بازگشت

الامام الحسين يضع الأمة في موضع المقارنة بين طرفي الصراع


عني الامام الحسين عليه السلام عناية فائقة خلال فصول المعركة و قبلها بتعريف الناس طرفي الخلاف و الصراع، و من شكلوا معسكري المعركة القائمة، و طبيعة أهدافهم و توجهاتهم، ليتسني لأفراد الأمة التمييز، و ملاحظة الفرق بينهم، و اتاحة الفرص لهم لاتخاذ الموقف المناسب علي ضوء ذلك و اعادة النظر في مواقفهم السابقة، و قد لاحظنا كيف أنه كشف المعسكر المقابل الذي تزعمه يزيد، باستعراض أعماله و ممارسته. البعيدة عن الاسلام، بل لعل الفترة التي بايع فيها معاوية يزيدا، و حتي هلاكه كانت مكرسة من قبل الامام عليه السلام لكشف و بيان عيوبه و مساوئه و عدم أهليته لاستلام أبسط المناصب في الدولة الاسلامية ناهيك عن مركز الخلافة الأول و لم يكن يصف محجوبا (يزيد) - كما عبر حينما يكشف للأمة انحرافه ولكنه و هو بصدد خوض معركة ضد من رفضهم و أبي الاستسلام لهم، وجد أنه لابد له من تعريتهم و كشفهم و بيان حقيقتهم أمام الأمة و أمام من استمالوهم و جعلوهم ضد الخط الرسالي الصحيح و هو خط آل البيت، و جعلوهم وقودا لأطماعهم و نزواتهم، لكي تظل حجته قائمة عليهم، يديرونها في أذهانهم.

و لو بعد حين، و يناقشونها و يدرسون أبعادها، ليكشفوا أن وصل بهم الحال في ظل استسلامهم و انحرافهم و خوفهم.

و قد رأينا - قبل قليل - كيف عرض عليهم بشكل دقيق الحال المأساوية التي كانوا يمرون بها في ظل قيادة منحرفة نبذت الاسلام نهائيا، و لم تلزم نفسها بقوانينه، و أحكامه، و اتخذت من بعض الأمور المظهرية ستارا لتغطية أفعالها و ممارستها غير المشروعة، و اعتمدت الجور و الباطل و المنكر، و عطلت الحدود، و أظهرت الفساد


و أحلت حرام الله و حرمت حلاله، كما جاء في خطبه و كلماته العديدة، مع من التقي بهم و حتي أولئك الذين حاربوه و قتلوه فيما بعد

كان يستعرض أمامهم عمل القيادة المنحرفة لكي يعلموا من هي، و لماذا قامت بما قامت به من أفعال و ممارسات شاذة بعيدة عن الاسلام، و قد أثار بذلك في نفوسهم تساؤلات عديدة عن هذه القيادة التي ارتضوا الارتماء و التمرغ تحت قدميها، و لا تزال التساؤلات تثار حتي اليوم عن طبيعة تلك القيادة التي سبب الكوارث و الويلات للمسلمين، و صارت سببا لضعفهم و تخلفهم.

و قد قام من جهة أخري - بعرفهم بالمعسكر الآخر المناوي ء للمنحرفين، و الذي يتزعمه هو عليه السلام، انه يثير في أذهانهم - كذلك - تساؤلات عديدة عن سبب قيامه بالثورة، خصوصا و أنه ليس بالشخص العادي، و انما هو رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم و وارث علمه و حكمه و قد استسهل الموت و أقدم عليه بشجاعة منقطعة النظير، و رآه أمرا هينا و محتما أيضا و هو يتصدي لأكبر مهمة اتيح لامري ء بعد رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم أن يقوم بها، و هي انقاذ الأمة من براثن الانحراف الأموي المعلن و المتسارع.

انه لا يعرفهم بنفسه - علي أنه أحد أشراف قريش المرموقين، و أحد الذين نالوا شرف قرابة رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم، فهذا لجأ اليه كل أولئك الذين نافسوا أميرالمؤمنين عليه السلام و حاربوه من قبل، و ادعوه لأنفسهم بشكل مثير للانتباه، كما فعل معاوية - بادعائه أنه خال المؤمنين، ان الحسين عليه السلام يذكرهم بأمور ربما تناسوها أو أريد لهم تناسيها عمدا و لو لأمد قصير ريثما تنجز المهام التي كلفوا بها، و تنجز الخطط التي أرادت الدولة انجازها لا ضاعة الاسلام و أبعاده عن حياتهم الي الأبد لقد أراد أن يفوت عليهم فرصة تناسبه أو تجاهله، و الاعلان فيما بعد أنهم لم يكونوا يعلمون بطبيعة المهمة التي أراد القيام بها، و أن بعضهم لم يعرفوه حتي المعرفة، و لم يعرفوا حقه و فضله و منزلته من رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم و القرآن، و ما ورد بحقه و بحق أبيه و آله عليهم السلام في كتاب الله العزيز و علي لسان نبيه الصادق الأمين صلي الله عليه و آله و سلم.

فهو عندما يقول لهم أنه الحسين بن علي عليه السلام و ابن رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم و عندما يشجب قيام الدولة الاسلامية بقيادة يزيد بن معاوية، فانه أرادهم أن يعتقدوا أنه فعل ذلك، انتصارا لجده رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم و للاسلام، و أنه علي بينة من أمره بشهادة القرآن و الرسول صلي الله عليه و آله و سلم، و أنه يعلم حق العلم بما يقوم به و يفعله، و هو الصواب، و أن علي أولئك الذين وقفوا في معسكر عدوه و عدو الاسلام، أن ينحازوا اليه و يقفوا بجانبه،


و الا فان بقاؤهم في مكانهم يعني الهلاك المحقق لهم في الدنيا و الآخرة، فهم سيفقدون اطمئنانهم و هدوءهم و أمنهم و جماعتهم و سيكون بأسهم بينهم لا علي عدوهم، و سيفقدون في النهاية ثقتهم بأنفسهم، و سيدركون أنهم كانوا أكثر جهلا من الجاهلين الأوائل الذي تصدوا لمقاتلي بدر بقيادة رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم، فأولئك كانوا مشركين منذ البداية، و لم يدخلوا الاسلام أو يعرفوه بعد، و قد دخل قسم منهم في الاسلام و حسن اسلامهم، أما هم الذين يدعون انتماءهم للاسلام و يرفعون شعاراته الظاهرية، و يدعون حب محمد صلي الله عليه و آله و سلم و الولاء له، فهم يقفون الآن قبالة الحسين عليه السلام ابنه و خليفته و حبيبه و حامل سره و مبلغ أمانته و أملهم الوحيد، و قد استدعوه لينقذهم و يخصلهم من شرور هذه الدولة المستبدة المنحرفة، و مع ذلك يقفون متبلدي الحس و الارادة فاقدي الشعور، موقوفين عن كل فعل نابع عن ارادتهم الحقيقية، منقادين دون وعي، لينفذوا جريمتهم النكرا، بحق من رأوا في وقت ما أنه الوحيد القادر علي تخليصهم من المحنة التي كانوا يمرون بها، مستسلمين لجلادهم و قاتلهم و سارقهم، لقد أراد الحسين عليه السلام عندما كان يذكرهم بنفسه و يريهم من هو، أن يريهم أيضا عظم الجريمة التي كانوا يقدمون عليها لو تخلوا عنه نهائيا و منعوه من تنفيذ مهمته و وقفوا الي جانب عدوه، أما اذا ساروا الي أبعد من ذلك و أقدموا علي قتله، فانهم بذلك يعلنون ادانة أنفسهم بأنفسهم.

و قد كانوا علي أية حال باستسلامهم المهين و تراجعهم الذليل بعد دعوتهم اياه و تخليهم عنه، مثالا علي ضعف الأمة كلها لأنهم شريحة كبيرة منها.

كان علي الامام عليه السلام لكي يرجعهم الي الصواب، أن يثير في نفوسهم هزة حقيقية عميقة، بل صاعقة، تجعلهم يدركون بشكل حاسم الهوة التي انحدروا اليها، و الوحل الذي مرغوا أنفسهم فيه، بعد أن لم يستجيبوا لقائدهم الحقيقي الذي أراد تخليصهم من كل ذلك. و قد كان يريد أيضا بتذكيرهم، من هو، و عندما يشخص أمامهم في ميدان المنازلة و في الطريق اليها، أن يريهم عظم المسؤولية الملقاة علي عاتقه و التي لابد من القيام بها، و أنها من الضخامة و الأهمية بحيث أن شخصا في مثل مستواه يري أن تضحيته بنفسه و بكل ما يملك، هي أبسط أمر يمكن أن يفعله، فضياع الاسلام و انحراف المسلمين ليس بالأمر الهين الذي يري الحسين عليه السلام امكانية السكوت عنه، و حياته - و ان جلت و عظمت - ليست بالشي ء العزيز الذي لا يمكن أن يجود به في سبيل منع ذلك.


كان يريد اعادتهم الي علاقتهم الحميمة بقائدهم الأول رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم، و كان يعلم أن ما ورد بحق آله عليهم السلام و هو أبوه و أمه و أخوه، لا يزال له صداه في بعض النفوس، و أن الثقافة الأموية القائمة علي سبهم و محو فضائلهم لم تستطع تضليل الأمة كلها بشأنهم، و كان مجرد اشعارهم بمقامه و منزلته في ظل ظروف طبيعية، كافيا لا عادة كل ما ورد بشأنهم الي الأذهاب المخدرة التائهة، أما حين تتسلط عليهم الفئة التي جعلت دينها اعلان العداوة و البغضاء لهم، فان أجيالا أخري ستتلقف كلمات الحسين عليه السلام و تدرك معانيها و أبعادها بعد زوال الظل الأموي الأسود، و ستدرك الأمة ولو بعد حين أنها قد أضاعت فرصتها الكبيرة عندما لم تستمع اليه و لم تسر خلفه، و أنها كانت من الهوان و الضعف بحيث أنها رأت أن حياتها في غياب الاسلام، و في ظل الظلم و الانحراف شيئا لا يمكن التفريط به مع أنها فرطت بالاسلام.

و لسنا بحاجة - هنا - الي اعادة ما ورد بحق آل البيت عليهم السلام و الحسين خاصة، من أحاديث استعرضنا بعضها في هذه الدراسة، غير أن الحسين عليه السلام عندما يشير الي آله و نفسه و ينبه الأمة الي الخطر الذي تتعرض له عندما تتخلي عنه و تعلن الحرب عليه، فانه أراد لها أن تتمسك بما أراد الله و رسوله صلي الله عليه و آله و سلم أن تتمسك به، و هو (كتاب الله و آل بيته عليهم السلام)، و عندها لن تضل أبدا و لن تنحرف و لن تسير بركان الظالمين و المنحرفين، أما اذا أثرت هؤلاء علي كتاب الله و آل البيت فان ضياعها و خرابها محتم، و كان أحد آل البيت هؤلاء عليهم السلام يشخص أمامهم بلحمه و دمه، يخاطبهم و يخاطبونه، لم يكن شيئا عارضا في تاريخهم رآه آباؤهم و نسوه هم، بل كان حيا مليئا بالحيوية و الفعل و النشاط، و قد كانت الوصايا بشأن أتباعه حاسمة و واضحة، و ها هو ذا يؤكدها بنفسه، فذاكرتهم لم يغب عنها بعد كيف ذكر في القرآن و كيف ذكره الرسول صلي الله عليه و آله و سلم، و اذ أن هذه الذاكرة قد تحجرت بفعل ارهاب الدولة الأموية و اسرافها في الظلم و الجريمة، فان شيئا ما حيا لابد أن يظل فيها و لابد لكي تستعيد نشاطها و حيويتها.

فما ورد عن آل البيت في القرآن الكريم ظل (في دائرة الذهن لدي الجيل الأول، و لأن النبي صلي الله عليه و آله و سلم يحبهم، فلقد حصنهم و حذر من اقتحامهم بسوء، لأن حربهم حربه [1] ، و من آذي أهله فقد آذي الله [2] ، و من أبغض الحسن و الحسين فقد أبغض رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم. [3] .


(و معني تحصين النبي لهم أن النبي رفعهم الي مكانة لا يضرهم فيها من خذلهم، و هذه المكانة هي نفسها مكانة الدعوة، و الدعوة هي الحق ولو قل أتباعه. و بهذا التحصين يكون الاعتداء عليهم هو اعتداء علي الدعوة، و من اعتدي علي الدعوة فقد اعتدي علي رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم، و الامام الحسين جاء دوره في الوقت المناسب، فهو حجة علي عصر يتم فيه ترجيح الأبناء، فابن عثمان، و ابن خالد، و ابن سعد و ابن معاوية و ابن الزبير و ابن أبي بكر كل منهم يريد الملك، فشاء الله أن تبدأ حركة الحسين في هذا الوقت، علما بأن في ذاكرة الجيل الأول الأحاديث التي تضع أبناء أمية و أبناء أمية و أبناء الحكم في دائرة التحذير منهم، فهم الذين رآهم النبي علي منبره ينزون نزو القردة، و هم الذين سيتخذون مال الله دولا و دين الله دخلا، و عباد الله خولا، و في نفس الوقت تحتوي الذاكرة علي أبناء دائرة الطهر، أبناء الكساء و المباهلة، و لقد علم الجميع أنهم أهل البيت و لا أحد غيرهم.). [4] .

في هذه الفترة التي لا زالت جماعة كبيرة من أبناء الجيل الأول حية تنتشر في كل بقاع الوطن الاسلامي و تردد الأحاديث التي قالها النبي صلي الله عليه و آله و سلم بحق آله، و قد يكون ذلك سرا و بعيدا عن عيون الرقباء و الجواسيس الذين بثتهم الدولة لاحصاء أنفاس الناس و خنقها اذا ما رأت أن فيها ضررا عليها، و في فترة المواجهة الحاسمة التي أراد فيها الامام الحسين عليه السلام من الأمة أن تلتفت الي واقعها لفتة واعية متدبرة متأملة لتعرف كيف وصل بها الحال و هي تولي الي حرب و آل زياد، و تصبح آلة صماء بأيديهم و تشن الحرب علي بن الرسول صلي الله عليه و آله و سلم، أراد الحسين عليه السلام أن يعيدهم الي الوعي و أن يبصرهم بعواقب الاستمرار بذلك المسعي الخائب بتذكيرهم بنفسه استجلابا لشفقتهم لكي يمتنعوا عن حربه و قتاله و انما لتحذيرهم مغبة تولي رموز الظلم و الكفر و الانحراف، كانت صرخة الحسين عليه السلام بوجوههم تحذيرا لهم من سقوط لن يكون القيام منه الا بشق الأنفس و ذهاب عشرات الآلاف من الضحايا، و كان خوفه عليهم أشد من خوفه علي نفسه، بل لعله لم يخف علي نفسه اطلاقا و قد أدرك صواب نهجه و سلامة دينه و معتقده.



پاورقي

[1] أوردنا هذه الأحاديث و مصادرها فيما مر من هذه الدراسة.

[2] أوردنا هذه الأحاديث و مصادرها فيما مر من هذه الدراسة.

[3] أوردنا هذه الأحاديث و مصادرها فيما مر من هذه الدراسة.

[4] معالم الفتن، سعيد أيوب ج 2 ص 237 / 236.