بازگشت

حينما ينطلق الصبر من يقين ثابت الله


كان يقين الحسين عليه السلام بالله يقينا لم يتزعزع في أي وقت من الأوقات، و كان موقفه عن أعوان الظالم المستسلمين موقفا حاسما، و أنهم لم يكونوا هم الذين يحاصرونه و يحيطون به.

لم يتوجه الا لله صبيحة اليوم الذي حدثت فيه المواجهة الحاسمة بينه و بين عدوه، لم ير الا اياه في ذلك اليوم العصيب، و لم تكن وقفته و صموده و صبره الا في


سبيله، فهو وحده من يجب الخضوع له و الاستسلام لأمره و حكمه. رفع يديه بالدعاء، و دعاؤه جدير بأن يلتفت اليه و يدرس دراسة واعية متبصرة، و كلماته جديرة بأن تردد في كل موقف عصيب يتسلط فيه الظالمون و يتغلبون و يسيطرون علي الأمة المستضعفة المهانة الذليلة.

(الهي أنت ثقتي في كل كرب، و رجائي نفي كل شدة، و أنت لي في كل أمر نزل بي ثقة وعدة، كم من هم يضعف فيه الفؤاد، و تقل فيه الحيلة، و يخذل فيه الصديق، و يشمت فيه العدو، أنزلته بك و شكوته اليك، رغبة مني اليك عمن سواك، ففرجته و كشفته، فأنت ولي كل نعمة و صاحب كل حسنة، و منتهي كل رغبة). [1] .

كانت ثقته بالله كفيلة بجعله يتغلب علي كل المصاعب و يواجهها بحزم و قوة و صبر، فلم يكن ينظر للحياة نظر المطمئن اليها، و علي أنها فترة عابرة، طالت أم قصرت بمكن أن يجتازها امرؤ بنجاح دون زاد حقيقي من التقوي و الطاعة المطلقة لله جل و علا، و كان حتي آخر لحظة قبيل بدء القتال ينقل تصوراته الي من نصبوا له العداوة و الحرب، و يحثهم علي العودة الي صوابهم و الي أفق الاسلام و الي الله، و رفض الواقع الذي فرضه بنوأمية بالقوة، بالتعاون مع اتباعهم و أشياعهم و كل الأحزاب و الفئات المنتفعة منهم.

قال لهم قبيل توجهه بهذا الدعاء الذي ذكرناه:

(يا عباد الله، اتقوا الله، و كونوا من الدنيا علي حذر، فان الدنيا لو بقيت لأحد أو بقي عليها أحد، لكانت الأنبياء أحق بالبقاء، و أولي بالرضاء و أرضي بالقضاء، غير أن الله تعالي خلق الدنيا للفناء، فجديدها بال، و نعيمها مضمحل، و سرورها مكفهر، و المنزل قلعة و الدار تلعة، فتزودوا فان خير الزاد التقوي، و اتقوا الله لعلكم تفلحون). [2] .

و اذ أنه لم يتوقع منهم الاستجابة المطلوبة لنصائحه و توجيهاته في ذلك الظرف الدقيق، فانه واجههم بذلك، و كان بذلك يلفت نظرهم بشدة الي حالهم البائسة التي أصبحوا فيها مجرد أدوات صماء بيد السلطة الظالمة قائلا لهم:


(اسمعوا قولي و لا تعجلوا حتي أعظكم بما هو حق لكم علي، و حتي أعتذر لكم من مقدمي عليكم، فان قبلتم عذري و صدقتم قولي و أعطيتموني النصف كنتم بذلك أسعد، و لم يكن لكم علي سبيل، و ان لم تقبلوا مني بعذر و لم تعطوني النصف من أنفسكم، (فأجمعوا أمركم و شركآءكم ثم لا يكن أمركم عليكم غمة ثم اقضوا الي و لا تنظرون) (ان ولئي الله الذي نزل الكتب و هو يتولي الصلحين). [3] [4] .

و في ذلك الموقف العصيب الذي يواجه به بالموت و يتحفز أعداؤه للانقضاض عليه و قتله، يواجههم بخطبة أخري يحاول فيها اعادتهم للصواب، كان يحدثهم بلغة الاسلام و منطقة، لا بلغة المترفين و أعداء الاسلام،

قال لهم:

(الحمدلله الذي خلق الدنيا، فجعلها دار فناء و زوال، متفرقة بأهلها حالا بعد حال، فالمغرور من غرته، و الشقي من فتنته، فلا تغرنكم هذه الحياة الدنيا، فانها تقطع رجاء من ركن اليها، و تخيب طمع من طمع فيها. و أراكم قد اجتمعتم علي أمر قد أسخطتم الله عليكم، و أعرض بوجهه الكريم عنكم، و أحل بكم نقمته، و جنبكم رحمته، فنعم الرب ربنا، و بئس العبيد أنتم، أقررتم بالطاعة، و آمنتم بالرسول محمد صلي الله عليه و آله و سلم، ثم انكم زحفتم الي ذريته و عترته، تريدون قتلهم، لقد استحوذ عليكم الشيطان، فأنساكم ذكر الله العظيم، فتبا لكم و لما تريدون، هؤلاء قوم كفروا بعد ايمانهم فبعدا للقوم الظالمين). [5] .

كان يري أنهم الخاسرون الوحيدون في هذه المعركة، بل و في الحياة كلها، اذ اجتمعوا علي حرب الله و رسوله صلي الله عليه و آله و سلم، مع أنهم أعلنوا طاعتهم لله و ايمانهم برسوله صلي الله عليه و آله و سلم في الظاهر، و كان واقعهم يدل علي أنهم من أشد أعداء الاسلام و رسوله اذ كيف يقدمون علي حرب عترته و آله، و يزحفون اليهم يريدون قتلهم، مع أنهم كانوا الممثلين الحقيقيين للاسلام، بل ان بقاءه و سلامته رهينان ببقائهم و سلامة خطهم، و أنهم الضمانة الوحيدة لعدم انحراف الأمة عن الاسلام.


لم يكن قول الحسين عليه السلام هنا، و في كل موقف، قول المهزوم المحصور المتخاذل، و انما كان قول القوي الغالب الذي يري نفسه كذلك طالما أنما كان مع الله،

و لابد أنه بذلك كان يثير حيرتهم و اندهاشهم، فهل حصل هذا الأمر مع أحد غيره؟ اللهم الا رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم عندما واجه قريشا بأصحابه القلائل.

و لعل لغة الحسين عليه السلام و كلامه لم يفهمه الا أصحابه، و الا عدد محدود من أفراد جيش ابن زياد، أثر فيهم فانضموا اليه في النهاية، و أصبحوا من أصحابه و قتلوا بين يديه، فلغة الاسلام لا يفهمها الا من شرح الله قلبه للايمان، و ايقاعها لا يؤثر الا في النفوس التي فهمت مفردات تلك اللغة و عتها بشكل حقيقي.

كيف يقدم من يري أعداؤه أنه مغلوب مقتول علي تقريع هؤلاء الأعداء و توجيه اللوم اليهم، مع أنهم يرون أن مسألة قتله مرهنة بهم، و يرون أنهم أكثر عدة و عددا، و أن قتله سيرجح المسألة في النهاية لصالحهم؟

أهو من يملك السلاح الأكثر و يقود آلاف الجند، لكي يتوجه بهذا الخطاب اليهم؟ لابد أنه كان يري نفسه قويا، و لابد أنهم كانوا يشعرون بذلك، و يشعرون أنه يتفوق عليهم و أنه يملك ما لا يملكون، و لعلهم نفسوا عليه تفوق ذاك، و انحيازه التام للاسلام، و أرادوا بضروب القسوة التي أبدوها معه و مع عائلته و أصحابه، أن يجعلوه يستسلم لم و يضعف أمامهم، و يتقدم اليهم طالبا منهم الرحمة و العفو، و هذا ما لم يتح لم تحقيقه.

فقد وقف الحسين عليه السلام أمامهم قويا ثابتا لا يلين و لا يستسلم و لا يساوم، اذ لم ير أحدا جديرا بأن يسلم أمره اليه سوي الله، أما هم فلم يروا أمامهم سوي طغاتهم و فراعنتهم و آلهتهم التي انقادوا لها انقيادا أعمي، و أطاعوها دون الله.

و لابد أنهم تعجبوا كيف أن امرءا، أو مجموعة قليلة من الناس، وجدت في نفسها الجرأة لتواجه أصنام البغي و طواغيت الانحراف دون أن تنحني أو تخاف.

ما كان يراه الحسين عليه السلام طبيعيا، كانوا يرونه شاذا و غريبا، ولو أن رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم بعث ثانية و وقف الي جانب الحسين يقاتلهم، و لو صارحهم أنه رسول الله، و اقتنعوا أنه رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم حقا، لما أحجموا في تلك الحال، و قد صدرت اليهم أوامر طواغيتهم و فراعنتهم، عن مقاتلته و قتله، و لوجد لهم أولئك الطواغيت


و الفراعنة الحجج التي تبرر اقدامهم علي ذلك، كما عمدوا بالفعل بعد أن قتلوا الحسين عليه السلام.

لقد استعرضنا بعض خطبه الأخيرة فيهم و حرصه علي اعادتهم للصواب، و منهج الاسلام الصحيح، و قد بدا واضحا أن حرصه علي ذلك كان يفوق حرصه علي تجنب نفسه و أصحاب القتل، و قد بدا من المؤكد أنه لم يكن يعير مسألة قتله الا القدر الذي يتيح للأمة أن تري عدالة قضيته و مظلوميته بمواجهة أغلبية للشر متسلطة علي مقدرات الأمة و حياتها. اذ بدا ان نهاية حياته ستكون في كربلاء، و أن الطغمة الحاكمة لن تسكت عنه، و لن تتساهل بشأنه، و انها ستعمد الي أشد وسائل الارهاب و اقساها معه في خطوة منها لاسكات الأمة الي الأبد.

أما هو فقد أرادها أن لا تسكت في أي وقت من الأوقات، و أن يكون دمه هو حافزها الدائم للمواجهة و الصمود، و أن تعمد الي ما عمد هو اليه، و جعل الدم يتغلب علي السيف و يتفوق عليه في معركة البقاء الأبدية، معركة الاسلام مع أعدائه.

و اذ ان أعداءه لم اليه و لم يستفيدوا من نصحائحه، فانه توجه الي الله تعالي بدعاء حار:

(ربنا عليك توكلنا و اليك أنبنا و اليك المصير). [6] .

فهو سيفد عليه عما قريب، و سيجد عنده الراحة الأبدية، لقد آمن بذلك ايمانا يقينيا، و رأي لذلك أن صبره علي الموت أمرا لابد منه، و كان نداؤه لأصحابه عندما وجه أعداؤه اليهم السهام في بداية المعركة:

(قوموا رحمكم الله الي الموت الذي لابد منه، فان هذه السهام رسل القوم اليكم). [7] .

و كان ذلك أمرا طبيعيا بنظرهم، اذ يحملون قضية الأمة كلها و يواجهون سلطة الغشم و الظلم، و لم يبد لأحدهم أن الموت يمكن أن يكون مصيبة، طالما أنهم


سيكونون مع الحسين عليه السلام في جنان الخلد، و قد أقدموا علي الموت بنفس الروح و الشجاعة التي أقدم بها قائدهم عليه السلام عليه.

و طالما أن الموت لابد منه، فانهم أرادوا أن يجعلوا منه وسيلة لحياة الأمة كلها، و انقاذها من الوحش الأموي، و من كل وحوش الانحراف فيما بعد، و كان موتهم له قيمة حقيقية اذ استثمروه استثمارا ناجحا في أكبر مشروع يمكن أن يحقق علي هذه الأرض، و هو: اعادة الأمة الي الاسلام.

و كان لحوار الحسين القصير مع عمرو بن الحجاج دلالته الكبيرة، و يبد أن ابن الحجاج رأي بوادر تردد من جنده لمقاتلة الحسين و أصحابه، و ربما كان انحياز الحر و جماعة آخرين الي جانب الحسين عليه السلام سيشجع آخرين علي القيام بمثل هذه الخطوة، و هو ما لن تحمد عقباه في النهاية بنظر ابن الحجاج الذي حث جند ابن زياد بقوله:

(يا أهل الكوفة، الزموا طاعتكم و جماعتكم، و لا ترتابوا في قتل من مرق من الدين، و خالف الامام). [8] .

لقد أجابه الامام بقوله:

(أعلي تحرض الناس؟ أنحن مرقنا و أنتم ثبتم عليه؟ أما و الله لتعلمن لو قد قبضت أرواحكم، و متم علي أعمالكم، أينا مرق من الدين، و من هو أولي يصلي النار). [9] .

و هو جواب له دلالته الكبيرة بنظر من يفهم لغة الاسلام و يستجيب لها، فابن الحجاج ميت لا محالة، و ان طال به الأجل، كما أن الحسين و أصحابه سيموتون بعد لحظات.

و اذ استعمل ابن الحجاج المبررات الأموية التي ابتكرها معاوية للحفاظ علي عرشه، مثل (لزوم الطاعة) و (الحفاظ علي الجماعة)، و ان كان ذلك في ظل سلطان جائر و امام فاسق، فان الحسين عليه السلام يساءله: أتري أن هذه المبررات ستصمد حتي النهاية؟ و هل يستطيع اللجوء اليها يوم الحساب حيث لا تخفي علي الله خافية، و حيث يشهد لسان ابن الحجاج و كل جارحة منه عليه؟


هلي كان ابن الحجاج يعتقد حقا أن الحسين عليه السلام و أصحابه مرقوا من الدين؟ و هل أن طاعة الامام (يزيد) واجبة بنظره حقا حتي يدعوا الناس اليها؟

أسئلة ربما كان ابن الحجاج لا يستطيع الاجابة عنها بصراحة في ذلك الموقف الذي تخاذل فيه أمام أسياده و استسلم لهم، غير أنه لم يستطيع السكوت اذا ما قبضت روحه، و سيلعن الجواب الصحيح، و سيدين نفسه و سيدعو عليها بالويل و الثبور، اذ ليس أمامه سوي أن يجيب جوابا صحيحا.

كان رد الحسين عليه السلام علي ابن الحجاج بذلك الشكل له دلالته الكبيرة، فهو قد وضعه، و وضع كل من كان يستمع اليه، أمام أمر لابد أنهم ملاقوه يوما ما، و عندها لن يكون بامكانهم الاستنجاد بيزيد أو ابن زياد و أشباههم، و سيكون هؤلاء مشغولين بأنفسهم و بتقديم حساباتهم الشخصية لمن يحاسبوهم و يحاكمونهم، في اليوم الذي تخشع في القلوب و الأبصار و يعترف الجميع فيه بأن الملك يومئذ لله.


پاورقي

[1] الطبري 318 / 2، و ابن‏عساکر الجزء الخاص بريحانة الرسول صلي الله عليه و آله و سلم، ص 214، و الارشاد ص 217، و قد ذکر في مصباح الکفعمي ص 158 ط الهند أن النبي صلي الله عليه و آله و سلم دعا بهذا الدعاء يوم بدر.

[2] ابن‏عساکر و أحمد ذکي صفوت، جمهرة خطب العرب ج 2 ص 43.

[3] يونس: 71، و الأعراف، 196.

[4] المصادر السابقة و ابن‏الأثير 287 / 3، و النويري 440 / 20.

[5] الخوارزمي 253 / 1، و بحارالأنوار 60 / 45، و مناقب ابن‏شهر آشوب 100 / 4.

[6] ذکرنا الخطبة فيما مضي من هذا الفصل، راجع ابن‏عساکر، الجزء الخاص بريحانة الرسول (3) ص 218، و الخوارزمي 8 / 2، و اللهوف 42، و بحارالأنوار 10 / 45، و جلاء العيون 177 / 2.

[7] اللهوف ص 42، و مقتل العوالم ص 84.

[8] الطبري 324 / 3، و ابن‏کثير 182 / 8.

[9] الطبري 324 / 3، و ابن‏کثير 182 / 8.