بازگشت

تحذير الأمة المستسلمة من المصير الأسود الذي ينتظرها في الدنيا و الآخرة


كان موقف أهل الكوفة - و هي آخر شريحة صمدت بوجه النظام الأموي، ثم استسلمت و تراجعت بعد ذلك أمام سياطه و أرهابة و رشوته - مقلقا بل محزنا حقا.

أهذه هي بقية الأمة الاسلامية التي نهضت مع الرسول صلي الله عليه و آله و سلم لنشر دين الله في الأرض؟ و هل هي بقية الطليعة الجديدة التي رباها أميرالمؤمنين و عزم علي مواجهة أعداء الاسلام بها؟ أي شي ء سيوقظ هؤلاء و يجعلهم يتراجعون عن استسلامهم المهين و يعودون الي قواعدهم الصحيحة في ظل الاسلام؟

هل ستكون النصيحة وحدها و قد بذلها الحسين عليه السلام لهم، و أوضح لهم العواقب الوخيمة التي تنتظرهم اذا ما مضوا الي نهاية الشوط في استسلامهم - كافية لمنعم من الانسياق وراء دولة الظلم لتنفيذ مآربها و غاياتها لتدمير المجتمع الاسلامي؟

لا شك أن منظرهم، و هم يحيطون به، عازمين علي قتله، لن يكون من الأمور التي تنسي، و سيكونون هم من أشد الناس ندما، و هم يستعيدون تلك الجريمة الرهيبة التي يعلنون بارتكابها تخليهم عن الاسلام و خط الرسول صلي الله عليه و آله و سلم الصحيح، و تبني الخط الجاهلي الأموي الجديد، و لا شك أن تقريعا أو لوما لن ينفع مع أولئك المتخاذلين، غير أن الامام الحسين عليه السلام عندما يواجههم بذلك في أشد الظروف حراجة مع علمه أن ذلك لن يغيرهم أو يعيدهم الي الصواب، فان صرخته ستظل مل ء أسماع الأمة دائما، كما ستحتل وقفته مساحة كبيرة في ذاكرتهما و سيجد من ينتصر له و يتبني موقفه حتي و ان بعدت الشقة و طال الزمن.

لقد تقدم الحسين عليه السلام و اصحابه لجيش ابن زياد بالنصح و الارشاد، و بذلوا جهودهم في ذلك، تقدم من أصحابه زهير بن القين و برير بن خضير الهمداني ينصحانهم و يدعوانهم لالتزام خط الحسين عليه السلام و ترك يزيد و أعوانه، و قد بلغ بهما الجهد في ذلك حدا دعا الحسين عليه السلام، لاستدعاء زهير قائلا:

(أقبل، فلعمري، لئن كان مؤمن آل فرعون نصح قومه و بلغ في الدعاء، فلقد نصحت لهؤلاء، و أبلغت لو نفع النصح و الابلاغ). [1] .


ستتوجه الأمة كلها باللوم - فيما بعد - لأولئك الذين تنازلوا أمام يزيد عن دينهم و عن كل المثل العظيمة التي جاء بها، و ستكون صرخة الحسين عليه السلام بداية لصرخات احتجاج عديدة، و رفضه للظلم رفضا دائما له من قبل أبناء الأمة المسلمة، و من يرفض الظلم يحاول أن لا يضع نفسه موضع الظالم، و اذا ما كان الحسين عليه السلام يري لزما عليه أن لا يخضع لفرعون زمانه، فان الأمة ستجد نفسها ملزمة برفض كل فرعون، مهما علا و تجبر، و مهما تلون و تستر، و لن تجد نفسها مخدوعة بأباطيله. كان لابد من كلمات نافذة كالسهام يلقيها الحسين عليه السلام بوجوه أولئك المستسلمين الخانعين، بعد أن لم تجد معهم كلمات النصح و الارشاد الرقيقة الهادئة، و ما عسي أن تجدي الكلمات مع أناس الفوا الذل و اعادوا خشونة المعاملة و حديث السياط، غير أن الحجة لابد أن تلقي، و لابد أن يدرك أولئك الذين تخلوا عن نبيهم و رسالته و عترته - و لو بعد حين - أنهم كانوا مخطئين و كانوا منساقين وراءهم كبير، حينما ارتضوا الانخراط في جيش دولة الانحراف جنودا مرتزقة لا يهمهم سوي جني المكاسب اليسيرة، و الحفاظ علي حياتهم من الوحش المتربص بهم.

و اذا كانت لا تجدي مع هؤلاء فانها ستكون ذات جدوي كبيرة مع أولئك الذين أطل عليهم الاسلام عبر العصور، و مع الفئات الواعية من أبناء الأمة التي سيصلها صوت الحسين القوي الحازم.

و لنا أن نتصور مشهد الحسين عليه السلام و قد ركب فرسه - و قيل ناقته - و أخذ مصحفا و نشره علي رأسه و تقدم نحو الجيش الميحط به و طلب منهم الاصغاء اليه بعد لم تجد نصائحه معهم، كان يعتم بعمامة جده رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم و يحمل سيف و درعه، و قد أعلمهم أنها لرسول الله صلي الله عليه و آله و سلم، و لنا أن نتصور الايحاء الكبير الذي يمكن أن يبعثه ذلك في نفوس أفراد الجيش (المسلم)، كان أقل ما يمكن أن يفعلوه هو أن يسيروا خلف هذا السيف و تلك العمامة، ليجددوا عهدا برسول الله صلي الله عليه و آله و سلم و يبرهنوا علي صدقهم و ولائهم لمسيرته و خطه الصحيح بالسير خلف أبنائه عليهم السلام الي نهاية الشوط، فمسيرة رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم لم تنته بموته، و الاسلام لم يقدر له أن يموت في تلك اللحظة، و قد أعد صلي الله عليه و آله و سلم و ربي القيادة المؤهلة الواعية التي يمكن أن تكمل تلك المسيرة بأعلي قدر من الكفاءة و دقة الاداء.

لابد أن مشهد الحسين عليه السلام، و هو يشخص أمامهم صورة حية لجده صلي الله عليه و آله و سلم، يحمل تراثه و يتقدم بنفس خطاته الواثقة في سبيل الاسلام، ستفعل فعلها في أكثر


النفوس غفلة و خوفا و سيكون له نفس تأثير جده صلي الله عليه و آله و سلم لو برز أمامهم و طلب منهم الدفاع عن الاسلام. و مع ذلك فان نفوس أهل الكوفة في ذلك الظرف الرهيب كانت مكبلة بقيود خوف شديد من سلطة الظلم التي كان يمثلها ابن زياد هناك.

لم يؤثر فيهم جلال الحسين، و هيبة الحسين و شخوصه أمامهم صورة ناطقة لجده الكريم صلي الله عليه و آله و سلم، غير أن ما لم يؤثر فيهم لن يظل علي الدوام غير مؤثر علي الآخرين، و لابد أن أجيالا أخري سيهزما هذا المشهد و هذا الموقف، و ستري فيه حافزا للتصدي لدولة الظلم أينما كانت و أينما وجدت، و ستجد بكل غيور علي الاسلام و مضح في سبيله ممثلا لرسول الله صلي الله عليه و آله و سلم، و سيشخص الحسين عليه السلام علي الدوام بتضحيته الكبيرة و مواقفه العظيمة قائدا لكل من يريد عز الاسلام و سيادته.

لقد خاطبهم الامام عليه السلام بعد أن رأي اصرارهم علي مواجهة و قتله أو تسليمه لابن زياد قائلا:

(تبا لكم أيتها الجماعة و ترحا. أحين استصرختمونا و الهين فأصرخناكم موجفين، سللتم علينا سيفا لنا في أيمانكم، و حششتم علينا نارا اقتدحناها علي عدونا و عدوكم، فأصبحتم البا لأعدائكم علي أوليائكم، و يدا عليهم لأعدائكم، بغير عدل أفشوه فيكم، و لا أمل أصبح لكم فيهم، الا الحرام من الدنيا أنالوكم، و خسيس عيش طمعتم فيه، من غير حدث كان منا، و لا رأي تفيل لكم، فهلا لكم الويلات، اذ كرهتمونا و تركتمونا و السيف مشيم و الجأش طامن، و الرأي لما يستحصف، ولكن أسرعتم اليها كطيرة الدبي. و تهافتم عليها كتهافت الفراش، ثم نقضتموها، فسحقا لكم يا عبيد الأمة، و شذاذ الأحزاب، و نبذة الكتاب، و محرفي الكلم، و نفثة الشيطان، و عصبة الآثام، و مطفئي السنن، و قتلة أولاد الأنبياء، و مبيري عترة الأوصياء، و ملحقي العار بالنسب، و مؤذي المؤمنين، و صراخ أئمة المستهزئين (الذين جعلوا القرءان عضين) (لبئس ما قدمت لهم أنفسهم أن سخط الله عليهم و في العذاب هم خلدون)

و أنتم ابن حرب و أشياعه تعتمدون، و عنا تتخاذلون. أجل - و الله - غدر فيكم قديم، و شجت عليه أصولكم، و تأزرت عليه فروعكم، و ثبتت عليه قلوبكم، و غشيت صدروكم، فكنتم أخبث ثمر شجا للناظر، و أكلة للغاضب. ألا لعنة الله علي الناكثين، الذين ينقضون الايمان بعد توكيدها، و قد جعلتم الله عليكم كفيلا. فأنتم - و الله - هم.


الا و ان الدعي ابن الدعي قد ركز بين اثنتين بين السلة و الذلة، و هيهات منا الذلة، يأبي الله لنا ذلك و رسوله و المؤمنون، و حجور طابت و طهرت، و أنوف حمية و نفوس أبية من أن نؤثر طاعة اللئام علي مصارع الكرام.

ألا و قد أعذرت و أنذرت، ألا و اني زاحف بهذه الأسرة علي قلة العدد و كثرة العدو، و خذلان الناصر



فان نهزم فهزامون قدما

و ان نهزم فغير مهزمينا



و ما أن طبنا جبن ولكن

منايانا و دولة آخرينا



اذا ما الموت رفع عن أناس

كلاكله أناخ بآخرينا



فأفني ذلكم سروات قومي

كما أفني القرون الأولينا



فلو خلد الملوك اذ خلدنا

ولو بقي الكرام اذا بقينا



فقل للشامتين بنا: أفيقوا

سيلقي الشامتون كما لقينا [2] .



أما والله، لا تلبثون بعدها الا كريثما يركب الفرس، حتي تدور بكم دوران الرحي، و تقلق بكم قلق المحور، عهد الي أبي عن جدي رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم، «فأجمعوا أمركم و شركاءكم ثم لا يكن أمركم عليكم غمة، ثم اقضوا الي و لا تنظرون» اني توكلت علي الله ربي و ربكم، ما من دابة الا هو آخذ بناصيتها، ان ربي علي صراط مستقيم.

ثم رفع يديه الي السماء و قال: اللهم احبس عنهم قطر السماء، و ابعث عليهم سنين كسني يوسف، و سلط عليهم غلام ثقيف يسقيهم كأسا مصبرة، فانهم كذبونا و خذلونا، و أنت (ربنا عليك توكلنا و اليك أنبنا و اليك المصير). [3] .

كان ينبههم بذلك عن أنهم يضعون أنفسهم في الصف المعادي لرسول الله صلي الله عليه و آله و سلم حينما يحاربون و يقتلون آله و أوصياءه و حملة رسالته، و لم يكن في تلك الكلمات ما يشير الي أنه كان يحاول استثارة عطفهم لكي يعفوا عنه فلا يقتلوه، فلو كان يريد مجرد


ضمان سلامته لكانت اشارة واحدة منه تكفي لكي يشاركه يزيد حكمه، اذا ما استجاب له و قبل مبايعته. و لكان قد كفي مؤونة تجشم ذلك الموقف الصعب، و لما كان قد أشار الي انحراف الدولة. و ظلمها بتلك الكلمات الواضحة التي تثبت عداوته و نبذه لها و رفضه كل ممارساتها و ألوان ظلمها لكنه كان يتحرق شوقا لانقاذهم و ابعادهم عن طريق الشر الذي سلكوه، و كان يريد أن يظلوا طليعة عقائدية مجاهدة تتقدم الأمة، لا مقدمة لأمة خائنة مستسلمة ذليلة، حتي لقد أوضح لهم أنه يريد الاستشهاد من أجل هذه الأمة، فهل كان عجيبا منه أن بذل جهودا خارقة من أجل اقناع هذه الفئة التي تنصر الظالم و تندفع خلفه لتحقيق أهدافه و مطامعه، مع أنها هي الفئة المظلومة المسلوبة المباحة؟ لقد اقتيدت هكذا، و بهذا الشكل المهين لتقتل نفسها و تستأصل نفسها اذ تقدم علي قتل قائدها و امامها و خليفتها الحقيقي، لأنها ستكون حتما هي الضحية التالية، و من هنا كان تحذيره عليه السلام لهم بأنهم ان قتلوه، فان الله سيلقي بأسهم بينهم و يسفك دماءهم، ثم لا يرضي لهم بذلك حتي يضاعف لم العذاب الأليم.

ان هذه نتيجة حتمية لكل أمة خائفة مستسلمة تتخلي عن قيادتها الحقيقية القادرة علي لم شملها، و تستجيب للانحراف، و تنقاد له، و تسير مغمضة الأعين خلف طواغيتها و كبرائها و مذليها و فراعنتها و مترفيها، و هي سنة الهية تخضع لها كل الأمم التي تستجيب دون ارادة أو وعي لهؤلاء الحكام الفراعنة، و هي كل الأمم التي انتهكت حرمتها و مقدراتها، و أصبحت مجرد قطعان من الأنعام تنقاد بسهولة لجزاريها و جلاديها و قتلتها و رعاتها الأغبياء الجهلة.



پاورقي

[1] الطبري 320 / 3، و ابن‏الأثير 288 / 3، و جمهرة خطب العرب 48 / 2، و نهاية الأرب 444 / 20.

[2] ورد في اللهوف و بعض المصادر الأخري أن الأبيات لفروة بن مسبک المرادي.

[3] ابن‏عساکر، الجزء الخاص بريحانة الرسول المستل من التاريخ العام ص 218، و مقتل الخوارزمي ج 2 ص 8 / 7، و اللهوف ص 42 / 41، و بحارالأنوار ج 45 ص 10 / 8، و جلاء العيون ج 2 ص 177، و مقتل الحسين للسيد محمد تقي آل بحر العلوم 380 / 378.