بازگشت

السكوت عن الانحراف ليس صبرا


كان لابد من الارتفاع عن تلك الحال و عن دنيا بني أمية و العودة الي دنيا محمد صلي الله عليه و آله و سلم و علي عليه السلام، و كان لابد من الانتصار علي كل ذلك الضعف البشري، و لابد من تدارك الأمر.

و الا فهل كانت الحياة في ظل الانحراف الأموي المعلن هي ما يتمناه المرء حتي ولو كان يري أن الدنيا قد تغيرت و تنكرت و أدبر معروفها و أن الحق قد استبدل بالباطل، أم أن الأمر غير ذلك

لقد جمع الحسين عليه السلام أصحابه ثانية و خطب فيهم مبينا الأوضاع التي تمر بها الأمة و ما ينبغي علي كل فرد فعله ان كان مؤمنا حقا:

(أما بعد، فانه قد نزل بنا من الأمر ما قد ترون، و ان الدنيا قد تغيرت و تنكرت، و أدبر معروفها، و استمرت حذاء، و لم يبق منها الا صبابة كصبابة الاناء، و خسيس عيش كالمرعي الوبيل.

ألا ترون الي الحق لا يعمل به، و الي الباطل لا يتناهي عنه، ليرغب المؤمن في لقاء ربه محقا، فاني لا أري الموت الا سعادة، و الحياة مع الظالمين الا برما). [1] .

هل نري في خطاب الحسين عليه السلام استسلاما للواقع الفاسد، و صبرا علي النمط الذي ينشده الأمويون و أمثالهم من حكام الظلم و الجور، أم أننا تري أنه


يستعرض واقعا فاسدا لا يمكن الصبر عليه و السكوت عنه، و ان ذلك يتطلب منه صبرا علي الشدائد و الموت، و الا فهل كان الموت هنا أمنية يتمناها الحسين عليه السلام، أن يموت علي فراشه لكي يتخلص من مشاهد الانحراف و الفسوق و الظلم، أم أنه موقف ارادي يقدم عليه بكل عزم و تصميم طالما أنه يحقق الهدف المنشود، و ينجح بلفت نظر الأمة الي سوء أوضاعها في ظل حكامها الأمويين، و جعلها تدرك أن ما أقدم عليه هو و أصحابه عليه السلام، هو الموقف الصائب في ظل الأوضاع التي تعرضت فيها للانحراف و الظلم و الخروج المتعمد عن الاسلام، و هو الموقف الذي ينبغي علي كل فرد منها وقوفه.

و في موقف آخر كان عليه السلام في خباء له، و عنده جون، مولي أبي ذر الغفاري، و هو يعالج سيفه و يصلحه كان يردد:



(يا دهر أف لك من خليل

كم لك بالاشراق و الأصيل



من صاحب أو طالب قتيل

و الدهر لا يقنع بالبديل



و انما الأمر الي الجليل

و كل حي سالك السبيل)



فأعادها مرتين أو ثلاثا، حتي أفهمتها، فعرفت ما أراد، فخنقتني عبرتي (و الحديث هنا للامام زين العابدين عليه السلام الذي كان عليلا فلم يشارك في القتال) و لزمت السكون فعلمت أن البلاء قد نزل). [2] .

أما زينب فقد بكت لما يوشك أن يقع، فحاول الحسين عليه السلام تهدئتها و بث السكينة في نفسها و اعدادها لتقبل قتله علي يد الجيش المستنفر لذلك، و كان مما جاء بكلامه لها:

(يا أخية، اتقي الله، و تعزي بعزاء الله، و اعلمي أن أهل الأرض يموتون، و أن أهل السماء لا يبقون، و ان كل شي ء هالك الا وجه الله الذي خلق الأرض بقدرته، و يبعث الخلق فيعودون، و هو فرد وحده. أبي خير مني، و أمي خير مني، و أخي خير مني، و لي و لهم و لكل مسلم برسول الله أسوة). [3] .


و هذا موقف جدير بالانتباه حقا، فالحسين عليه السلام لم يكن في أحد سجون الطغاة الأمويين منتظرا قدوم الجلاد لتنفيذ حكم الموت فيه، و انما كان يعالج سلاحه و يعده لقتال هذا الجلاد، و اذا ما قتل بعد ذلك علي يده، فانه قتل و قد أدي واجبه في الدفاع عن الاسلام.

كان يري أن جلاديه مسلحون و مستعدون للاقدام علي جريمة قتله، و قتل أصحابه، و أن موته محتم و هو يصر علي مقاومتهم و رفضهم، و هم يصرون علي قتاله و قتله. و اذا ما كان ثمن اصلاح الأمة و استقامة الاسلام هو قتله، فها هو مستعد للقتل الذي لن يبدو هينا بأي حال من الأحوال، كما أنه لن يتعرض وحده لذلك، و لعل حياة أفراد من أهله و أصحابه لن تكون هينة عليه، و سيري أنها ستقدم للموت و أنهم سيتعرضون للأذي بمرأي منه و مسمع، و هو أمر لن يستطيع امرؤ سواه تحمله بأي حال من الأحوال، اذ ستكون المشاهد المشحونة بالأهوال كفيلة باثارة الرعب في أشد القلوب و أقواها، أما معه فالأمر لن يكون كذلك، انه يحزن علي أهل بيته و أصحابه، بل أن دموعه لتسيل معبرة عن ذلك الحزن الجارف العميق، غير أنه لم يفكر لحظة بالاستسلام، و المهادنة مع أن نهايته هو بدت قريبة دون شك،

كانت الأبيات التي رددها تعبر تمام التعبير عن حال الدهر التقلب الذي غالبا ما تتحكم في أيامه الطغاة، و اذ أنه هكذا يشهد كل يوم ضحية جديدة يقدمها علي طبق فاخر لهؤلاء الطغاة، ضحية منتقاة، لابد أن تكون هي بعينها لا غيرها، فان هذا الأمر بدا مألوفا من الدهر، و اذا كان لابد من التضحية فليكن، و ليضحي و ليسلم أمره لله بعد أن يجاهد و يقول كلمته، فامام كل فرعون لابد أن ينهض موسي، و أمام يزيد لابد أن ينهض الحسين، لكي يظل الأمر كذلك الي الأبد، ليجد الطغاة من يقف بوجوههم و يتحداهم و يدعوهم للعودة الي الاسلام، فانه الصراع الدائمي المحتدم الي أن تمتلي ء الأرض قسطا و عدلا كما امتلأت ظلما و جورا، بظهور قائم آل محمد (عج).

كان للأبيات ايحاؤها القوي و ايقاعها الواضح بأن الموت نازل لا محالة عما قريب، و بعد: فمن هو الجدير أن يجزع من الموت؟ أرجال مثل الرسول صلي الله عليه و آله و سلم و آله، أم من هم علي شاكلة معاوية و يزيد؟

لا شك أن من كانوا مثل الحسين عليه السلام سيكونون سعداء و فخورين بالموت


الذي سيكون أجمل نهاية سعيدة، يقطف فيها ثمار سعيه الكبير، و وقفته الفريدة بمواجهة الظلم و الانحراف.

فقد وضعوا أمام أصعب اختبار، و نجحوا في نجاحا باهرا. لقد فهمت زينب مغزي رسالته و وعتها جيدا، و هكذا بسطت يديها تحت بدنه المقدس بعد مقتله رافعة طرفها نحو السماء هاتفة:

«اللهم تقبل منا هذا القربان». [4] .

و صمدت بقوة غريبة أمام أكبر كارثة يمكن أن تحل بامرأة، قتل أهل بيتها و حماتها في لحظات قصيرة، مع أنهم هم الذين كان ينبغي علي الأمة التي قتلتهم و استباحتهم أن تدافع عنهم و تسير وراءهم لكي تصل الي بر الأمان و النجاة.

و لا شك أن آلام الحسين عليه السلام كانت مما لا يمكن تحمله لو لم يكن هو الحسين خاصة، و لا شك أنها كانت امتدادا لآلام طويلة و كبيرة قد نحسبها نحن أقل هولا و مرارة مما قاساة في وحدته، و هو يري تساقط أولاده و أهل بيته و أصحابه أمامه، أما هو فقد كان ينظر اليها بمنظار آخر، منظار صاحب الرسالة و قد سلبت رسالته و زيفت و تخلي الناس عنها، أي يوم عاشه الحسين عليه السلام لم يكن فيه حزن، و أي يوم عاشه لم تنتهك فيه حرمته، و قبلها حرمة رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم و أبيه علي و أمه فاطمة و أخيه الحسن.

كان يري تخلي الناس عن رسالة جده صلي الله عليه و آله و سلم الحقيقية غير المزيفة، و التي حملها آله مبرأة منقاة من العيوب يجري بوتيرة متسارعة، فكأنهم أوراق الأشجار تتساقط في الخريف، فهل أن خريف الاسلام كان قريبا جدا الي ذلك الحد، و هل سيشهد الشتاء حيث لا يري ورقة واحدة خضراء تظل ملتصقة بشجرة النبي و آله؟

حمل الحسين عليه السلام هما كان جديرا بالأمة كلها أن تحمله، هما كبيرا قد تنوء الأمة بحمله لا شخص واحد و حسب.

كان الحزن و الألم يتجمع في لحظات قصار، لحظات جديرة أن تهد جبلا من الصخر الأصم، لا جسما صغيرا مفعما بأرق المشاعر و الأحاسيس، نابعة عن شعور حقيقي بالانتماء للانسانية و للأمة الاسلامية التي يراد انتهاكها و انتهاك حرمة قادتها


الحقيقين المتمثلين بالرسول صلي الله عليه و آله و سلم و آله، فأي معني سيظل لهذا الاسم، اسم الأمة الاسلامية، اذا ما استخدمت هي أداة لهذا الانتهاك و أقدمت علي ذبح نفسها بنفسها، و عجزت عن مواجهة أعدائها الذي تعلم علم اليقين أنهم أعداؤها؟

لقد كانت هذه الشرائح الاجتماعية الواسعة من أهل الكوفة المتمثلة بالجيش المستنفر لقتاله، تطالب بقدومه حتي الأمس القريب، و تهتف باسمه و ترجو أن يتم تغيير أوضاعها المزرية علي يديه، فما الذي جعلها تقاتله اليوم و تذهب الي حد الانتقام البدائي الوحشي الذي لا يتقيد بعرف أو قانون، و تقتل حتي الأطفال الرضع و الصغار؟

أكان هذا حصيلة انتمائهم للاسلام و فهمهم له؟

أم أن دائرة البغي و الانحراف الأموي نجحت في مسعاها لسلب هويتهم الاسلامية نهائيا و تضييق الحصار عليهم؟

أكان الصبر علي هذه الحال المزرية أولي بالحسين؟ و هل يمكن أن يعد هذا صبرا؟ أم أن الصبر علي مقاومتها و تغييرها أولي به و أجدر؟


پاورقي

[1] تاريخ الاسلام للذهبي 345 / 2، و حلية الأولياء لأبي نعيم 39 / 2، و اللهوف ص 33، و تاريخ ابن‏عساکر ص 214، و مجمع الزوائد للهيثمي 122 / 9 ط 2 و ذخار العقبي 149، و العقد الفريد 380 / 4، و الخوارزمي 2 ص 5، و الاتحاف يجب الأشراف للزبيدي 320 / 10.

[2] الطبري 316 / 3، و ابن‏الأثير 286 / 3، و الارشاد ص 216، و روضة الواعظين للقتال 184، و أنساب الأشراف 186 / 3، و اللهوف ص 34، و نهاية الأرب 447 / 20، مع اختلافات يسيرة في بعض النصوص.

[3] الطبري 316 / 3، و ابن‏الأثير 286 / 3، و الارشاد ص 216، و روضة الواعظين للقتال 184، و أنساب الأشراف 186 / 3، و اللهوف ص 34، و نهاية الأرب 447 / 20، مع اختلافات يسيرة في بعض النصوص.

[4] الکبريت الأحمر، للتستري 13 / 3.