بازگشت

الصبر الايجابي، صبر حسيني علوي و الصبر السلبي صبر يزيدي أموي


يقترن الصبر في بعض الأذهان باستسلام و الخضوع للآخرين، ذلك الخضوع الذي يقترن بارادة بشرية ظالمة تحاول تسخير الآخرين لخدمتها و اسكات من يحاول التصدي لها أو يرفع أصبعه في وجهها، و قد حاولت دول الظلم علي مر العصور تكريس هذا المفهوم و اظهاره كحسنة تتمتع بها الرعية المطيعة و كمنفس لهموم أولئك المتسائلين عن سبب الظلم و دوافعه، باعتبار أنه قد نازل لا سبيل الي دفعه أو تلافيه، و قد وجد هذا المفهوم طريقة في ظل دولة الظلم الأموية المتسترة بلباس الاسلام ليظهر كنظرية اسلامية تشجع علي الاستكانة و الخضوع و الاستسلام للحاكم الظالم متخذة من بعض الأحاديث الكاذبة و التلفيقات الموضوعة و التأويلات المزيفة للقرآن ذريعة للتمركز و الانتشار، عززهما تعاقب دول الظلم علي أمتنا الاسلامية فيما بعد.

و اذا ما ناقشنا مفهوم الصبر وفق العقلية الاسلامية، فاننا لا نراه يشير الي الخضوع و الاستسلام للظلم و تجريد الانسان من الارادة الواعية المتبصرة، و لئن كان صبر المرء علي ما ينزل به من أمور ليس سببها أحد غيره قصده بالشر و الأذي، ادعي الي الحكمة و الصواب، فان حث الاسلام المسلمين علي التصدي لمن يقصدهم بالأذي و الشر و العدوان يتنافي مع مفهوم الخضوع للآخرين و الصبر علي آذاهم دون أن تكون لذلك نتائجه الايجابية فيما بعد و التي تؤدي الي استئصال الظلم وردع الظالمين و كشفهم أمام الناس.

بل ان الصبر وفق مفاهيم الاسلام يعني الثبات و التزام منهج الحق و تحمل المشاق في سبيل ذلك، و علي درب الصبر و ارادة الاختيار المتبصر، استشهد مئات الأنبياء و عذبوا و أوذوا و كان آخرهم نبينا محمد صلي الله عليه و آله و سلم، و مع ذلك فلم يتخلوا عن رسالتهم و مضوا كما أمرهم الله الي نهاية الشوط دعاة اليه مبشرين و منذرين.

و كان أحري بمن حملوا مسؤولية اكمال مشوار القيادة الدقيق لنبي الاسلام صلي الله عليه و آله و سلم، و هم آل البيت عليهم السلام و في مقدمتهم أميرالمؤمنين و ولداه الحسن


و الحسين عليهم السلام أن يتحلوا بميزة الصبر لمواجهة العواصف و الشدائد، و هم يرون حقهم في قيادة المسلمين قد أعطي لغيرهم و أبعدوا عن الميدان لتبقي الأمة وحدها بدونهم تواجه قوي الانحراف و العداء للاسلام.

و كانت نتيجة صبرهم ستؤدي الي كشف أعداء الأمة المتسلطين عليها بالقوة و الاكراه و الخديعة، و قد أدت الي ذلك فعلا، و ظهر الحكم الأموي علي حقيقته بعد استبداد معاوية بالسلطة و سعيه لاقامة يزيد خليفة من بعده، و هنا لا يشمل الأذي أهل هذا البيت خاصة، و لا يكون الغبن عليهم وحدهم، فالأمة كلها ستتضرر جراء ذلك، حتي الأجيال اللاحقة فيما بعد، و سيكون السكوت علي ذلك قبولا بهذا الغبن و الظلم الذي سيلحق بالأمة.

و هو ما يرفضه الاسلام جملة و تفصيلا، فهو ما جاء لتظل مقدرات المسلمين و حياتهم مرهونة بأمثال يزيد و ابن زياد و آل مروان و آل العاص و ابن أبي معيط و أشباههم.

و الصبر علي نضالهم و التصدي لهم و الوقوف بوجوههم و منعهم من التمادي بالظلم و الانحراف سيكون هو الموقف الجدير بالأمة المسلمة و قيادتها الحقيقية أن تقفه، و الا ضاع الاسلام و ما عاد الحديث الا عن بقايا أطلال أمة مسلمة طواها التاريخ و اندثرت، و لم يعد لها في ذاكرته الا أحاديث عابرة و صور مشوهة.

و قد تحدثنا في هذه الدراسة عن مغزي سكوت أميرالمؤمنين عليه السلام عن العديد من أشكال الغبن الذي لحقه هو خاصة، و عن مغزي صلح الحسن عليه السلام مع معاوية و الذي أدي فيما بعد الي كشف هذا الأخير، بعد أن انفرد بالسلطة و لم تعد له المبررات القديمة التي تذرع بها لشن الحرب المبطنة علي الاسلام، رغم تظاهرة المتسم بأقصي غايات المكر بالانحياز و تأثيره علي فئات عديدة من أبناء الأمة و في مقدمتها أهل الشام المخدوعين و المبهورين به.

و اذا لم يجد يزيد ضرورة لكي يأخذ نفسه بما أخذها به والده من قبل، و نزع كل البراقع و الأستار عن وجههه و ظهر علي حقيقته كما كان و كما عرفه أبوه أمام الأمة المسلمة المقهورة المطوعة بالقهر و القوة، فان التصدي لازالته و اعلان الحرب عليه و مقاومته و كشفه سيكون في أولويات من اعتقدوا بالاسلام حقا، و تبنوه نهجا للحياة و قانونا لا يقبل التغيير و الحذف.


و من الطبيعي أن يكون الحسين عليه السلام في مقدمة هؤلاء، اذ من أجدر بفهم الاسلام منه، و هو الوريث الطبيعي لخلافة رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم.

و اذا ما تسائل أحد هنا هل يصح منه التصدي لهذه المهمة و يسعي لقيادة أمة مشلولة و مهزومة و مستسلمة و خائفة، أما قوة الانحراف و الظلم القوية المتحدة، و التي لن تسمح لأحد بالنيل من امتيازاتها و نفوذها حتي ولو كان هو رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم؟ لأن ذلك سيؤدي الي قتله و قتل من ينصره بهذه المهمة التي بدت منذ البداية محفوفة بالمخاطر.

أكان التراجع هو الموقف الصائب الصحيح، لتظل الأمة بعد ذلك مستسلمة للظلم الي الأبد، أم أن الصبر علي المخاطر و القتل هو الموقف الصحيح الجدير بقائد الأمة الاسلامية و خليفتها الشرعي الحقيقي؟

لقد أجاب الحسين عليه السلام عن هذا السؤال، لا بتصريحات و خطب و بيانات مجردة، و انما فعل واضح، أراده أن يكون جوابا ماثلا أمام الأجيال كلها لا الجيل الذي عاصره و حسب.

صحيح أنه سيعاني و يلاقي أهوالا من عدوه الشرس المتأهب لقتله و القضاء عليه، الا أن ما سيلقاه من أهوال و مصائب تتضاءل أمامها كل الأهوال و المصائب التي يمكن أن تمر بانسان، و هي جديرة بردع كل من يتحدي دولة الظلم المستبدة و يقف بوجهها، ولكن، حينما يكون هذا هو الطريق الوحيد للفت نظر الأمة الي واقعها المتردي في ظل هذه الدولة، كما أنه الطريق الوحيد لكبح جماح الطغاة و الجبابرة الذين سيحتلون مراكز القيادة و السلطان بالقوة و الاكراه، طالما أن أناسا سينتبهون الي طريق الحسين عليه السلام، و سيسيرون عليه و ينتصرون للاسلام، فان الصبر علي المصائب و الأهوال سيكون السبيل الوحيد لاتمام المسيرة، و هو أمر جدير بأن يكون أول من يتحمله الامام الحسين عليه السلام. فالرسالة الاسلامية و الأمة الاسلامية كلتاهما في خطر، و لا سبيل الي اصلاح الحال الا بفعل ثوري واضح لا مهادنة و لا التواء فيه، يرفض دولة الظلم جملة و تفصيلا.

لم يدع القرآن الناس للصبر علي الظلم و الاستكانة لسياط الظالمين و سيوفهم، و انما دعاهم لمنهجه و طريقه، و تحمل الأذي و المشاق في سبيل دعوة الناس اليه، و أن يصبروا، ولكن لا في زنزاناته أو في بيوتهم حيث يقتادون و يعذبون و يقتلون.


و انما و هم يواجهون الظلم و يتحدونه و يكشفون الظالمين و يقفون بوجوههم. فدول الظلم تلجأ دائما للأخذ علي الريبة و الشك و الظن، فمن لا يعلن ولاءه لها فهو عليها، و هي قد تلجأ الي حبس أو قتل من لم يحاولوا المساس بها و بسلطانها علي الاطلاق، صحيح أن هؤلاء مظلومون بنظر الآخرين من أمثالهم، غير أنهم لم يفعلوا شيئا لازالة دولة الظلم، و كانوا ساكتين عن مظالمها و انحرافها، أي أنهم تحملوا جانبا من مسؤولية السكوت عن الظلم، و أوذوا بعد ذلك دون سبب، و لمجرد أن اعتقدت الدولة أو أحد أعوانها أنهم أعداء لها.

و لو كانوا قد قاموا بعمل ايجابي من شأنه اسقاط دولة الظلم هذه، لكانوا قد استحقوا بجدارة لقب الشهيد، و لكان موتهم في سبيل الانتصار لدينهم و شتان ما بين الميتين.

قد يؤخذ الانسان في المرة الأولي فيقتل، و هو لا يدري أنه سيؤخذ حتي ساعة القبض عليه، و قد يعيش حتي تلك الساعة بهدوء و سعادة طالما أن الأذي لم يمسه و لا يتوقع أن يمسه شخصيا، لأنه قد هادن دولة الظلم و الكل يعرف ذلك عنه.

أما في الحالة الأخري، فانه عندما يواجه دولة الظلم و يعلن رفضه لها، فانه يعلم أنها سيواجه عواقب رفضه لها و استنكاره أفعالها، و ان الموت سيكون أحد تلك العواقب المحتملة بل المؤكدة، متي ما تيقنت السلطة من عداوته.

ان رفض الظلم و شن الحرب عليه مع احتمال الأذي و الموت من الأمور التي لا يقدر علي مواجهتها الا من تفتحت بصائرهم و تيقنوا بالاسلام حقا و نبذوا كل ما الصق به، مما من شأنه أن يجعل الناس مستسلمين لحكامهم مهما كانت أفعالهم بحجة أنهم أولوا الأمر الذين تجب طاعتهم علي الناس كافة.

ان صبره علي ما سيلحق به أو يلحق به فعلا، أمر اختاره بارداته، لأنه قد اختار الاسلام و منهجه الأصيل و رفض منهج الظلم و العدوان و الانحراف و أدرك أن عليه أن يواجه كل ما سيترتب عليه من نتائج لأن دولة الظلم لن تقف مكتوفة الأيدي أمام من تري أنه ينال منها و من نفوذها و سلطانها، و ستتصدي له بأعنف الأساليب و أشدها شراسة و وحشية، لحماية هذا النفوذ و هذا السلطان الذي يتيح لقادتها و أعوانهم التمتع بحياة مترفة، تختلف عن حياة الآخرين و تتفوق عليها، و هو الأمر الذي قد لا يتاح لهم في ظل الأوضاع الاسلامية الصحيحة.


دولة الظلم تحاول أن توهم الناس أن الاسلام يأمرهم بالصبر علي كل أفعالها و ممارساتها غير المشروعة، بينما الاسلام يأمرهم بالصبر و الثبات في مواجهة هذه الدولة و ازالتها، و الصبر و الثبات في مواجهة كل حالة ظلم و انحراف من الناس و الدول.

و لو أننا اطلعنا علي الموارد التي أمر فيها القرآن الكريم الناس بالصبر، لما رأينا أنه كان يحث الناس علي الاستسلام و الطاعة العمياء للكبراء و السادة و الحكام المتجبرين الذين لا يحكمون بما أنزل الله، انتظارا لنصر الهي لا يد لهم فيه و لا خطوة لهم باتجاهة.

و قد أرسل الله ملائكته تقاتل مع المسلمين مرة واحدة ببدر، حينما كانت القلة المسلمة تواجه أغلبية الشرك، و كان الاسلام يمر بلحظات حاسمة يتعلق بها أمر وجوده و ديمومته، و عندما كثر عدد المسلمين و أصبحوا قادرين علي مواجهة عدوهم دون امداد من الملائكة، فانهم أصبحوا ملزمين بتحمل مسؤوليتهم كاملة لمواجهة كل قوي الشرك و الانحراف، و أصبحوا ملزمين بالصبر و الثبات للتغلب علي عدوهم و دحره و طرده، و أصبحت القلة منهم بطاقتهم الايمانية الكبيرة مؤهلة لمواجهة هذا العدو باستمرار، و ان كان كبيرا و قويا. [1] .

كان لابد للفئة القليلة المؤمنة بالله أن تتغلب علي الفئة الكثيرة و الكبيرة باذن الله و مشيئته، و كان لابد أن يتكرر وجود هذه القلة القليلة باستمرار، و في كل الأجيال لتحمل رسالة الاسلام بوعي و يقين، و لتكون شاهدا علي هذه الأمة و مسيرتها في كل الظروف و الأحوال ليدرك الناس أن هناك من ينتمي للاسلام حقا، ولديه الاستعداد للتضحية في سبيله و تقديم أعز ما لديه في سبيل بقائه و وجوده.

ان موارد الصبر التي أشار اليها القرآن الكريم كانت تحث الأمة المسلمة علي التضحية في سبيل الاسلام و ارساء أحكامه و شريعته و محاربة الكفر و الشرك و الانحراف و الظلم، و لم تدع المسلمين في أي وقت لتحمل الظلم و الاهانة و الخروج المعلن عن الاسلام، و تحميله ما ليس فيه و تزوير حقائقه و وقائعه و تاريخه، و ترك أعنة


الأمور و زمامها بيد أعداء المسلمين الحقيقيين من الذين وردت شهادات مؤكدة بحقهم من القرآن الكريم، و من رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم، و الذين واجهوا الاسلام منذ البداية أعنف مواجهة قدر له أن يشهدها، و كانت كفيلة بالقضاء عليه لولا مشيئة الله بأن يكون هذا الدين هو الغالب، و هو المسيطر و هو الباقي بعد أن اختفت الأديان الأولي و لم يبق منها الا صور مشوهة مزورة، أريد حمل الناس علي تبنيها و الاعتقاد بها رغم مناقضتها الواضحة للفطرة الانسانية السليمة و العقل الانساني الواعي.

كما أن موارد الصبر هذه كانت كفيلة بجعل المسلم يعود الي صوابه و الي دينه، اذ ما أدرك مغزاها الحقيقي لا المزور، الذي حاولت دولة الظلم الأموية بثه و اشاعته و سارت علي نهجها في ذلك دول الظلم المعاقبة في محاولات منها لتعزيز نفوذها و سلطانها.


پاورقي

[1] و قد أشار القرآن الکريم الي ذلک بقول الله جل و علا (ان يکن منکم عشرون صبرون يغلبوا مائتين و ان يکن منکم مائة يغلبوا ألفا من الذين کفروا بأنهم قوم لا يفقهون) الأنفال: 65.