بازگشت

استسلام الحسين لقضاء الله استسلام فاعل


و لم يكن استسلامه استسلام اليائس من الحياة، و الذي قد مل منها لأنها لا تقدم اليه ما اعتاد منها، فقد كانت مصاريعها مفتحة أمامه، و كانت اشارة بسيطة منه كفيلة بجعل يزيد يطير فرحا و ينفذ له كل ما يريد، و بذلك ينهي المسألة كلها، و يعيش حياة و ادعة هينة، غير أنه آثر الطريق الآخر، طريق مقاومة الانحراف و ايقافه،

و كان قضاء الله عليه يقابل باستجابة واعية من قبله، فهذا القضاء لا ينزل به و هو جليس داره قد هادن و ساوم و استسلم ليزيد حتي يرفضه، و يري فيه أمرا غير متقبل، لكنه بمقاومته و تحديه سلطة الانحراف، يري أن ما سيحل به نتيجة طبيعية، اذ أن دولة الظلم لن تتنازل بسهولة أمام مطاليبه، و من هنا كان توقعه الموت لا يثير في نفسه أدني خوف، بل ربما كان يثير فيها السعادة، لأنه يحقق به ما خافت الأمة كلها من الاقدام عليه، فالحياة ليست غاية بحد ذاتها اذا ما تخلي المرء عن الاسلام، و قبل ذلك باختياره، و ستكون عبئا ثقيلا و مثار محاسبة و مسائلة اذا ما قبل العيش في ظل دولة الظلم و مهادنتها و مسالمتها، كما أنها ستكون قيمة كبري اذا ما انتصر فيها لقيم الحق المتمثلة بالاسلام، و ستكون قيمتها بقدرتها علي فهمه و استيعابه و الوقوف الي جانبه في الأزمات، مثل تلك الأزمة التي كان يمر بها فعلا و هو يصادر من قبل بني أمية الذين حاولوا استبداله بدين مزيف من عندهم.

لقد خاطب أخته زينب بقوله:

(كل الذي قضي الله فهو كائن...). [1] .

و خاطب أباهرة الأزدي بقوله:

(لتقتلني الفئة الباغية، و ليلبسنهم الله تعالي ذلا شاملا و سيفا قاطعا، و ليسلطن الله عليهم من يذلهم حتي يكونوا أذل من قوم سبأ). [2] .

و قال في (الثعلبية) لرجل من أهل الكوفة أخبره أن الناس مجتمعون عليه:

(ان الأمر لله يفعل ما يشاء، و ربنا تبارك و تعالي هو كل يوم في شأن، ثم أنشد:




فان تكن الدنيا تعد نفيسة

فدار ثواب الله أعلي و أنبل



و ان تكن الأموال للترك جمعها

فما بال متروك به المرء يبخل



و ان تكن الأرزاق قسما مقدرا

فقلة حرص المرء في الكسب أجمل



و ان تكن الأبدان للموت أنشئت

فقتل امرء بالسيف في الله أفضل) [3] .



و قال لرجل من بني عكرمة، (عمرو بن لوذان)، و قد حذره ببطن العقبة من المضي الي الكوفة:

(ليس يخفي علي الرأي، ولكن الله لا يغلب علي أمره، و الله لا يدعونني حتي يستخرجوا هذه العلقة من جوفي، فاذا فعلوا ذلك سلط الله عليهم من يذلهم، حتي يكونوا أذل الأمم). [4] .

و من المعلوم أن أقواله و تصريحاته هذه، كانت قبل لقائه بالحر بعد خروجه من شراف، و معني ذلك أن مسألة الرجوع متعللا بتخاذل أهل الكوفة و تركهم نصرته، و ربما كان ذلك عذرا وجيها أمام من قد يوجهون اللوم اليه فيما بعد.

غير أنه كان يريد شيئا أبعد و أهم من الحفاظ علي سنوات عديدة متبقية له من حياته، كان ينشد حياة الاسلام الذي أوشك أن يمسخ بدين آخر، و حياة أمة منقاة و مبرأة من كل دنس و انحراف و تزوير، و قد اختار المضي في هذه المهمة رغم المخاطر التي كانت تلوح له و تبدو كأمر واقع لابد منه.

لقد قال عليه السلام بعيد سماعه خبر مقتل رسوله الي الكوفة قيس بن مسهر الصيداوي، و قد امتلأ قلبه حزنا عليه:

(فمنهم من قضي نحبه و منهم من ينتظر و ما بدلوا تبديلا). [5] .

اللهم اجعل لنا و لهم الجنة نزلا، و اجمع بيننا و بينهم في مستقر رحمتك و رغائب مذخور ثوابك). [6] .


لما اختار هذه الآية الكريمة بالذات في هذا الموقف، مع كل ما فيها من ايجاء، بما سيحل بالمؤمنين الصابرين السائرين علي خط الاسلام الصحيح؟

و لماذا دعا بهذا الدعاء، لولا أنه كان مصمما علي انجاز مهمته و المضي بها حتي النهاية؟

و لعل حواره مع ولده علي الأكبر له دلالته الكبيرة علي هذا المعني، عندما خفق برأسه خفقة ثم انتبه و هو يقول:

«انا لله و انا اليه راجعون» «و الحمدلله رب العالمين» فعل ذلك مرتين أو ثلاثا.

(أقبل اليه ابنه علي بن الحسين علي فرس له فقال: انا لله و انا اليه راجعون، و الحمدلله رب العالمين، يا أبت، جعلت فداك، مم حمدت الله و استرجعت؟

قال: يا بني، ان خفقت برأسي خفقة، فعن لي فارس علي فرس، فقال: القوم يسيرون و المنايا تسري اليهم، فعلمت أنها أنفسنا نعيت الينا.

قال: يا أبت لا أراك الله سوءا، ألسنا علي الحق؟

قال: بلي و الذي اليه مرجع العباد.

قال: يا أبت اذا لا نبالي، نموت محقين.

فقال له: جزاك الله من ولد خير ما جزي ولدا عن والده). [7] .

و لا ندري أيهما أعجب هنا، موقف الوالد أم موقف ولده، و هما يدركان أن الموت نازل بهما لا محالة، و بالتأكيد لم يكن الجزع و الخوف من الموت هو ما نراه منهما.

لقد علم الحسين عليه السلام أن أنفسهم نعيت اليهم، و لم يملك الا أن يسترجع و يحمد الله علي ذلك، و قد رأي ذلك من الأمور التي ينبغي أن يحمد الله عليها حقا.


و قد استجاب الابن لأبيه استجابة واعية، فاسترجع و حمد الله بدوره، و كان تساؤله، ألسنا علي الحق من باب تأكيد الشي ء، فقد كان يعلم أنهم علي الحق، و طالما أنهم كانوا كذلك و طالما أنهم كانوا ينهضون بأكبر مهمة أتيح لأفراد من المسلمين القيام بها في ذلك الجو العاصف المضطرب، فان الموت هنا لم يكن أمرا داعيا للقلق و الخوف.

لم يقل علي بن الحسين لأبيه، جنبك الله هذه الميتة، أو جنبك الله و ايانا هذه الميتة، بل قال لا أراك الله سوءا.

لا أراك الله سوءا في ظل دولة الظلم، و سوء التخاذل و الاستسلام و الخوف، أما الموت، فطالما أنه كان بسبب قضية عادلة و من أجلها، فلم يعده علي ابن الحسين و لا أبوه عليهم السلام سوءا، انه أمر شاق و ثمن باهض، غير أنه يظل في نهاية الأمر ثمن لابد من دفعه ماداما يتصديان لهذه المهمة الكبيرة، بل الهائلة، و ماداما يريدان تغيير الأوضاع تغييرا جذريا حاسما، فان الصبر علي الموت هنا من الأمور البديهية المطلوبة، و لم يكن التراجع أو الاستلام مما يقبل المراجعة أو اعادة النظر.

لم يستسلما لعبودية الدنيا، و لم يكن الدين لعقا علي لسانيهما، و ها هو البلاء يحل، غير أنه لم يكن بلاء بنظرهما، لذلك فانهما لم يتراجعا أو يتخاذلا طالما أنه سيحقق أمرا عجزت الأمة كلها عن تحقيقه، و طالما أنه سيلفت نظرها الي واقعها المزري في ظل دولة الظلم المنحرفة، و يجعلها ترفضه و تقف الموقف الصحيح منه بعد ذلك.

و هكذا خطب في أصحابه عند نزوله كربلاء قائلا:

(الناس عبيد الدنيا، و الدين لعق علي ألسنتهم، يحوطونه ما درت معائشهم، فاذا محصوا بالبلاء قل الديانون). [8] .

و هي حقيقة مؤسفة، جاءت نتيجة سعي حثيث من قبل كل أعداء الأمة لاستدراجها لتلك الحال. هل تري هنا وصفا لأمة اسلامية كما أرادها رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم أم وصفا لأمة مسلوبة الارادة لا تري الدين الا عبثا و لغوا، و لا تري مانعا من التظاهر به طالما أنه لا (يضرها)، و اذا ما وضعت أمام محك حقيقي، كالذي كانت تواجهه في


ظل القيادة الأموية المنحرفة، فانها سرعان ما تتخلي عنه متذرعة بمختلف الذرائع و الحجج.

ان هذه الحقيقة المؤسفة لابد و أن تكون قد وضعت الامام الحسين عليه السلام أما تساؤل حقيقي: هل ينبغي السكوت عن هذه الحال، أم يجب تغييرها و علي الفور لئلا تفلت الفرصة الي الأبد، و مهما كان الثمن؟

و لعل نهضته و وقوفه تلك الوقفة الباسلة بوجه النظام المتسلط تعطي الاجابة الواضحة عن هذا السؤال.


پاورقي

[1] الخوارزمي 225 / 1، و مناقب ابن‏شهر آشوب 95 / 4، و مقتل ابن‏نما ص 23.

[2] اللهوف ص 29، و أعيان الشيعة 184 / 4، و أمالي الصدوق م 30، و الخوارزمي ج 1 ف 11.

[3] مناقب ابن‏شهر اشوب 95 / 4.

[4] الارشاد ص 206، و أعيان لشيعة للأمين ج 4 ق 1 ص 188، و نفس المهموم للقمي ص 98 ايران.

[5] الأحزاب: 23.

[6] نهاية الأرب للنويري، القاهرة ج 20 ص 421.

[7] الطبري 309 / 3، و ابن‏الأثير 282 / 3، و الارشاد 209، و روضة الواعظين ص 180، و نهاية الأرب للنويري 423 / 20، و قد روي أن الحسين عليه‏السلام قد خفق برأسه عصر التاسع من محرم قبيل هجوم ابن‏سعد عليه، و قد سمعت زينب عليهاالسلام صيحة العدو فاقتربت من الحسين و سألته عن الأصوات التي أخذت تقترب منهم، فرفع الحسين عليه‏السلام رأسه و قال: (اني رأيت رسول الله في المنام و هو يقول: انک صائر الينا عن قريب) و حاول اسکاتها و تهدئتها و اعدادها لتقبل موته و موت أصحابه، اللهوف ص 38، و نهاية الأرب 432 / 20.

[8] البحار للمجلسي ج 44 ص 383، و مقتل الحسين للخوارزمي ج 1 ف 11.