بازگشت

شجاعة الحسين هذا الشبل من ذاك الأسد


لقد روي لنا أحد من شاركوا بقتاله و هو من أعدائه أخبارا عن ثباته و شجاعته، قال:

(فشد عليه رجاله ممن عن يمينه و شماله، فحمل علي من عن يمينه حتي ابذعروا و علي من عن شماله حتي ابذعروا، و عليه قميص له من خز و هو معتم، فوالله ما رأيت قبله و لا بعده مثله، ان كانت الرجالة لتنكشف من عن يمينه و شماله انكشاف المعزي اذا شد فيها الذئب). [1] .

و قال آخر:

(سمعته يقول قبل أن يقتل، و هو يقاتل علي رجليه قتال الفارس، الشجاع، يتقي الرمية، و يفترص العورة، و يشد علي الخيل، و هو يقول: أعلي قتلي تحاثون؛ أما و الله لا تقتلون بعدي عبدا من عباد الله، الله أسخط عليكم لقتله مني. و أيم الله اني لأرجو أن يكرمني الله بهوانكم، ثم ينتقم لي منكم من حيث لا تشعرون. أما و الله لو


قد قتلتموني لقد ألقي الله بأسكم بينكم، و سفك دماءكم، ثم لا يرضي لكم حتي يضاعف لكم العذاب الأليم). [2] .

و لقد شهد له من قبل عمر بن سعد، عدوه اللدود، حينما خاطب شمرا، مبعوث ابن زياد اليه و قد طلب منه اجبار الحسين عليه السلام علي الاستسلام و مبايعة يزيد، قائلا:

(لا يستسلم و الله حسين. ان نفسا أبية لبين جنبيه). [3] .

كان تصديه منذ البداية لدولة الظلم و رفضه اياها و امتناعه عن مبايعة يزيد الذي كان يسيطر علي زمامها سيطرة تامة، في وقت خلت الساحة من المعارضين و الناوئين، ينطوي علي شجاعة كبيرة جديرة بالحسين عليه السلام حقا.

و اذ كان الأمر بنظر المهزومين المستسلمين ينطوي علي قدر كبير من المجازفة و التسرع و عدم الحيطة، فانه بدا أمام الحسين عليه السلام و قد سعي لمهمته الكبيرة في منع الانحراف و ايقافه الحل الوحيد لجعل الأمة تلتفت التفاتة واعية الي واقعها المزري في ظل الحكم الأموي. و رأي أن ما سيقدمه و هو حياته سيكون ثمنا مناسبا لمثل هذه المهمة الكبيرة، و هو ما فعله و أقدم عليه بكل شجاعة و صبر، غير متردد أو خائف في أية مرحلة من مراحل مسيرته المظفرة، و في أي موقف من المواقف التي جرت بينه و بين أعدائه و رغم التحذيرات و (النصائح) و التهديدات التي أشارت الي حتمية قتله بيد أعوان السلطة ان هو استمر في موقفه الرافض للحكم، فقراره الذي اتخذه كان هو القرار الوحيد المناسب.

و قد تمثل قبيل خروجه من المدينة الي مكة ببيتين من الشعر بدا فيها تصميمه علي رفض الانحراف نهائيا، بل و اعلان الحرب عليه ان أتيحت له الفرصة لذلك.

روي عن واحد من شاهدوه قبيل خروجه من المدينة قوله:

(نظرت الي الحسين داخلا مسجد المدينة، و انه ليمشي و هو معتمد علي رجلين، يعتمد علي هذا مرة و علي هذا مرة، و هو يتمثل بقول ابن مفزع:




لا ذعرت السوام في فلق الص

بح مغيرا و لا دعيت يزيدا



يوم أعطي المهابة ضيما

و المنايا يرصدنني ان أحيدا



فقلت في نفسي: و الله ما تمثل بهذين البيتين الا لشي ء يريد، فما مكث الا يومين حتي بلغني أنه سار الي مكة). [4] .

و قد لزم الطريق العام و لم يأخذ طريق الفرع كما فعل ابن الزبير خوفا من رجال السلطة، لقد كان يتبني قضية أراد لها أن تكون معلنة أمام الأمة كلها، لتصدر فيها حكمها، و لو فيما بعد، و تقف الموقف الصحيح منها..، و لم تكن قضيته قابلة للمساومة و تقليب الرأي و اعادة النظر، أمام الفساد المستشري في جسم الأمة كلها بدءا من رأسها المركب لها علي غير رغبتها و ارادتها، و لم يكن الخطر المحتمل في أية مرحلة من مراحل ثورته ليهزه أو ينال من عزمه، فمسيرته قد بدأت فعلا قبل يزيد عندما أشعر معاوية و الأمة كلها برفضه له، و ثمن المواجهة ربما قد تحدد سلفا و هو حياته فلم يكن يهمه الوقت الذي سيدفع فيه ذلك الثمن، مادام ذلك قد تقرر فعلا، و مادام كفيلا بتحقيق هدفه الكبير، و هو منع الانحراف و منع دولة الظلم من التمادي الي أبعد حد في ظلمها و انحرافها.

لقد حاول الحر منعه من الاستمرار في موقفه الرافض لدولة الظلم و رأسها يزيد، و رأي أنه بذلك يسعي لموت محقق، خصوصا و أن بوادر الجيش الأموي كانت مستعدة لحربه و قتله، و قد بدت علي جواب الامام عليه السلام نبرة تعجب و استغراب من هذا التهديد، فالموت لم يكن أمرا مخيفا للدرجة التي يتصورها الآخرون، الذين لا يحملون قضيته و تصوراته و فهمه، بل أنه يبدو النتيجة الطبيعية لمسعاه الكبير.

و هل من المعقول أن الحسين عليه السلام لا يبلغ مبلغ انسان عادي من أصحاب النبي صلي الله عليه و آله و سلم، و قد استشهد بشعره في هذا لموقف، مع أنه وريث الرسالة و صاحب المسؤولية الأولي لنشرها و حفظها من الانحراف و التزوير؟

قال له:

(أفبالموت تخوفني؟ و هل يعدو بكم الخطب أن تقتلوني؟


و سأقول لك كما قال آخو الأوس لابن عمه حين لقيه و هو يريد نصرة رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم، فخوفه ابن عمه، و قال له: أين تذهب فانك مقتول، فقال:



سأمضي، و ما بالموت عار علي الفتي

اذا ما نوي حقا و جاهد مسلما



و واسي الرجال الصالحين بنفسه

و خالف مثبورا و فارق مجرما



فان عشت لم أندم، و ان مت لم ألم

كفي بك ذلا أن تعيش و ترغما) [5] .



فهل القضية هنا معه، غيرها بالأمس مع جده صلي الله عليه و آله و سلم؟

ألم يكن الأمر برمته اليوم و بالأمس يستهدف الدفاع عن الاسلام؟ و اذ لم يخف الرسول صلي الله عليه و آله و سلم و أصحابه الموت، مادام الأمر كذلك، فكيف يخاف هو و يتراجع لمجرد أن يهدد بذلك؟

و كان له موقف آخر مع الحر، عندما أراد احتجاز النفر الأربعة الذين التحقوا به في (عذيب الهجانات) أو ردهم الي الكوفة بحجة أنهم ليسوا ممن أقبل معه، فقد حاول الحسين عليه السلام منعه من ذلك و رفض بشدة التخلي عنهم، و قال للحر:

(لأمنعنهم مما أمنع منه نفسي، انما هؤلاء أنصاري و أعواني، و قد كنت أعطيتني ألا تعرض لي بشي ء حتي يأتيك كتاب من ابن زياد.

فقال: أجل لكن لم يأتوا معك.

قال: هم أصحابي، و هم بمنزلة من جاء معي، فان تممت علي ما كان بيني و بينك و الا ناجزتك فكف عنهم الحر). [6] .

و تبرز مشاهد عديدة نري فيها الحسين عليه السلام يسارع لنجدة أصحابه و أهل بيته في أشد المواقف و أكثرها هولا و حرجا، و بالتأكيد فان له في نفوس أعدائه هيبة يشعرون معها أن لا طاقة لأي منهم أن يقف منفردا لمواجهته، و لعلهم لو تقدموا اليه بمبارزات فردية لما استطاعوا التغلب عليه، غير أنهم لجأوا الي أسلوب الهجوم


الجماعي عليه و علي أصحابه، و كانت الغلبة للكثرة التي استخدمت مختلف الأسلحة حتي الحجارة للقضاء عليهم و قتلهم.

و لعله أمر غريب في تاريخ المعارك أن تقوم الفئة القليلة مثل الحسين و أصحابه عليه السلام بتوجيه الانذارات و دعوة الفئة الكثيرة مثل جيش ابن زياد الذي قد يتفوق عدديا علي أصحاب الحسين عليه السلام بألف مرة أو خمسمائة مرة في أكثر التقديرات للتراجع عن مواقفها الخاطئة باسناد دولة الظلم.

كان أصحاب الحسين يشعرون أنهم يتفوقون علي عدوهم لأنهم يحملون قضية عادلة جادة يتعلق بها مصير الأمة كلها، و لم يشعر عدوهم بالمقابل أنه يحمل قضية ما و بدا منقادا لأوامر خاصة من كبرائه و زعمائه الذين لم يكن يهمهم سوي تثبيت مراكزهم و عروشهم علي أطلال مركز الخلافة المدمر.

لقد أراد الحسين عليه السلام اشعارهم أن ارادة يزيد أو ابن زياد ليست جديرة بأن تتغلب و يخضع له الناس مادامت تسير باتجاه تهديم الدين و تحطيم قواعده و أسسه، و أن الخضوع ينبغي أن يكون لله وحده، و أن لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، بل الطاعة لمن أطاع الخالق حقا و سار علي نهجه، و اذا ما كان الموت ثمنا لتحدي تلك الارادة التي تتحدي ارادة الله فان هذا الثمن لن يبدو باهظا أما الاستجابة الواعية للارادة الالهية الحكيمة.


پاورقي

[1] الطبري 334 / 3، و ابن‏الأثير 432 / 431 / 3.

[2] المصدر السابق.

[3] الطبري 313 / 3، و ابن‏الأثير 415 / 3.

[4] الطبري 271 / 3.

[5] الطبري 271 / 3. و الارشاد 208، و الخوارزمي 189 / 1. و قد ورد فيه قوله و قد عرض عليه أن يحيد عن ذلک الطريق فقال: (لا فارقت هذا الطريق أبدا أو انظر الي أبيات مکة، و يقضي الله في ذلک ما يحب و يرضي).

[6] الطبري 307 / 3، و ابن‏الأثير 280 / 3، و روضة الواعظين ص 180، و المناقب 96 / 4، و الارشاد 208، و الخوارزمي 1 ف 11 و أنساب الأشراف للبلاذري 171 / 3.