بازگشت

صبر السعداء نصبر علي قضائه و يوفينا أجور الصابرين


كانت كلمات الحسين عليه السلام التي كان يرد به علي كلمات الوداع الأخيرة لأصحابه قبيل خوض الجولة النهائية لقتالهم، و قبيل اقدامهم علي الموت، تدل علي ثقته بالمستقبل السعيد الذي ينتظرهم في الجنة، و ايمانه بعدالة القضية التي كان يخوضها ضد النظام الأموي الفاسد.

قال لسعيد بن عبدالله الحنفي الذي تقدم أمامه عند صلاة الظهر يحميه من سهام العدو، و قد سأله: أوفيت يا ابن رسول الله؟

(نعم أنت أمامي في الجنة). [1] .

و قال لأبي ثمامة الصائدي:

(تقدم فانا لاحقون بك عن ساعة). [2] .

(و كان كل من أراد القتال يأتي الي الحسين فيودعه، و يقول: السلام عليك يا


ابن رسول الله، فيجيبه الحسين: و عليك السلام و نحن خلفك، و يقرأ: (فمنهم من قضي نحبه و منهم من ينتظر و ما بدلوا تبديلا). [3] [4] .

كان ايحاء الآية الكريمة واضحا، و كان مشهد الامام الحسين عليه السلام و هو يسمح لأصحابه بالتقدم الي ساحة المعركة و يودعهم الوداع الأخير في هذه الدنيا، لكي يلتقوا بعد قليل في ساحة أخري دائمة النعيم، مشهدا جديرا بايحاء هذه الآية القوي. و اذ كان لابد من الموت الذي قرره الله لجميع الناس و كتبه عليهم دون استثناء، فليكن موتا مستثمرا في تجارة رابحة مع الله عزوجل.

كم كانت تلك اللحظات تحتاج الي شجاعة فائقة، لم يكن قادرا عليها سوي نمط شبيه بأصحاب الحسين عليه السلام، اذ كيف تتاح فرصة مشاهدة ذلك المشهد الفريد الذي يتسابقون فيه علي الموت بين يدي امامهم و قائدهم، بذلك الحماس الذي لا يري الا عند أولئك الذين يرون أمامهم شيئا حقيقيا جديرا بالتضحية، و الا عند أولئك الذين يرون أمامهم مكاسب حقيقية لا تزول و لا تفني، و هل الجنة الا ذلك المكسب الكبير الذي سعي له أصحاب الحسين و تسابقوا اليه؟

كان المشهد يبدو و كأنه مشهد احتفالي سعيد، و قد أوشكت قافلة الحسين الصغيرة علي بلوغ الهدف، و كان من يسير في مقدمة القافلة يشعر أنه أول من سيرتاح، و سيكون في استقبال أصحابه بعد فراق قصير لن يدوم طويلا.

و لا شك أن ذلك سيكون مبعث سعادة كبيرة لأصحاب الحسين عليه السلام، اذ يتقدمونه جميعا، ليستقبلوه جميعا استقبالا حافلا، و لا شك أن سعادتهم ستبلغ أقصاها و قد علموا أن رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم نفسه سيتقدمهم، و سيكون معهم أميرالمؤمنين و الزهراء و الحسن و كل الأنبياء و الصديقين و الشهداء و الصالحين، و ستحف بهم الملائكة في ذلك الموكب البهيج الذي لن يضاهيه موكب آخر.

قال له عمرو بن قرظة الأنصاري قبيل استشهاده، و قد (وقف أمام الحسين عليه السلام يقيه من العدو، و يتلقي السهام بصدره و وجهه:


(أوفيت يا ابن رسول الله؟ قال الحسين: نعم أنت أمامي في الجنة، فاقرأ رسول الله عني السلام، و أعلمه أني في الأثر. فقاتل حتي قتل). [5] .

لقد تكررت حوارات مماثلة بين الحسين عليه السلام و يبني عبدالله و عبدالرحمن الغفاريين، و بين سيف بن الحارث، و مالك بن عبد بن سريع الجابريين، و جون مولي أبي ذر الغفاري، و أنس بن الحرث الكاهلي الشيخ الكبير، و عمرو بن جنادة، الشاب الذي لم يراهق بعد، و حنظلة الشبامي، و غيرهم، و هي حوارات دلت علي يقين الجميع بأهمية المهمة التي تصدوا لها و قدموا أنفسهم في سبيلها، و هي مهمة انقاذ المسلمين من الكابوس الأموي الذي جثم علي الصدور، و الذي كان يعد العدة للبقاء و النمو علي حساب المسلمين.

لقد نجح الحسين عليه السلام في كشف الطبيعة الشرسة للنظام الأموي المتهلف علي البقاء و السيطرة، و كانت نداءاته لأفراد الجيش لكي يغيروا مواقفهم و ينصروه و ينصروا قضيته لا تتضمن ذلك الاستجداء الرخيص للرحمة و العفو، الذي قد نجده عند بعض من يحاصرون و يتعرضون للقتل من قبل عدو قوي متسلح، غير أن الحسين عليه السلام كان متلهفا علي انقاذ أولئك الذين وضعوا أنفسهم موضع المعادي للاسلام، و كان يعلم أن أغلبهم لم يكونوا مقتنعين بتوجهات دولة الظلم، و لا بتلك المجزرة التي كانت تعدها له و لأصحابه، و أنهم كانوا مجبرين علي المشاركة فيها تحت وطأة ضعفهم و استسلامهم و تخاذلهم، و أنهم اذا ما وجدوا الجرأة الكافية للتغلب علي ذلك الضعف، كما فعل أصحاب لهم قبل قليل، كالحر و جماعة آخرين، و انحازوا الي جانبه، فان الموقف سيتغير لا لصالحه هو و حسب، و انما لصالحهم هو و لصالح كل المسلمين.

لقد وجه نداءات عاطفية من شأنها أن تثير النفوس الحساسة المتشربة بالاسلام و مثله و قيمه، نداءات يظل صداها يتكرر دائما، و يعجب من يسمعها كيف أن أولئك القوم الذين سمعوها منه مباشرة لم يستجيبوا لها كما استجاب أصحابهم الذين انضموا اليه رغم علمهم أنهم يواجهون الموت الأكيد لقلتهم.


و اذا ما صحت الرواية التي ذكرت لنا أنه وقف بعد أن قتل جميع أصحابه و أهل بيته مناديا:

(هل من ذاب عن حرم رسول الله، هل من موحد يخاف الله فينا، هل من مغيث يرجو الله في اغاثتنا). [6] .

فان ذلك يشكف لنا حرص الحسين عليه السلام حتي آخر لحظة من حياته لتغيير موقف الجيش، و ان كان ذلك فيما بعد، و جعله يدرك الخطأ الكبير الذي وقع فيه، و جعل كل فرد فيه يراجع نفسه و يحاسبها علي ما ارتكبه في حق آل الرسول صلي الله عليه و آله و سلم.

و لم يكن قيام الحسين عليه السلام بتعريف نفسه و قضيته و تأكيده علي أنه هو من يمثل رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم حقا من الأمور الاعتباطية، التي لا يراد منها سو التأثير العاطفي و حسب، لقد أراد شدهم ثانية الي قضية عادلة يتبناها رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم نفسه، و أرادهم أن يتخلوا عن الظالم الذي استدرجهم بالقوة و بكل وسائل الاغراء لكي يحاربوه.

انه مقتول حتما، و لن يستطيع دفع ذلك عن نفسه مادام مصرا علي عدم المبايعة، و علي رفض النظام الأموي الذي لا ينتمي للاسلام جملة و تفصيلا، و مع ذلك فقد أراد التقليل من حدة الغلواء و الاندفاع التي سيجد أفراد الجيش المعتدي أنفسهم فيها، لكي لا يتمادوا في اعتدائهم علي حرم رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم.

كان لا يحاول اثارة النخوة المجردة من القيم و الدوافع النبيلة، و انما كان يحاول اثارة مشاعر الايمان و الانتماء للاسلام و لرسول الله صلي الله عليه و آله و سلم، و يوجه خطابه علي ذلك الأساس.

عندما كان يحمل طفله الرضيع و يجلسه في حجره و يقبله قبلات الوداع، كان سهم أحد جنود ابن زياد قد جعل هذا الرضيع يسبق أباه الي الجنة، و اذ كان عليهم أن يقدموا له الماء رحمة به في ذلك الموقف الذي كان يتلظي فيه عطشا، لأنه طفل صغير جاء به أهله معهم و لم يكن القرار بيده لكي يأتي أو لا يأتي.

لم يكن هناك أحد أبدي استنكارا لفعلة حرملة بن كاهل الأسدي، بل لعل غالبية من رأي المشهد ابتسم ساخرا و جذلان من رؤيته، فكأن الأمر أمر حفل صيد يتبجح به الصياد بعدد من اصطاد من الطيور و الحيوانات الأخري، و متي ما علمنا أن


الأمر غير جائز حتي في هذا الحال الا لغرض الحاجة الي لحم الضحية فحتي الوحوش لا تقتل الا لتأكل، و لا يجوز لغرض المتعة أو التسلية، أدركنا أن موقف هؤلاء بقتل هذا الطفل و مجموعة أخري من الأطفال الآخرين يخرج بهم من حدود الانسانية نهائيا، و يجعل منهم بنظر الآخرين حتي من أهليهم و ذوي قرباهم مجرد مخلوقات قاسية لا تتمتع بأي قدر من الرحمة، و لا يتيح لهم الادعاء بأي شكل أنهم انما كانوا يدافعون عن قضية عادلة خلف امام عادل كيزيد، كما ادعوا، و أنهم كانوا يحرصون علي وحدة المسلمين و عدم تشتت الأمة الخ.

و الا فأي وحدة للمسلمين كانوا يحافظون عليها بقتل هذا الطفل؟

انهم يثبتون بذلك و عبثهم و انسياقهم غير الواعي وراء أسيادهم و يثبتون أنهم لم يكونوا سوي أدوات صماء بيد هؤلاء الأسياد الذين تجردوا من الرحمة و الانسانية، و لم يكونوا الا أنماطا جديدة متطورة من الفراعنة و الجبابرة الأول.

ان موقفهم مع الأطفال لابد أن يثير أجيال الأمة كلها لا في زمان وقوع الحدث، و انما في كل وقت و حتي يومنا هذا، لأنه يثبت أنهم لم يكونوا يخوضون معركة واضحة المعالم و الأهداف، و انما كانوا يقدمون علي مجزرة بقرار مبيت مقصود، و الا فهل كانت نتيجة المعركة ستتغير علي المدي الآني، اذا ما بقي هؤلاء الأطفال أحياء سالمين؟ و هل رفع هؤلاء الأطفال سيفا أو رمحا، أو رمي أحدهم بسهم حتي يقتلوا تلك القتلة الشنيعة علي يد جند متمرسين بالقتال متدربين عليه؟

أما الحسين عليه السلام، فقد تلقي دم ابنه الرضيع بكفه، و رمي به نحو السماء، ثم قال.

(هون ما نزل بي أنه بعين الله، اللهم لا يكن أهون عليك من فصيل. اللهم ان كنت حبست عنا النصر فاجعله لما هو خير منه و انتقم لنا من الظالمين، و اجعل ما حل بنا في العاجل ذخيرة لنا في الآجل). [7] .

و قد صلي عليه و دفنه مرملا بدمه.


كان يري أن تضحيته كبيرة، و أن عائلته ستلقي آلاما هائلة بفقده، و فقد العديد من أبنائه و ذويه، و أن كل عائلة من عوائل أصحابه ستنكب بفقيدها، و أن هذه الأرواح البشرية التي تزهق ظلما و عدوانا ليست هينة عند الله، بل عزيزة مكرمة.

و مع ذلك فلم تفقده المصيبة و ما يحتمله من مصائب أخري مقبلة صبره، أو رباطة جأشه، مادامت بعين الله و في سبيل تثبيت حكمه و سلطانه، و اقتلاع سلطان الظالمين و الجبابرة.

ان قتلهم الطفل الرضيع سيبين للناس حقيقتهم، و سيكشف الآثار و البراقع التي أخفوا وراءها أنفسهم، و أنهم لم يكونوا أصحاب قضية حقيقية كقضيته هو.

كان يريد عودة الناس الي الاسلام، أما هم فقد كانوا يريدونهم أصحاب قضية حقيقية كقضيته هو.

كان يريد عودة الناس الي الاسلام، أما هم فقد كانوا يريدونهم أن يرتموا في أحضان الشرك و الجاهلية.

أي أناس هوؤلاء الذين يقدمون علي قتل ابن بنت نبيهم، و ابادة أطفاله و تعذيب عائلته و تشريدها؟ و ما هي دوافعهم من وراء كل تلك القسوة المفرطة؟

و هل سيكون لفعلهم هذا أثره علي الأمة؟ و هل لن تتساءل عن طبيعة الدوافع الاجرامية فيما بعد؟

و هي اذا ما تخلت الآن عن الحسين، فهل ستلتحق به مواكب عديدة منها فيما بعد؟

هذا ما كان يريده الحسين عليه السلام، كان يريد عودة الأمة الي الاسلام و بذلك سيتحقق انتصاره، و سينتصر في كل مرة يلتحق فيها موكب جديد بموكبه،

و سيرهق ذلك الظالمين و يقض مضاجعهم.

أما هو، فعلي يقين تام بما ينتظره في الآجل، لأنه أدي واجبه في العاجل أحسن الأداء و أتمه، فليدع ربه أن يتم عليه نعمته و يفرغ عليه صبره ليمضي قويا حتي آخر لحظة من حياته، يتحدي الظلم و الظالمين و يكشف أساليبهم و ألاعيبهم للأمة المقهورة المخدوعة.

كان الحسين عليه السلام رابط الجأش و هو يواجه أعداءه، و كان يري من شواهد


أحوالهم و بعين البصيرة الواعية، أنهم سيعمدون الي أشد الأساليب قسوة و وحشية معه، و أنهم لن يتورعوا عن سلبه حتي و هو صريع لا يملك دفع أذاهم و شرهم.

(و لما بقي الحسين في ثلاثة رهط أو أربعة، دعا بسراويل محققة يلمع فيها البصر، يماني محقق، فمفرزة و نكثة لكيلا يسلبه، فقال له بعض أصحابه: لو لبست تحته تبانا. قال: ذلك ثوب مذلة و لا ينبغي لي أن ألبسه.

فلما قتل أقبل بحر بن كعب فسلبه أياه فتركه مجردا). [8] .


پاورقي

[1] الخوارزمي 17 / 2، و المجلسي 21 / 45، و ابن‏شهر آشوب 103 / 4.

[2] ابن‏شهر آشوب، المناقب 103 / 4، و أبصار العين للسماوي.

[3] الأحزاب: 23.

[4] الخوارزمي 25 / 2.

[5] الخوارزمي 22 / 2،، و ابن‏شهر آشوب 15 / 4، و اللهوف ص 45، و ابن‏الأثير 290 / 3، و البلاذري 192 / 3.

[6] الخوارزمي 32 / 2، و اللهوف ص 49.

[7] الخوارزمي 32 / 2، و تذکرة الخواص لسبط ابن‏الجوزي 144، و الارشاد، و مثيرالأحزان ص 36.

[8] الطبري 333 / 3، و اللهوف 52، و الارشاد 257، و ريحانة الرسول ص 221.