بازگشت

يأبي الله لنا ذلك... و أنوف حمية و نفوس أبية


و هكذا توجه الحسين عليه السلام بخطابه الي جموع الجيش المحتشد:

(ألا و ان الدعي ابن الدعي قد ركز بني اثنتين، بين السلة و الذلة، و هيهات منا الذلة، يأبي الله لنا ذلك و رسوله و المؤمنون، و حجور طابت و طهرت، و أنوف حمية و نفوس أبية من أن نؤثر طاعة اللئام علي مصارع الكرام.

ألا و قد أعذرت و أنذرت، ألا و اني زاحف بهذه الأسرة علي قلة العدد، و كثرة العدو، و خذلان الناصر). [1] .


و قد اتخذت احتياطات أمنية شديدة في جيش ابن سعد خوفا من انحياز بعض أفراده للحسين عليه السلام، (و استدعي شمر الفرسان، فصاروا في ظهور الرجالة، و أمر الرماة أن يرموه فرشقوه بالسهام.

و جاء الشمر في جماعة من أصحابه، فحالوا بين الحسين و بين رحله و عياله). [2] .

و قد بلغ خوفهم منه أنه حينما غلب علي عسكره و ركب المسناة يريد الفرات، قال أحد أصحاب ابن سعد:

«ويلكم حولوا بينه و بين الماء لا تتام اليه شيعته». [3] .

و قد فعلوا ذلك، الا أنهم لم ينجحوا بمنعه عن الماء الا بحيلة، و قد أخبره أحدهم قائلا:

(أتلتذ بشرب الماء و قد هتكت حرمك، فنفض الماء من يده و لم يشرب و حمل علي القوم، فكشفهم و قصد الخيمة، فاذا هي سالمة). [4] .

و اذ انشغل بتوصية عياله و أعدادهم لتقبل موته، فان ابن سعد عاد الي تحريض جماعته علي الهجوم عليه مرة أخري.

و قد شهدت ساحة المعركة مشهدا غير مشرف من أعدائه، الذين لم يكتفوا بتوجيه سيوفهم و رماحهم و سهامهم اليه، و انما أخذوا بتوجيه كلامهم الحاقد و غمزهم و شماتتهم المليئة بالشر و التشفي مع أن أحدا لم يطلب اليهم ذلك، و كان ذلك عملا تطوعيا أراد به أولئك الشامتون المتطرفون اثبات ولائهم و حبهم ليزيد و وقوفهم الي جانبه.

و من الملاحظ أن الحسين عليه السلام لم يدع علي أولئك الذين وجهوا سيوفهم و حرابهم اليه، فربما كانوا مدفوعين لذلك بدافع خوفهم من السلطة، بينما دعا علي


أولئك الذين تطوعوا للشماتة به و التعرض له بألسنتهم البذيئة، اذ لم يدعهم أحد لذلك و كانوا يحاولون ايهام الآخرين بأنهم يتبنون موقف الدولة عن قناعة و ايمان، مع أنهم من المتملقين الذين لا يهمهم مع من تميل الريح، ماداموا سيجدون الكلمات اللازمة للتعبير عن ولائهم لكل من يتغلب في المعركة.

لقد تحدثنا عن دعوة الامام الناس الي نصرته، و لم يكن ذلك بدافع من خوفه من أعدائه، الذين لم يستطيعوا ادعاء ذلك، و انما كان ذلك بدافع حرصه علي أن ينصروا الاسلام، و أن ينصروا الله، فدعوته كانت الي الله و الي منهجه و دينه الذي انتهك بشكل سافر و صريح، انه اذ يدعو الناس الي نفسه فهو انما يدعوهم الي جده صلي الله عليه و آله و سلم و الي الرجوع الي دينه، و نبذ الانحراف و الظلم و الشوائب التي ألحقت بهذا الدين، و رفض الاستسلام و الوقوع في أحضان أعداء الاسلام المتسترين باسمه و أغطيته و شعاراته.

و قد رأينا أنه كان يري بعين البصيرة و الوعي، بل و العلم اليقين، أنه سيموت قتلا بأيدي أولئك الذين دعوه الي نصرتهم و قيادتهم و انقاذهم من الجور و الانحراف الأموي المعلن، لكنه كان يري أنه بثورته و مقتله سيحقق نتائج كبيرة علي المدي البعيد فهو سيثير الأمة، و سيحرك كل الأجيال اللاحقة و في كل أنحاء العالم الاسلامي ليفكروا بشكل جدي بطبيعة الاسلام و مدي علاقته بحياتهم و اتصاله بهم، و سيجعلهم يدركون أن فيه، و فيه وحده سيحققون أهدافهم السامية و تطلعاتهم و طموحاتهم المشروعة، و سعادتهم الحقيقية، و ان من ركنوا اليهم و استسلموا لهم و انقادوا وراءهم، كانوا لا يحققون و لا يسعون الا وراء مصالحهم الخاصة التي تتقاطع تماما مع مصالح الأمة المسلمة، فعملية تكثير جنده و اضافة أفراد معدودين اليهم لم تكن تميل بمجري المعركة القادمة، و لم يكن ذلك همه الأول، بل ان دعوته الأساسية كانت تنصب علي ضرورة التخلي عن الدولة الأموية، بعد أن كشفت كل أرواقها و ظهر انحرافها المعلن أمام الأمة، و قد لمسنا ذلك في معظم خطبه و أحاديثه و نداءاته بكل وضوح و جلاء.

فهو عندما يريد تجريد الدولة الأموية من أعوانها و مريديها و جماهيرها، كان يريد تجريد دولة الظلم و الانحراف في كل مكان و زمان من جندها و أتباعها، و كان أي نجاح يحققه الامام عليه السلام مع عدة أفراد في هذا المجال، بل و حتي مع فرد واحد سيجعل القضية أقوي و أوضح في نظر الأمة، رغم أنها قوية و واضحة منذ الأساس،


و لم يؤثر في قوتها أو ينل من وضوحها قلة من كانوا معه، فالحق لا يقاس بالكثرة، و هو أمر أصبح من حقائق الحياة المطلقة.

لقد دعا قبيل وصوله كربلاء عبيد الله بن الحر الجعفي لنصرته و الانضمام اليه، و كان عبيد الله قد تجنب الالتقاء بالامام عليه السلام لئلا يدعوه لذلك، قال له الامام:

(ان أهل مصركم هذا كتبوا الي، انهم مجتمعون علي نصرتي، و سألوني القدوم عليهم، و ليس الأمر علي ما زعموا، و ان عليك ذنوبا كثيرة، فهل لك من توبة تمحو بها ذنوبك؟ تنصر ابن بنت نبيك و تقاتل معه.

قال ابن الحر: و الله، اني لأعلم من شايعك كان السعيد في الآخرة، ولكن ما عسي أن أغني عنك، و لم أخلف لك بالكوفة ناصرا، فأنشدك الله أن تحملني علي هذه الخطة، فان نفسي لا تسمح بالموت، ولكن فرسي هذه (الحلقة) فاركبها، فوالله ما طلبت عليها شيئا قط الا ألحقته، و لا طلبني أحد و أنا عليها الا سبقته، فخذها فهي لك، فاركبها حتي تلحق بمأمنك، و أنا لك بالعيالات حتي أردها اليك.

قال الحسين عليه السلام: «أما اذا رغبت بنفسك عنا، فلا حاجة لنا في فرسك و لا فيك.

(و ما كنت متخذ المضلين عضدا) [5] ولكن فر فلا لنا و لا علينا فوالله لا يسمع و اعيتنا أحد ثم لا ينصرنا الا أكبه الله علي وجهه في نار جهنم.

قال ابن الحر: أما هذه فلن يكون أبدا ان شاء الله). [6] .

و قد ندم ابن الحر علي موقفه هذا فيما بعد.

فهل كان هم الحسين عليه السلام النجاة بنفسه، حتي يقبل عرض ابن الحر و قبول فرسه؟ و هل المسألة أنه كان مطلوبا من قبل السلطة و مطاردا من قبلها؟

أم أنه اذا صح التعبير كان هو الذي يطارد السلطة و يقض مضاجع رجالها و يجلعها في قلق من ثورته المعلنة أمام الأمة و رفضه النهائي لها؟


كانت دعوته ابن الحر لنصرته تعني دعوته لنصرة الاسلام.

و كان من لا يتقدم لنصرته، يخذل الاسلام و يتخلي عنه.

و كان الالتحاق بمن يحاربه يعني الالتحاق بصفوف أعداء الاسلام.

و اذا ما وجد امرؤ مثل ابن الحر في نفسه عجزا و ضعفا عن نصرة الاسلام، و رأي أنه خائف و متخاذل و مهزوم فعليه علي الأقل أن لا يقف في صف أعداء الاسلام، و عليه أن لا يحاربه بمحاربة حامل لوائه و القائد الشرعي الوحيد للأمة المسلمة.

كان الحسين عليه السلام يريد من الأمة أن تعرف قادتها و أئمتها الحقيقيين، و أن تسير وراءهم، و أن تنبذ كل دعوة مخالفة لدعوتهم، و كل حزب أو فئة تمرق عن الدين و عن طريق رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم و تشذ عنه، و كان يعدها لاستقبال قادتها الحقيقيين و احتضانهم و السير وراءهم، حتي و ان تباعدت الأيام و تم الأمر بعد حين من الدهر.

لم يكن ير أمامه، و هو يعيش لحظاته الأخيرة، و قد تخلت الأمة عنه و عن الاسلام تحت الضغط الأموي، سوي الله، فهو ثقته و رجاؤه و عدته، لقد كان يحتسب كل ما نزل به عند الله، لأنه لم يعمل ما عمله الا في سبيله و لوجهه وحده، و لم يجد في تلك اللحظات العصيبة الحزينة أحدا يتوجه اليه أو يخاطبه سوي خالقه الحبيب القريب، لقد توجه اليه بينما أصحابه و أهل بيته يقتلون بين يديه، و قد وضع مصحفا أمامه بمناجاة حارة حميمة:

«اللهم أنت ثقتي في كل كرب و رجائي في كل شدة، و أنت لي في كل أمر نزل بي ثقة وعدة. كم من هم يضعف فيه الفؤاد، و تقل فيه الحيلة، و يخذل فيه الصديق و يشمت به العدو أنزلته بك و شكوته اليك، رغبة اليك عمن سواك، ففرجته و كشفته و كفيتنيه، فأنت ولي كل نعمة، و صاحب كل حسنة، و منتهي كل رغبة). [7] .

لقد كان مع الله دائما، فكان الله معه دائما. لم يضعف فؤاده و لم يخش عدوه و قد كان الله ثقته و رجاءه في كل كرب و شدة، اشتكي اليه ضعف الأمة و استسلامها و تخاذلها و انكسارها و وقوعها جثة هامدة بين أيدي أعدائه، و اشتكي اليه ما تفعله به، و هو يسعي لانقاذها و تخليصها من بين أيدي هؤلاء الأعداء، و لم ير في من دعوه


فائدة، و ها هم قد تخلوا عنه و أبوا الا تسليمه لحاكمهم الظالم أو قتله، و ها هم يوشكون علي ارتكاب أبشع جريمة في تاريخ الانسانية، و قد عجز عن اقناعهم بالرجوع اليه و الي نهجه، أرادوا منه النزول علي حكم عبيد الله بن زياد. و أية شريعة أو نهج يلتزم به ابن زياد حتي يمكن اعطاء هذه الوعود بدلا عنه؟

و هل يلتزم بقانون عادل حتي يستطيع أحد ضمان حريته معه؟ أم أن القانون الوحيد الذي التزم به هو قانون الدولة الجائرة التي نبذت الاسلام و أبعدته عن الحياة؟

لقد أعطوا أمانا لمسلم من قبل أعطاه محمد بن الأشعث نيابة عن ابن زياد و لم يلتزم ابن زياد بوعود ابن الأشعث، و لعلهما دبرا مسألة اعطاء هذه الوعود الكاذبة سوية الاستدراج أعدائهما الي فخاخهما.

و قد أعاد قيس ابن الأشعث وعوده للحسين عليه السلام و قال له:

(أولا تنزل علي حكم بني عمك، فانهم لن يروك الا ما تحب و لن يصل اليك منهم مكروه). [8] .

و هو كلام مضلل ملي ء بالتمويه و المغالطات. و قد أريد منه اشعار أفراد الجيش بأن المعركة هي بين أبناء عمومة واحدة، و بين أهل يحب أحدهم الآخر تماما كما كان معاوية يروج من قبل و ان الحسين عليه السلام بثورته و رفضه مبايعة يزيد هو الذي يجني علي نفسه عاقبة القتل، و أنه لو استسلم فأنه سيضمن سلامته الشخصية علي الأقل.

و قد كشف الحسين عليه السلام مغالطة ابن الأشعث هذه بقوله:

(أنت أخو أخيك، أتريد أن يطلبك بنوهاشم بأكثر من دم مسلم بن عقيل لا و الله لا أعطيهم بيدي اعطاء الذليل، و لا أقر اقرار العبيد). [9] .



پاورقي

[1] تاريخ ابن‏عساکر الجزء الخاص بريحانة الرسول المستل من التاريخ العام 3، ص 218، و الخوارزمي 2، ص 8 / 7، و اللهوف ص 42، و بحارالأنوار 45، ص 10، و جلاء العيون 177 / 2، و مقتل الحسين، للسيد محمد تقي بحر العلوم 380.

[2] الطبري 319 / 3.

[3] المناقب 110 / 4، و روضة الواعظين ص 189، و أنساب الأشراف للبلاذري 202 / 3. الطبري 333 / 3.

[4] الطبري 332 / 3.

[5] الکهف: 51.

[6] الطبري 308 / 3، و ابن‏الأثير 282 / 3، و خزانة الأدب للبغدادي ط بولاق 298 / 1، و البلاذري في الأنساب 174 / 3، و الدينوري 249، و أمالي الصدوق / م 30، و الارشاد 209، و الفتوح 130 / 5.

[7] ابن‏الأثير 418 / 3.

[8] الطبري 319 / 3.

[9] الطبري 319 / 3.