بازگشت

مناجاة الصابرين


كانت مناجاته الأخيرة مع الله، تنسجم غاية الانسجام مع توجهاته و أفعاله و مواقفه في الطف و قبلها، و في كل فصول معركته مع الدولة الأموية الظالمة.

لقد كان يتوقع كل ما حل به في الطف، بل أنه أخبر بذلك عن جده صلي الله عليه و آله و سلم، و أصبح ذلك أمرا واقعا لا محالة، و لعله كان يترقب ذلك اليوم الهائل الذي ستتاح له فيه لفت نظر الأمة الي واقعها المخزي في ظل أعداء الاسلام، و يعد نفسه لتقبل كل ما سيحدث له فيه مادامت مهمة تغيير الأمة و اصلاحها لا تتم الا به، و لعله في هذه اللحظة الأخيرة التي يتم فيها آخر فصل من صراعه مع دولة الظلم، يشعر براحة عميقة و قد استطاع الثبات و مواصلة المعركة معها، و قد أوشك أن يجني ثمار صبره و تحمله و صموده و تقبله لكل ما سيحل به، رغم أنه لن يكون يسيرا بل هائلا، لا يصمد له أشد الناس ثباتا و جلدا.

و هكذ رفع طرفه للسماء قائلا:

(صبرا علي قضائك يا رب لا اله سواك يا غياث المستغيثين). [1] .

و عن مصباح المتهجد للطوسي و اقبال ابن طاووس، و مزار البحار، باب زيارته يوم ولادته أنه:

(لما اشتد الحال بالحسين عليه السلام، رفع طرفه نحو السماء و قال: «اللهم متعالي المكان، عظيم الجبروت، شديد المحال، غني عن الخلائق، عريض الكبرياء، قادر علي ما تشاء، قريب الرحمة صادق الوعد، سابغ النعمة، حسن البلاء، قريب اذا دعيت، تحيط بما خلقت، قابل التوبة لمن تاب اليك، قادر علي ما أردت، تدرك ما طلبت، شكور اذا شكرت، ذكور اذا ذكرت، أدعوك محتاجا و أرغب اليك فقيرا،


و أفزع اليك خائفا و أبكي مكروبا، و أستعين بك ضعيفا، و أتوكل عليك كافيا، اللهم احكم بيننا و بين قومنا، فانهم غرونا و خذلونا، و غدروا بنا و قتلونا، و نحن عترة نبيك و ولد حبيبك محمد صلي الله عليه و آله و سلم الذي اصطفيته بالرسالة، و أئتمنته علي الوحي، فاجعل لنا من أمرنا فرجا و مخرجا يا أرحم الراحمين»). [2] .

كان هذا هو نداء الحسين الأخير، صبرا علي قضائك يا رب. لقد صبر و وفي طيلة حياته، و لم يخضع للضغوط و التهديدات سواء من قبل معاوية أو يزيد، و لم يهادن أو يساوم أو يستسلم كما فعل غيره، و بالتأكيد فان آلام اللحظة الأخيرة لم يكن مصدرها خوفه علي حياته، و قد علم أنه سيقدمها جثة هامدة بين يدي يزيد، و قد علم أيضا أنها لن تنهض من كبوتها و سباتها الا بمزيد من التضحيات و الدماء الزكية.

لقد رأي أن موكب الشهادة سيطول، و سيستمر سيل الدماء، و ستستمر المواجهة بين الأمة و أعدائها الطغاة الذين تسلطوا علي عروشها و تلاعبوا بمقدراتها.

كان صريعا مضرجا بدمه، يجود بنفسه، و قد أحاط به أعداؤه، الذين تجردت قلوبهم من الرحمة، و كأنهم لم يكونوا مسلمين، أو لم يكن أحد فيهم مسلما علي حد تعبير زينب، و حتي في تلك اللحظات، لم يتركوه لمصيره الذي سيواجهه بعد قليل، و قد سارع عمر بن سعد بتحريضهم عليه ثانية، و سارع الشمر اثر ذلك بالنزول اليه، كأن ثأرا شخصيا كبيرا بينهما، فضربه برجله، و ألقاه علي قفاه، و أخذ بلحيته و ضربه بالسيف عدة ضربات، ثم حز رأسه و دفعه الي خولي بن يزيد و أمره أن يحلمه الي ابن سعد، و قد ضرب قبل ذلك بالسيوف، و قد ذكر عن الامام جعفر بن محمد الصادق عليه السلام قوله:

(وجد بالحسين عليه السلام حين قتل ثلاث و ثلاثون طعنة، و أربع و ثلاثون ضربة). [3] .


و اثر مقتله قامت هجمة أخري لسلب ما عليه و ما كان يملكه، و قد شارك بعملية السلب هذه قائد جيش ابن زياد، عمر بن سعد الذي أخذ درعه البتراء، و أحد قادته قيس بن الأشعث الكندي، الذي أخذ قطيفته، و كانت من خز و كان يسمي بعد قيس قطيفة، و أخذ جميع بن الخلق الأودي سيف، و أخذ بجدل بن سليم الكلبي خاتمه الشريف، و قد جمدت عليه الدماء فقطع اصبعه مع الخاتم، و لم ينج من عملية السلب حتي الثوب الخلق الذي جعله تحت ثيابه لئلا يسلبه، و سراويله و نعلاه.

(و مال الناس علي الورس و الحلل و الابل و انتهبوها، و مال الناس علي نساء الحسين و ثقله و متاعه، فان كانت المرأة لتنازع ثوبها عن ظهرها، حتي تغلب عليه فيذهب به منها). [4] .

و ليت الأمر اقتصر علي السلب و النهب، فقد سارع ابن سعد بتلبية أوامر ابن زياد و نادي في أصحابه:

(من ينتدب للحسين يوطئه فرسه، فانتدب عشرة، فأتوا فداسوا الحسين بخيولهم حتي رضوا ظهره و صدره). [5] .

أي ابتهاج تركه مصرع الحسين عليه السلام في نفوس قاتليه و أعدائه، و أية هجمة مجنونة تعرض لها و هو يجود بنفسه مضرجا بدمه، و تعرضت لها حرمه و أطفاله. و أي حنق مسعور جعل أولئك القتلة يبدون ذلك القدر الكبير من التشفي و الانتقام.

لا شك أن هؤلاء من أمة لا تنتمي لمحمد صلي الله عليه و آله و سلم، و لا تدين له بالحب و الولاء، أمة قد ماتت و أوشكت علي الاندثار، و يجب أن تنهض علي أشلائها أمة جديدة، تنتمي لمحمد صلي الله عليه و آله و سلم حقا، أمة اسلامية دستورها القرآن و منهجها منهج رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم و سنته، لا منهج معاوية و يزيد و من سيعقبهما من الظلمة و الطواغيت و الفراعنة.


و لا شك أن تصرفهم مع الحسين عليه السلام بذلك الشكل المخزي، سيثير انتباهنا علي الدوام، و يجعلنا ندرك أنهم لم يقاتلوا من أجل الاسلام و وحدة المسلمين كما زعموا، و أنما كانوا أدوات طيعة بيد يزيد و أعوانه، يضربون بها كل عدو لسلطانهم و دولتهم.

و ان المدافع الوحيد عن الاسلام كان هو الحسين عليه السلام، و قد تصدي بوضوح و ثبات بوجه دولة الظلم و الانحراف الأموية، و كان دمه المراق علي أرض كربلاء شاهدا علي عظم تضحيته في سبيل الاسلام، الذي لم يدن أو يعترف الا به، و لم يكن أمامه غيره في أية مرحلة من مراحل حياته.

و كان صبره علي الموت قتلا دليلا علي اعتزازه بالاسلام، و حرصه علي أن تتمسك الأمة كلها به، و لا تفوتها فرصة ذلك، بل الفرصة الوحيدة في هذه الحياة الدنيا، فالحياة ستنتهي علي أية حال، و بأي شكل من الأشكال، و علي كل فرد منها أن يقدم كل ما لديه في سبيل الاسلام،

و قد شهدوا جميعا كيف أنه قدم كل ما لديه، و أعز ما لديه، و كان في مقدمة السباقين لذلك.



پاورقي

[1] أسرار الشهادة للدربندي: 443.

[2] مقتل الحسين عليه‏السلام، السيد محمد تقي بحر العلوم: 451.

[3] الطبري 334 / 3، و البلاذري في الأنساب، و حول قيام الشمر بقتله و حز رأسه الشريف راجع الخوارزمي 36 / 2، و المجلسي 56 / 45، و قد ورد في الطبري و النويري 459 / 20، أن الذي ذبحه و احتز رأسه هو سنان بن أنس بن عمرو النخعي، و قد دفعه الي خولي بن يزيد، قال الطبري (و جعل سنان بن أنس يدنو أحد من الحسين الا شد عليه مخافة أن يغلب علي رأسه حتي أخذ رأس الحسين فدفعه الي خولي).

[4] الطبري 334 / 3، و اللهوف ص 54، و المناقب 111 / 4، و الارشاد ص 258، و البلاذري 204 / 3، و ابن‏الأثير 295 / 3، و الخوارزمي 38 / 2، و النويري 459 / 20، و شرح الشافية لأبي‏فراس ج 2 ص 2.

[5] الطبري 335 / 3، و ابن‏الأثير 296 / 3، و الخطط المقريزية 288 / 2، و البداية و النهاية 189 / 8، و تاريخ الخميس 333 / 3، و أعلام الوري للطبرسي ص 888، و روضة الواعظين للقتال ص 186، و أنساب البلاذري 204 / 3، و نهاية الأرب للنويري 463 / 20.