بازگشت

صبر الحسين في اللحظات الأخيرة من المعركة


كانت لحظاته الأخيرة حافلة بالكفاح و المواجهة، و لا ندري كيف نستطيع تصور مشهد يقوم فيه رجل واحد بمواجهة عشرات الآلاف من أعدائه المتعطشين لدمه، فلا يتخاذل أمامهم و لا يتراجع أو يضعف أو ينكل و انما يقدم علي حربهم و اشهار سيفه بوجوههم بقوة و صلابة منقطعة النظير.

كان يري أنه مقتول، و ان المشاهد الأخيرة من المواجهة ستسجل بكل دقة، حتي من قبل بعض أفراد ذلك الجيش المعادي، فلتكن اذا مشاهد جديرة بالبقاء، ولتكن مشاهد جديرة بالاعجاب و الخلود، و لتمثل أمام أبناء الأمة دائما كمشاهد قدوة يطمح كل واحد أن تتاح له فرصة وقوفها ليجد نفسه في موقع الضوء، و في موقع الاعجاب من قبل الأمة المسلمة كلها، و في موقع الرضا التام من قبل الله عزوجل.

و نعود الي شهادة أحد أعدائه الذين بهرهم مشهد بطولته و صموده و صبره، قال عبدالله بن عمار، و هو أحد المشاركين بالحرب ضمن جند ابن زياد:

(فوالله ما رأيت مكسورا قط، قد قتل ولده و أهل بيته و أصحابه أربط جأشا و لا أمضي جنانا و لا أجرا مقدما منه. و الله ما رأيت قبله و لا بعده مثله، ان كانت الرجالة لتنكشف عن يمينه و شماله انكشاف المعزي اذا شد فيها الذئب). [1] .

لم يستطيعوا قتله الا بعد أن حملوا عليه من كل جانب، ولكنه مع هول الموقف لم ينس حماية أهله و حرمه من طغامهم و جهالهم، و قد صاح فيهم بعد أن جرح و أصيب اصابات بالغة:


(ويلكم، ان لم يكن لكم دين، و كنتم لا تخافون يوم المعاد، فكونوا في أمر دنياكم أحرارا ذوي أحساب، امنعوا رحلي و أهلي من طغامكم و جهالكم). [2] .

كان قول الحسين عليه السلام اقرارا لحقيقة ثابتة: فالقوم ليس لهم دين و لا يخافون يوم المعاد، أنهم لا يرون بأسا من وصمهم بذلك، طالما أنهم يعلمون أنهم كانوا كذلك فعلا، و طالما أن أمرا واحدا كانوا فخورين به فعلا، و هو انقيادهم و طاعتهم لحكام الانحراف و أبطال الجهالة الأموية المتسلطة.

لم ير الحسين عليه السلام سوي مجال واحد قد يستطيع به منعهم من العدوان علي أهله و حرمه، و هو اعطاؤهم الفرصة للتفكير بأحسابهم، اذ لم يكن العرب في أي وقت حتي في جاهليتهم الأولي ليقدموا علي الاعتداء علي النساء و الأطفال و كانت لهم تقاليد عريقة تجعل من ذلك الاعتداء بأي شكل من الأشكال وصمة عار لا تمحي للأبد.

و مع ذلك (مال الناس علي الورس و الحلل و الابل و انتهبوها، و مال الناس علي نساء الحسين و ثقله و متاعه، فان كانت المرأة لتنازع ثوبها عن ظهرها حتي تغلب عليه فيذهب به منها). [3] .

و بذلك أثبتوا أيضا أنهم لا ينتمون الي الاسلام الذي جاء به محمد صلي الله عليه و آله و سلم، و ان حاولوا الانجراف وراء (الاسلام الأموي) الذي جاء به معاوية، و ربي أجيالا من الناس علي تعاليمه و قيمه، و أثبتوا أنهم لا ينتمون الي قيم العروبة التي نشأت عليها أجيال قبلهم حتي في زمن الجاهلية، و التي كان قسم منها لا يتعارض مع قيم الاسلام و تعاليمه، كما أثبتوا أنهم لا ينتمون الي القيم الانسانية التي ترفض العدوان و الشر.

و كان علمهم هذا كاف لتعريتهم أمام الأمة كلها، و اظهارهم علي حقيقتهم و كشف نواياهم و دوافعهم للتصدي للحسين عليه السلام بذلك الشكل الوحشي المروع، و هي أمور كافية للفت الأنظار الي مجمل القضية كلها، و التعرف علي الخطر الشديد الذي كان يستهدف الأمة، و التي كان الامام الحسين عليه السلام يريد دفعه عنها، و لو كان ثمن ذلك التضحيات الباهضة التي قدمها في كربلاء.


كان مشهدا مروعا حقا أن تقدم الأمة علي قتل امامها و قائدها الحقيقي، الذي أراد انقاذها من الظلم و الانحراف، و لئن أقدم جيش ابن زياد علي تلك الفعلة المشينة تحت وطأة الخوف و الجهل، فان آلام الحسين لم يكن مصدرها الوحيد تعرضه لذلك العدوان الهجمي في تلك اللحظات التي قل فيها الناصر و المعين، بل كان مصدرها الكبير شعوره بتخليها عن رسالتها ودينها، و قبولها الانسياق وراء العجلة الأموية الكاسحة. أحقا يحدث هذا الأمر بعد مرور نصف قرن فقط من وفاة الرسول صلي الله عليه و آله و سلم، و لما تزل أغراضه الشخصية سليمة لم يصبها التلف و الاندثار؟ هل ألم تعد الأمة تتذكر نبيها صلي الله عليه و آله و سلم، و هل تناست وصاياه و وصايا كتاب الله العزيز بآل بيته و اشادتهما بهم؟

ان أمة تقدم علي قتل ابن بنت نبيها، لا تفعل ذلك ما لم تكن قد تخلت عن الاسلام و نبذته نهائيا، أي مصير محزن سوف تلقاه و هي تنساق ذلك الانسياق الأعمي وراء سلطة الظلم و فراعنة العدوان؟ أتري أن هؤلاء سيتيحون لها فرصة الالتحاق بالركب المحمدي ثانية، أم أنهم سيتمادن في ظلمهم و عدوانهم، و سيرسون قواعد جديدة للحكم و التعامل، يأخذ بها الظالمون و الجبابرة علي مدي التاريخ؟

هل قدر لرسالة محمد صلي الله عليه و آله و سلم أن تقع بيد يزيد، فيتلاعب بها هذا التلاعب المشين؟ و اذا ما كان هذا كله قد حدث في مدي نصف قرن، فكيف سيكون الأمر بعد قرن أو قرنين أو خمسة قرون؟

لابد أن آلام الحسين عليه السلام و هو يشهد اقدام القوم علي حربه و قتاله، و يفكر بما سيحدث للأمة الضعيفة المظلومة المستسلمة، آلام هائلة، ليس بامكان انسان عادي تحملها و الصبر عليها، غير أنه صبر عليها بذلك الشكل الفريد، لأنه علم أن مشاده كربلاء لن تغيب عن ضمير الأمة أو ذاكرتها، و أنها ستستحضر تلك المشاهد، و سيروعها ما راعه و هو يراها تشذ و تنحرف، و ستحاول تصحيح مسيرتها مهما طال الزمن، و ستجد العديدين من أبنائها يقفون موقفه، و يلتحقون بركبه، و سيكون هؤلاء قذي بعين الظالم، و عقبة في طريق ظلمه و عدوانه.

كان يحمل علي القوم و يحاربهم كما لو أن وراءه جيشا كبيرا، و لم يكن يهمل نصحهم و ارشادهم، حتي و هو في لحظاته الأخيرة، انه اذ يحاربهم فانما يحارب


الظلم و الظالمين، و اذ يتوجه اليهم بالنصح فانه يتوجه به الي الأمة المسلمة كلها عبر كل أجيالها، و طالما كان يردد قول: لا حول و لا قوة الا بالله العلي العظيم. [4] .

(كان يقاتل علي رجليه قتال الفارس الشجاع، يتقي الرمية و يفترص العورة، و يشد علي الخيل و هو يقول: أعلي قتلي تحاثون. أما و الله لا تقتلون بعدي عبدا من عباد الله، الله أسخط عليكم لقتله مني، و أيم الله اني لأرجو أن يكرمني الله بهوانكم، ثم ينتقم لي منكم من حيث لا تشعرون، أما و الله أن لو قد قتلتموني لقد ألقي الله بأسكم بينكم، و سفك دماءكم، ثم لا يرضي لكم حتي يضاعف لكم العذاب الأليم). [5] .

انهم اذ يقدمون علي قتله فكأنما يقدمون علي قتل رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم، كان نداؤه فيه رنة تعجب كبيرة (أعلي قتلي تحاثون؟)، كان هو من ينبغي أن تحافظ الأمة عليه و ترعاه، و تحف به لا أن تخذله و تشجع علي قتله.

فهو أكرم خلق الله عنده، لأنه بقية آل الله و آل رسوله صلي الله عليه و آله و سلم، و سيكون سخط الله كبيرا، انهم يقتلون أنفسهم اذ يقتلوه، فهو قائدهم و امامهم الحقيقي و هو من يحرص حقا عليهم، فكيف حصل أن وصلوا الي هذه الحال التي استسهلوا فيها ارتكاب جريمتهم؟

هل أصبحوا آلات صماء بيد الظالم يضرب بعضها ببعض؟ و هل أعطوا الاشارة النهائية لهذا الظالم لكي يستبيحهم، و يتلاعب بهم وفق هواه و مشيئته؟

لقد تخلوا عن الاسلام و عن رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم، و عن القرآن و عن كل ما من شأنه أن يحفظهم من الظالمين و الجبابرة، فأي قانون يحمله هؤلاء الجبابرة غير قانونهم هم؟ و أي قانون هو ذاك؟ أليس هو قانون البطش و الارهاب و العدوان علي مقدرات الناس و حقوقهم؟ فليستعدوا (لقانون) الظالم و أهوائه و جموحه ماداموا قد تخلوا عن قانون الاسلام، و ليستعدوا للهوان و الفرقة و سفك الدماء، ماداموا قد أعطوا ولاءهم للظالم، سلموه قيادهم و مصائرهم، ثم ليستعدوا لعذاب الله و ليصمدوا له ان استطاعوا.



پاورقي

[1] الطبري 334 / 3، و الخوارزمي 38 / 2، و الارشاد ص 257، و البلاذري 202 / 3.

[2] الطبري 333 / 3، و نهاية الأرب 458 / 20، و اللهوف ص 50.

[3] الطبري 334 / 3، و اللهوف ص 55، و مثير الأحزان ص 40، و نهاية الأرب 460 / 2.

[4] اللهوف ص 50.

[5] الطبري 334 / 3، و الخوارزمي 34 / 2، و مقتل العوالم ص 18، و نفس المهموم للقمي ص 189.