذ الأحزاب، و نبذة الكتاب، و محرفي الكلم، و نفثة الشيطان، و عصبة الآثام، و مطفئي السنن، و قتلة أولاد الأنبياء، و مبيري عترة الأوصياء، و ملحقي العار بالنسب، و مؤذي المؤمنين، و صراخ أئمة المستهزئين (الذين جعلوا القرءان عضين) [1] (لبئس ما قدمت لهم أنفسهم أن سخط الله عليهم و في العذاب هم خلدون) [2] و أنتم ابن حرب و أشياعه تعتمدون، و عنا تتخاذلون. أجل و الله غدر فيكم قديم، و شجت عليه أصولكم، و تأزرت عليه فروعكم، و ثبتت عليه قلوبكم، و غشيت صدوركم، فكنتم أخبث من ثمرة للناظر، و أكلة للغاصب، الا لعنة الله علي الناكثين الذين ينقضون الايمان بعد توكيدها و الله هم.


الا و ان الدعي ابن الدعي قد ركز بين اثنتين، بين السلة و الذلة، و هيهات منا الذلة، يأبي الله لنا ذلك و رسوله، و حجور طابت و طهرت، و أنوف حمية، و نفوس أبية من أن نؤثر طاعة اللئام علي مصارع الكرام.

ألا و قد أعذرت و أنذرت. ألا و أني زاحف بهذه الأسرة علي قلة العدد و كثرة العدو و خذلان الناصر. ثم أنشد:



فان نهزم فهزامون قدما

و ان نهزم فغير مهزمينا



و ما ان طبنا جبن ولكن

منايانا و دولة آخرينا



اذا ما الموت رفع عن أناس

كلا كله أناخ بآخرينا



فأفني ذلكم سروات قومي

كما أفني القرون الأولينا



فلو خلد الملوك اذا خلدنا

ولو بقي الكرام اذا بقينا



فقل للشامتين بنا: أفيقوا

سيلقي الشامتون كما لقينا



ثم قال:

أما و الله لا تلبثون بعدها الا كريثما يركب الفرس حتي تدور بكم دوران الرحي و تقلق بكم قلق المحور. عهد عهده الي أبي عن جدي رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم (فأجمعوا أمركم و شركآءكم ثم لا يكن أمركم عليكم غمة ثم اقضوا الي و لا تنظرون) [3] (اني توكلت علي الله ربي و ربكم ما من دآبة الا هو ءاخذ بناصيتهآ ان ربي علي صراط مستقيم). [4] .

ثم رفع يديه الي السماء و قال:

«اللهم احبس عنهم قطر السماء، و ابعث عليهم سنين كسني يوسف، و سلط عليهم غلام ثقيف يسقيهم كأسا مصبرة، فانهم كذبنا و خذلونا، و أنت ربنا عليك توكلنا، و اليك أنبنا و اليك المصير). [5] .

كان حريا بهم، و قد وصفهم بما وصفهم به، و كان وصفه لهم دقيقا أن يدفنوا


أنفسهم أحياء أو أن يهربوا منه فلا يواجهوه، و لا يواجهوا كلماته الصادقة التي كان لها نفاذ السهام و تأثيرها، لو أنهم كانوا أحياء، لكنهم كانوا موتي، و كانوا صرعي القوة الأموية الغاشمة التي أخذتهم بالقهر و الخداع.

كان زخم الحقائق الواردة في تلك الخطبة أكبر من أن يواجهه أناس ذوو حس و ضمير و ارادة، و كانت كل جملة تظهر مجموعة من تلك الحقائق التي كانوا هم أعرف الناس بها لأنها تصف حالهم و أوضاعهم.

فهم الذين استنجدوا بالحسين عليه السلام لينقذهم ضدها، و لينشي ء منهم قوة عقائدية تكمل مسيرة أصحاب الرسول صلي الله عليه و آله و سلم و أصحاب أبيه أميرالمؤمنين عليه السلام.

و هم الذين نكثوا وعودهم و تراجعوا عنها و غدروا به، و أصبحوا مع عدوهم و عدوه، مع أنه وليهم و هو الوحيد من بين أبناء الأمة الذي كانت تهمه مصالحهم و يهمه مستقبلهم أما لماذا تراجعوا عنه و وقفوا في صف عدوهم و عدوه؟

هل كانوا يرجون أن تفشي الدولة الظالمة عدالة الاسلام، و هي أبعد ما تكون عنه، لتحقق لهم السعادة و الرخاء و الطمأنينة؟ و هل أنها حقا الأمل الذي يحقق لهم الهناء المنشود؟

ألم تقم هذه الدولة علي حساب الأمة المظلومة المغلوبة لتشيد للمترفين صروحا من جماجم و أشلاء المظلومين و المغلوبين؟

أليسوا هم الذين ظلموا حقا، و لم يكونوا سوي أدوات بيدها تقهر عدوها و كل معارض لها.

هل كانوا يدافعون عن مصالحهم الحقيقة اذ يقفون الي جانبها ضده؟

أم أن جل ما كانوا يطمعون منها مجرد خسيس عيش و فتات ضئيلة يلتقطونها من علي موائدهم و من فضلاتهم؟

ما الذي حدث في تلك الفترة القصيرة الواقعة بين دعوتهم له و بين حضوره اليهم ليغيروا رأيهم، و هي فترة لا تتجاوز عدة أشهر؟

أليس الحسين هو الحسين نفسه؟

و ها هو يقدم بناء علي دعوتهم اياه؟


و اذا ما كانوا قد أضمروا التراجع و الهرب و الاستسلام، و اذا ما كانت نفوسهم خائرة الي تلك الدرجة، فلماذا كتبوا اليه و حملوه المسؤولية أمام الدولة كلها؟

ماذا سيكون رأي الأمة به لو لم يقدم عليهم لمقاومة الظلم و الانحراف؟

ستقول ان أهل الكوفة كانوا صادقين في عزمهم علي التصدي لدولة الظلم و أن الحسين عندما لم يستجب لها، و قد خذلها، و ستحمله مسؤولية الهزيمة و التراجع و كل ما سيرتب عليها بعد ذلك.

ألم يحدث كل هذا بسببهم و أنه سيلاقي و منهم هم بالذات، بسبب تلك الدعوة و قد كان بامكانهم أن لا يدعوه و السيف لا يزال في غمده، و هو لم يعلن ثورته بعد، و لم تكن الدولة لتتصدي له بذلك العنف بعد أن علمت بأمر استجابته لدعوتهم و توجهه اليكم؟

كان الحسين عليه السلام يعلم أنهم لن يثبتوا أمام الغشم الأموي، و أنهم سيتخلون عنه بمثل السرعة التي دعتهم لاستدعائه و توجيه مئات الرسائل اليه.

أسرعوا كطيرة الدبي، و تهافتوا كتهافت الفراش الضعيف الذي لا يصمد أمام النار و أمام القوة.

كانوا و قد تجردوا من الارادة قد أضمروا منذ البداية نقض وعودهم و التراجع عنه، و كانوا بذلك يلهون و يلعبون، و كأن المسألة كلها كانت لهوا و لعبا،

فهم عبيد الأمة الذين لا يملكون دفع الأذي عن أنفسهم و لا يملكون حرية القرار و التصرف، و هم شذاذ الأحزاب الذين لا يشكلون قوة معروفة الدوافع و الأهداف و التوجهات، و قد يكونون بعد حين أعداء لبعضهم، اذ لم تجمعهم حول الظالم سوي قوته و بطشه و قد حققوا أهدافه بينما لم يكن لهم هدف سوي الحفاظ علي أنفسهم و حمايتها من تلك القوة و ذلك البطش.

و هل كانوا حقا مثل جيوش الاسلام الأولي التي تجمعها وحدة الهدف و حب الله و الحرص علي الاسلام؟

و هل كانوا علي الأقل مثل تلك الأحزاب التي اجتمعت علي حرب الاسلام، و كانت تتبني أهدافا معروفة قوامها مصالحهم الشخصية و الحفاظ علي حياة الترف التي نالوها في ظل الانحراف؟


أم أنهم قطيع كبير من العبيد، يتراءون من بعيد، و قد فسحوا مجالا لشمر و ابن حوزة و ابن الأشعث و كثير الشعبي و عمرو بن الحجاج ليتلاعبوا بهم و يوجهوهم و يكونوا قادتهم و أسيادهم؟

فهم نبذة الكتاب العزيز الذي أمر الله باتباعه و السير علي نهجه و صراطه، و قد نبذوا نهجه و تركوا صراطه.

و هم محرفوا الكلم و قد آثروا أن يسيروا خلف القيادة التي جعلت هدفها تأويل القرآن علي هواها و دس عشرات الأحاديث المكذوبة علي لسان رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم، و طمس عشرات الأحاديث الصحيحة و منع تداولها و معاقبة من يفعل ذلك.

و هم نفثة الشيطان اذ لم يعرفوا الي الله و الي أوليائه سبيلا،

و هم عصبة الآثام اذ كانوا يدا للظالم و عونا له،

و هم مطفئوا السنن، و قد تركوا سنة الرسول صلي الله عليه و آله و سلم و ساروا علي سنة معاوية و يزيد رغم علمهم بأنهما من أشد خصوم الاسلام

و هم قتلة أولاد الأنبياء و مبيري عترة الأوصياة اذ يقدمون و كأنهم يقومون بأمر بسيط عادي علي قتله و ابادة أهل بيته

و ملحقي العار بالنسب، و ها هو قائدهم نفسه، ادعي نسبا لم يكن له، ضاربا عرض الحائط بقوانين الاسلام و أحكامه الواضحة.

و قد تعرضنا في سيرة زياد الي تلك المهزلة التي رتبها معاوية عندما ألحقه بأبيه أبي سفيان، و كيف سكتت الأمة عنها و رضيت أن يكون زياد قائدا كبيرا من قوادها و رضيت أن يكون ابنه عبيدالله قائدا كبيرا آخر، و تسير خلفه لقتل الحسين عليه السلام ابن آخر الأنبياء و سليلهم و خاتمهم.

ثم أليسوا هم مؤذي المؤمنين؟

و صراخ أئمة المستهزئين بالاسلام و رسوله و قادته الحقيقيين من آل بيته؟

عندما ارتضوا السير خلف معاوية و يزيد و أتباعهما و أشياعهما؟

و تخاذلوا عنه و لم يثبتوا علي موقفهم الذي أعلنوه من قبل؟

فهم غدر قديم فيهم، و شجت عليه أصولهم، و تأزرت عليه فروعهم، و ثبتت عليه قلوبهم و غشيت صدورهم، فكانوا أخبث ثمر شجي للناظر، و أكلة للغاصب.


كان هو الذي ينذر، بعد أن أراهم واقعهم، و كان يتوجه اليهم بحس الاسلام الصافي و بيانه المبين، و يأمل ايقاظهم و انتشالهم.

كان يبدو و كأنه هو الذي يحف به جيش كبير يحميه و يدافع عنه،

و كان يبدون في عينيه قلة ضعافا، و بحاجة الي رعاية و نصح و توجيه، كانوا قاصرين، بكل ما تعنيه هذه الكلمة من معان، طالما أن عقولهم كانت قاصرة، و ان ارادتهم كانت ضعيفة و كانوا متخاذلين مستسلمين للطغاة المترفين الذين يتحكمون بهم و بمصائرهم و مقدراتهم، و قد ارتضوا الذلة و الهوان.

أما هو فلم يترض ذلك، كما لم يرتضه أهل بيته و أصحابه،

يأباه له الله و رسوله صلي الله عليه و آله و سلم و المؤمنون، و يأباه له طيب المنبت و طهر المولد، و تأباه له عزة الاسلام التي أرادت لكل مسلم أن يكون مدافعا عنه بحمية و غيرة.

و قد عزم علي مواجهتهم بعد أن انحازوا الي جانب عدوهم و ارتضوا أن يكونوا من جنده رغم قلة عدد أفراد أسرته و أصحابه، و رغم كثرتهم و كأنهم لم يكونوا بعينه شيئا.

و حتي الأبيات التي رددها في ذلك الموقف كانت توحي بأشياء عديدة، فان هذا الموت الذي ينزل به و بأصحابه في ذلك الموقف الذي بدا فيه و كأنه يخسر معركته معهم، يبدو مصيرا سعيدا لمن كان يحمل قضيته العادلة و يدافع عنها، ثم هو في النهاية أمر محتم، لابد أن يلاقي الجميع،

فحسبهم فخرا و تبجحا و شماتة، فأنهم سيلقون ما يلقي هو و أصحابه الآن، و سيكون موتهم مدخلا لنار جهنم، كما أن موته سيكون مدخلا الي جنان الخلد، و شتان بين الجنة و النار.

و شتان بين العيش في رحاب الله مهما كان حكمه و قضاؤه و هو عادل علي أي حال، و بين العيش في ظل الظالمين الذين لا يرون الا أنفسهم و مصالحهم و ملذاتهم.

و قد رأي بعين البصيرة الواعية، و العلم الأكيد عن جده رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم، أن حالهم لن يدوم هكذا في ظل دولة الظلم، و أنهم سيقاسون الولايلات و المتاعب بعد قتله بقليل، و أن الدنيا ستدور بهم دوران الرحي و تقلق بهم قلق المحور، و لن يستقر لهم حال أو يهدأ لهم خاطر.


لقد تقبل أمر قتله بثبات و صبر، طالما أن ذلك كان في سبيل الله و في سبيل هذه الأمة التي لم يقدر لها أن تعيش أجواء الاسلام النقية، و أن تبعد عنه بعد سنوات قلائل من رحيل رسولها الأكرم صلي الله عليه و آله و سلم عنها.

و اذ حاول اقناع هذه الفئة الضالة بأن موتها رهين بموته، كما أن حياتها كانت رهينة بحياته و وجوده و بقائه، و اذ رفضت الاستجابة له و الانصات لكلماته و السير خلفه، فانه توجه بالدعاء الي الله يسأله أن يعاجلهم بالعقوبة حتي لا يكونوا مثلا سيئا لأجيال الأمة المقبلة، و أن لا يتمتعوا بظلمهم و غدرهم و جبنهم حتي يكونوا عبرة لكل ظالم غادر جبان.

كان حريا بتلك الكلمات المنتصرة لله و دينه و رسوله أن تعيدهم الي صوابهم و رشدهم، و تجعلهم يدركون عمق الهوة التي كانوا ينزلقون اليها و هم يتخلون عن الاسلام، و لما يمض نصف قرن عن رحيل رسولهم الكريم صلي الله عليه و آله و سلم عنهم.

و بكل ما كان في تلك الكلمات من مضاء و قوة و نفاذ، فقد كانت أيضا كلمات مؤدبة لم تخرج عن حدود القرآن و بيانه و قاموسه.

و طالما حذر القرآن المشركين و المنافقين و أعداء الله و رسوله بكلمات مثل هذه الكلمات، و طالما حاول تنبيه الضالين و ارشادهم و توعيتهم و اعادتهم الي الحياة.

و كان بيان الحسين عليه السلام بينا قرآنيا خالصا ملتزما بحدوده و أدبه و كلماته، ولكن أني للقلوب التي رفضت القرآن و أبت أن تستمع اليه، أن تستجيب لكلمات الحسين عليه السلام، و قبلها أبت أن تستمع لجده رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم و أبيه أميرالمؤمنين عليه السلام.


پاورقي

[1] الحجر: 91.

[2] المائدة: 80، و ربما قرأ تمام الآية عليهم و قد اختصرها الرواة أو المؤرخون، و تمامها... (تري کثيرا منهم يتولون الذين کفروا لبئس ما قدمت لهم أنفسهم أن سخط الله عليهم و في العذاب هم خلدون).

[3] يونس: 71.

[4] هود: 56.

[5] الخوارزمي 8 / 7 / 2، و اللهوف لابن‏طاووس 42 / 41، و ابن‏عساکر الجزء الخاص بريحانة الرسول (3) المستل من التاريخ العام ص 218، و بحارالأنوار، المجلسي 10 / 8 / 45، و جلاء العيون 177 / 2، و مقتل الحسين، السيد محمد تقي بحر العلوم 380 / 378.