بازگشت

الحسين يفيض رقة و عذوبة


و تكشف حواراته العديدة مع ابنه علي الأكبر و أخيه العباس و أخته زينب و بقية أصحاب و أهل بيته رقة أخلاقه و طيب شمائله، بل أنه كان يفيض رقة و عذوبة عند حديثه معهم، و كان حبه اياهم حبا في الله تعالي.


و حتي مع أعدائه لم تكن أي نبرة للكراهية تلوح في نبرات صوته أو ثنايا حديثه، و لعل الأسف علي أولئك الذين جعلوا أنفسهم في موضع أعدائه هو ما كان يشعر به حقا. فهو كان يتبني قضية الدفاع عن الاسلام و عن الأمة الاسلامية المظلومة المضللة، بما فيها أولئك المخدوعين السائرين في ركابها، و كان يري أنهم يسعون لمصيرهم البائس دون أية محاولة جادة لتخطيه أو تجاوزه، و ذلك ما كان يحزنه.

فهو لا يسعي الي كسب شخصي أو يخوض غمار معركة ستعود عليه بنفع دنيوي، و انما كان الأمر عكس ذلك تماما، و أولئك الذين تقدموا لحربه و قتاله ربما فهموا المسألة فهما خاطئا، و ربما ضللت غالبيتهم و سيقت بالقوة لمقاتلته.

فلم يكن هو المستهدف شخصيا بقدر ما كانت الأمة كلها مستهدفة بظلم النظام المنحرف، و بقدر ما كان الاسلام نفسه مستهدفا، و لو أن رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم تصدي ليزيد أو معاوية لما لقي الا الذي يلقاه هو الآن.

أي أسي يثيره في نفسه موقف هذه الأمة المتخاذلة المهزومة، و أي حزن يثيره مصير أولئك البائسين و هم يرفضون فكرة الانضمام اليه و التخلي عن قتاله رغم دعوته الواضحة لهم، و بياناته و خطبه التي أوضح فيها سبب ثورته علي النظام المنحرف.

لقد جرت مواقف عديدة سالت فيها دموع الحسين عليه السلام، و تفجر فيها قلبه بالحزن، لقد بكي أصحابه الذين سبقوه للموت، و بكي عند كل مشهد تعرض فيه أحدهم للقتل و الأذي، و بكي عند كل موقف شعر أن شخصا منهم كان مكروبا أو حزينا.

ففي (زرود) عندما ورده نبأ مقتل ابن عمه مسلم، استدعي ابنته الصغيرة التي لم تبلغ الحلم بعد و جعل يلاطفها، و لعله لم يرد أن تفاجأ بخبر مقتل أبيها فأراد أن يبلغه اياها برفق، و قد شعرت الطفلة أنه كان يعاملها دون الصغار برقة استثنائية و عندما تسائلت:

(يا عم أراك تعطف علي عطفك علي الأيتام، أفأصيب أبي مسلم؟

و هنا تفجرت الدموع من عيني الامام) و أجابها:

يا بنية لا تحزني، فلئن أصيب أبوك فأنا أبوك و بناتي أخواتك). [1] .


لقد عظم عليه المصاب، و اشتد به الحزن، و لم يرد لعواطفه النبيلة الا أن تظهر أمام تلك الطفلة المفجوعة.

كان الحزن النبيل لمصائب الآخرين يغلف سلوكه و يطبع تصرفاته.

و بقدر ما كانت آلام طفلة مفجوعة تفجر الأسي في قلبه، و الدموع في عينيه، فانه كان يقف كالحديد الصلد بمواجهة أعدائه، لا تبهره كثرتهم و لا يخيفه سلاحهم و لا تهديدهم اياه بالقتل، و كان يرمقهم بثبات و يحاورهم بثقة من يعلم أنه علي حق و أنهم علي باطل.

كانت كلماته لأخته زينب، عندما أخبرها بأنه رأي جده رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم في المنام و أخبره أنه صائر اليه عما قريب، و عندما لطمت وجهها و نادت: يا ويلتاه، تفصح عن حبه لها و رغبته أن يجنبها أمثال هذا الموقف في المستقبل و يعدها لتقبل موته، و الافادة من المسألة كلها لصالح الاسلام.

قال لها:

(ليس لك الويل يا أخية، اسكتي رحمك الله لا تشمتي بنا القوم، فسكتت). [2] .

لم يزجرها و لم يكلمها بعصبية، كما هو متوقع من غيره الذين قد يكونون بذلك الموقف، و انما حاول تهوين المصيبة عليها، و قد رأي كيف سيكون حالها بعده و بعد مقتل آل بيته و أصحابه، و هي مصيبة هائلة أني لنساء محزونات ثكلات أن يتحملنها.

و قد تكرر هذا الموقف عدة مرات، فكان هو الذي يهون عليها مصيبة قتله، و لعل منظرها و منظر عياله بعد قتله كان أشد مصيبة عليه من قتله، و كان يحزنه ما سيحل بهم بعده و هم يواجهون طغمة مجنونة، أذهب برشدها منظر الدم الذي سيريقه بعد قليل، و قال لها:

(يا أخية اني أقسم عليك، فأبري قسمي، لا تشقي علي جيبا، و لا تخمشي علي وجها، و لا تدعي علي بالويل و الثبور اذا أنا هلكت). الطبري 316 / 3.

كان يريد اعدادها لتقبل المصيبة، فلا يكون وقع المفاجأة عليها قويا، و كان يريدها أن تستعد لاحتضان النسوة المفجوعات و الأطفال المذعورين، و تخفيف وطأة


المصيبة عليهم و رعايتهم في رحلة العودة الطويلة الي الحجاز، و هم يواجهون الجزارين و القتلة، و قد فعلت زينب ذلك فكانت هي التي تسلي المحزونين و المكروبين منهم.


پاورقي

[1] مقتل الحسين للسيد محمد تقي بحرالعلوم، ص 248، نقلا عن أسرار الشهادة للدربندي.

[2] الطبري 314 / 3، و اللهوف ص 38، و دار السلام للميرزا النوري 75 / 1، و نهاية الأرب 432 / 20.