بازگشت

صبر الحسين صبر علي قضاء الله


كان الحسين عليه السلام يعلم أن هذه الدولة لن تتنازل بسهولة أمامه و تستجيب لمطالبه العادلة، و انها ستستنفر كل أعوانها و شيعتها لمقاومته و القضاء عليه، غير أن نتيجة ذلك ستكون في النهاية لفت أنظارها الي قوي الشر المتسلطة عليها، و تسليحها بقدر من الوعي يجعلها قادرة علي اكتشاف أعدائها، و ان تستروا بالاسلام و ادعوا الانتماء اليه.

و لم يكن الموت و التشريد و السبي و ترويع الأطفال و النساء مما يستسهل لو كان الأمر أمر مهمة أخري غير هذه المهمة، أما في هذه المهمة الدقيقة و الحاسمة، و قد كانت الأمة علي مفترق الطريق، أما الانحدار النهائي و السقوط في أحضان الانحراف، و أما العودة الي الوعي و معرفة مكامن الخطر المحدق بها، فان الصبر علي المخاطر كان هو الأمر الوحيد الممكن.

فمن ذا الذي سيرعي هذه الأمة و يرشدها الي طريق الاسلام الصحيح، فان الصبر علي المخاطر كان هو الأمر الوحيد الممكن.

فمن ذا الذي سيرعي هذه الأمة و يرشدها الي طريق الاسلام الصحيح، اذا ما تخلي الامام الحسين عليه السلام عنها، و اذا ما سار في مهمته لكشف الانحراف و تعريته، و كانت نتيجة ذلك تعرضه للموت و لكل ضروب الأذي، فكيف سيواجه ذلك، ان لم يكن بالصبر عليه و تحمله، ذلك الصبر الذي كان جديرا بحملة الرسالة الالهية علي مر التاريخ، و الذي أصبح موضع تقدير و تأمل من قبل كل المسلمين الي يومنا هذا.


لم يكن صبره عليه السلام صبر المستسلم للسلطة الطاغية الخاضع لها، بل صبر الخاضع للقضاء الالهي المؤمن به، فاذ أنه ملزم بتحدي الانحراف، فلابد له من تحمل نتائج تحديه.

و اذ أن الأمة كلها مستسلمة و خائفة و مضللة، و ليس له يد في ذلك، فان واجب توعيتها و تبصيرها بواقعها بدا أمرا لابد من القيام به، و بدا له أنه المسؤول الأول عن ذلك، بحكم موقعه من الرسول صلي الله عليه و آله و سلم و من المسلمين.

أن يتحدي السلطة و ينبه الأمة الي خطرها يعني موته الأكيد.

و أن يسكت ربما ضمن سلامته الشخصية مقابل تعريض أجيال الأمة كلها للخطر و الموت الأكيد.

فهل كان السكوت في تلك الحال ممكنا؟

أجاب الحسين عليه السلام عن ذلك في كل المواقف التي وقفها عبر مسيرته الملحمية من المدينة الي مكة ثم الي كربلاء، و حتي قبل ذلك، اجابة حاسمة واضحة: و هكذا قام خطيبا في الناس بمكة، بعد أن صلي بين الركن و المقام ركعتين: فقال:

(الحمدلله، و ما شاء الله، و لا حول و لا قوة الا بالله، و صلي الله علي رسوله.

خط الموت علي ولد آدم مخط القلادة علي جيد الفتاة، و ما أولهني الي أسلافي اشتياق يعقوب الي يوسف، و خير لي مصرع أنا لاقيه.

كأني بأوصالي تقطعها عسلان الفلوات بين النواويس و كربلا، فيملأن مني أكراشا جوفا، و أجربة سغبا، لا محيص عن يوم خط بالقلم.

رضا الله رضانا أهل البيت، نصبر علي بلائه، و يوفينا أجور الصابرين.

لن تشذ عن رسول الله لحمته، بل هي مجموعة له في حضيرة القدس، تقربهم عينه، و ينجز لهم وعده. ألا و من كان فينا باذلا مهجته، موطنا علي لقاء الله نفسه، فيرحل معنا، فاني راحل مصبحا ان شاء الله تعالي). [1] .


ليس كلام الحسين عليه السلام هذا كلام من كان ينافس في سلطان أو يسعي لمكسب شخصي، كان يسير الي الموت و يعلم أن هذا هو الأمر الوحيد الذي يحتمل أن يواجهه و مع ذلك، فطالما كان في موته حياة الأمة، و بقاء الاسلام، فان الموت بدا نتيجة سعيدة لمسعي موفق ناجح.

لقد قدر له أن يعيش بمواجهة الانحراف، و لابد له من التصدي له، و لا محيص عن ذلك و عن مواجهة الموت بعد ذلك، طالما أنه يحقق رضا الله (جل و علا شأنه). أليس هذا هو طريق رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم؟ و من أولي برسول الله صلي الله عليه و آله و سلم من لحمته و دمه و أهل بيته؟

و قال لابن عباس قبيل خروجه من مكة:

(ان القوم لن يتركوني، و انهم يطلبونني أينما كنت حتي أبايعهم كرها أو يقتلونني، و الله لو كنت في ثقب هامة من هوام الأرض لاستخرجوني منه و قتلوني. و الله أنهم ليعتدن علي كما اعتدت اليهود في يوم السبت، و أنا ماض في أمر رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم حيث أمرني، و انا لله و انا اليه راجعون). [2] .

و لا يبدو هذا الكلام امري ء يخاف الموت اذ لو كان يخافه حقيقة لبايع و أنهي المسألة كلها و ضمن سلامته الشخصية و أمنه و راحته لبقية سني عمره، غير أنه سيكون سببا لكي تفقد الأمة و الي الأبد سلامتها و أمنها و سعادتها، و هي أمور كانت مرهونة بموقف الحسين عليه السلام في ذلك الظرف الدقيق.

ان السلطة ستبذل كل جهدها و ستستنفر كل أعوانها لمحاصرته و القضاء عليه طالما أنه بقي علي موقفه الرافض ليزيد، أما هو فلا يجد سبيلا الا هذا الموقف و المضي فيه الي النهاية، فهذا أمر الاسلام، و هذا أمر رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم و مسؤوليته التي حملها آل بيته من بعده، و من أجدر من الحسين عليه السلام بتنفيذ هذا الأمر حتي و ان اقتضي الأمر العدوان عليه و قتله، فليس غريبا علي دولة الظلم أن تعمد الي قتل أعدائها و القضاء عليهم، كما كانت تفعل دائما، و ربما بذريعة منسبة للدين، كحال


اليهود تماما و قد ادعوا الانتساب الي رسالة سماوية، الا أنهم حرفوها و زورها و قاموا بعدوانهم و انحرافهم بحجة المحافظة عليها.

و قد تطرقنا الي اشاراته المتعددة ليحيي ابن زكريا عليه السلام.

و ورد في كتابه لعبدالله بن جعفر كلام مماثل لقوله لابن عباس و قد جاء فيه:

(اني رأيت رؤيا فيها رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم و أمرت فيها بأمر أنا ماض له، علي كان أو لي،

فوالله لو كنت في ثقب هامة من هوام الأرض لاستخرجوني منها حتي يقتلوني. و الله ليعتدن علي كما اعتدت اليهود في يوم السبت). [3] .

و قال للفرزدق الشاعر عندما قال له هذا، و قد سأله عن خبر الناس خلفه:

(قلوب الناس معك، و سيوفهم عليك، و القضاء ينزل من السماء، و الله يفعل ما يشاء،

قال عليه السلام: صدقت، لله الأمر، و الله يفعل ما يشاء، و كل يوم ربنا في شأن، ان نزل القضاء بما نحب، فنحمدالله علي نعمائه، و هو المستعان علي أداء الشكر، و ان حال القضاء دون الرجاء، فلم يتعد من كان الحق نيته، و التقوي سريرته). [4] .

كان استسلامه لله وحده، لم ير غيره و لم يتوجه الا اليه، و كان يبدو مطمئنا غاية الاطمئنان الي حكمه و قضائه، فوجود بني أمية علي رأس الحكم بلاء حل بالمسلمين، و لابد من مقاومة هذا البلاء، و لابد أن يكون هو في مقدمة من يقاوم، سواء استطاع أن يزيله أم لم يستطع، و هما أمران كانا سيان لديه طالما أنه كان يستجيب لواجب مفروض عليه، و أنه ينصر الحق و الاسلام، و كان الأمر يستوجب الحمد و الشكر، كما أن الأمر الثاني يستوجبهما كذلك، لأنه استطاع التغلب علي كل المخاوف البشرية التي يمكن أن تتصاعد في مثل تلك الظروف، و يواجه دولة الانحراف بكل ما استطاعت تحشيده من جد و من قوة.



پاورقي

[1] کشف الغمة للأربلي 241 / 2، و اللهوف 25 و راجع المصادر الأخري التي ذکرناها في الدراسة.

[2] ورد قوله عليه‏السلام باختلاف يسير في بعض المصادر، الطبري 296 / 3، و ابن‏الأثير 276 / 3، و جمهرة خطب العرب 36 / 2، و مروج الذهب 65 / 3، و تاريخ الخلفاء 207، و ترجمة ريحانة رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم لابن‏عساکر 24، و نهاية الأدب 408 / 20، و مقتل الخوارزمي 217 / 1.

[3] الطبري 297 / 3 ذکر قسما من هذا الکلام و الخوارزمي 218 / 1، و ابن‏کثير 169 / 8 ذکر القسم الأخير منه.

[4] الطبري 296 / 3، نهاية الأرب للنويري 410 / 20، و ابن‏الأثير 276 / 3، و ابن‏کثير 166 / 8، و الصواعق المحرقة لابن‏حجر ص 118، و الخوارزمي 1 ف 11، و البلاذري 165 / 3.