بازگشت

الحسين لم يكن طامعا في الملك اللهم ان تكن حبست عنا النصر


كان اقدام الحسين عليه السلام علي المعركة بذلك التصميم و ذلك الحزم رغم توقعه مخاطر الموت، و ضروب الأذي له و لعائلته و أصحابه، له دلائله الكبيرة لمن يتأمل أمر تلك المعركة، فالموت محقق ذلك و لا يمكن أن يقال عنه - كما ادعت الدولة الأموية - أنه طالب ملك، و أنه منافس ليزيد، لم يوفق في مسعاه، و قد قتل في المعركة التي خاضها ضده،؟

ان استشهاد الحسين عليه السلام و توقعه ذلك في كل لحظة، و ترديده بعض الأقوال التي تشير بوضوح الي أن نهاية عمره، ستكون في كربلاء، يمثل صفعة قوية للدولة الأموية، و قد أفشل ادعاءها أنه كان يريد سلب سلطانها و نزع التاج عن رأس يزيد ليضعه فوق رأسه هو، اذ من شأن منافس كهذا أن يكون حريصا علي حياته حرصه


علي الملك الذي يسعي اليه، أما مهمته فهي أبعد من مهمة تنافس شخصي علي السلطان.

و كان الحسين عليه السلام يريد حقا انتزاع التاج من علي رأس يزيد ولكن لا لكي يضعه علي رأسه هو. كان يريد سحق هذا التاج الذي كان تاج مظالم غير مشروعة، و محصلة انحراف متسارع جعل يزيد يثب علي السلطة، و ينصب نفسه ملكا علي المسلمين دون ارادتهم أو رغبتهم، و يتصرف كما لو أنه المالك الحقيقي للناس و الأشياء.

كان يريد للتاج أن يختفي الي الأبد، و لا تظل هناك سوي سلطة واحدة، هي سلطة الاسلام، و لئن مات، و لئن حبست عنه الغلبة في هذه المعركة، فعسي أن تكون الغلبة للاسلام بعد ذلك و في كل حين، و عسي أن تكون تلك بداية انهيار الظالمين و سقوط دولة الانحراف.

و هكذا قال بعد أن رمي حرملة بن كاهل الأسدي طفله الرضيع بسهم و هو في حجره فذبحه.:

(هون ما نزل بي أنه بعين الله. اللهم لا يكن أهون عليك من فصيل، اللهم ان كنت حبست عنا النصر فاجلعه لما هو خير منه، و انتعتم لنا من الظالمين، و اجعل ما حل بنا في العاجل ذخيرة لنا في الآجل). [1] .

فما هو خير، انتصاره في تلك المعركة؟

انتصار الاسلام في معاركه ضد أعدائه الظالمين، و قد توج الحسين عليه السلام بدعائه الي الله لينصر الاسلام و ينتقم من الظالمين، و يجعل تضحيته في سبيل الاسلام خطيرة في الآخرين،

و قد أراد أن يتوجه كل مظلوم و رافض للظلم بهذا الدعاء الي الله بعد أن يرخص نفسه في سبيله، و في سبيل دينه الذي ارتضي.

لقد وجدنا في بداية هذه الدراسة أن معاوية مهد لقبول أفكار و مفاهيم مضللة قائمة علي تزوير الحقائق التاريخية و المفاهيم الاسلامية الصحيحة.


و كان يشير اشارات موحية لعلاقة حميمة بين آل عبد مناف و شرفهم المتميز عن شرف قريش و بقية العرب، و أن الله قد اختص آل عبد مناف (و هم آل هاشم و آل أمية) بالنبوة، و أن معارك جانبية قد وقعت بينهم، و أن ذاك كان شأنا داخليا ليس علي الآخرين التدخل فيه، لأنهم أبناء أعمام، و اذ يموت الآباء، و يبقي الأبناء، فان منافسة محتملة قد تحدث بينهم، و لا شك أن ابن الخليفة الحالي - يزيد - هو أفضل هؤلاء الأبناء، و لم لا و أبوه قد أصبح اميرا للمؤمنين، و هكذا صرح:

(. أنه لم يبق الا ابني و أبناؤهم، و ابني أحق). [2] .

و لا شك أن معاوية سيكون محقا لو أننا نظرنا للمسألة كلها من الزاوية التي نظر بها اليها مادام قد تناسي فضل النبي صلي الله عليه و آله و سلم و آله، و رأي في الاسلام ملكا آتاه الله محمدا صلي الله عليه و آله و سلم كما كان يري أبوه، و رأي في مرحلة ما أن آخرين أقل منه كفاءة، قد تربعوا علي كرسي الحكم.

ان من الانصاف لمعاوية أن نقول: أنه لو كان لن ابن أفضل من يزيد لنصبه خليفة من بعده، لكن ما الحيلة و ليس عنده سوي يزيد، و يزيد تعرفه الأمة كلها و لم يكن عنده سوي ابن آخر أخرق رويت عنه حكايات مضحكة.

فليبذل جهده اذا لتحسين مظهره أمام الأمة، و جعله يبدو ذا كفاءات جديرة بمنصب الخلافة، و ليمهد له الأمر مادام حيا، و ليعرض الآخرين كمنافسين و حاسدين له علي الملك. تلك كانت الأطروحة الأموية المضللة، و قد تحدثنا عن بعض جوانبها في هذا الكتاب. كان معاوية يري ثقل الحسين عليه السلام و مكانته من الأمة، و يري أن ما بناه ليزيد قد يتعرض للسقوط و التلف اذا ما هلك هو، و بدأت الأمة تعود الي وعيها و تدرك حجم المؤامرة التي استدرجت اليها، و قبولها يزيد خليفة عليها مع وجود الحسين عليه السلام الخليفة الحقيقي و هو منحي عن مركز القيادة الفعلي، فانها قد تثور عند ذلك، و تعمد الي اسقاطه، و تطاب القيادة الحقيقية المتمثلة بالحسين عليه السلام لأخذ دورها، لتزعمها، علي طريق بناء الدولة الاسلامية التي أرادها رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم لا معاوية.

و لم يكن معاوية بالذي يتنازل بسهولة عن المكتسبات التي حققها بصعوبة،


و كرس لها سنوات حياته الطويلة، و لابد أن يأخذ أهبته، و يستعد لكل احتمال طاري ء، و لكل ما من شأنه أن يزعزع أركان دولته و ملكه.

و رغم جيل السب الذي نشأ مناهضا لآل البيت عليهم السلام، و رغم التعتيم المركز علي دور أميرالمؤمنين عليه السلام فانه رأي أن فئات عديدة من الأمة لا تزال تتطلع اليهم، و تري فيهم أملها الوحيد لتصحيح المسيرة التي حرفتها الدولة الأموية بشكل معلن، و لعله لم تفته حفاوة المسلمين بالحسين عليه السلام و اقبالهم عليه، و لقد رأي فيه مركز الخطر الأول، الذي يمكن أن يطيح بالعرش الأموي فيما بعد.

و قد رأينا حرصه علي انتزاع مبايعته ليزيد، و محاولته المتكررة لحثه علي ذلك، و التي باءت بالفشل بعد ذلك، اذ ظل الحسين عليه السلام علي موقفه الرافض ليزيد حتي هلاك معاوية. لقد أعد جوا يتيح لخليفته قتل الحسين عليه السلام تحت مبررات و أسباب مصطنعة، و لقد حاول ابرازه كشخص موتور حاسد و مندفع و متحمس و ذي ردود فعل غاضبة و عصبية، و حاول نشر مقولات و قصص كاذبة لاثبات هذه المقولات التي وضعت عن طريق أجهزة أعلامه، التي كان يديرها بنفسه بمهارة تامة، و منها تلك التي أشارت الي وصيته ليزيد بعدم قتل الحسين عليه السلام اذا ما أخرجه أهل العراق، و تلك التي ادعت أنه عليه السلام استولي علي قافلة كانت متوجهة اليه، و كتابة رسالة غاضبة جوابا علي عتاب رقيق من معاوية. الخ، و قد أشرنا في هذه الدراسة الي بعض تلك الأقاصيص المفتعلة التي ما كانت تصدر الا عن عبقري الشر معاوية نفسه.

لقد ذهب معاوية الي حد اصدار أمر مكتوب أودعه مستشاره سرجون، يوصي بأن يكون عبيدالله بن زياد القائد الذي يتولي أمر التصدي للحسين عليه السلام كان مدفوعا بعقدة كره وراثية بين أمية و هاشم، و أن التفاهم معه كان صعبا، و أنه سار تحت تأثير حماسة طارئة، منخدعا بوعود أهل الكوفة، و دعوتهم اياه للقدوم عليهم، حتي أن كتابا من الشيعة راحوا ينددون (بخداعهم) الحسين عليه السلام، مستندين الي تلك النصوص الظاهرية التي ندد بها الحسين عليه السلام بهم ولامهم و حذرهم مغبة غدرهم و انقلابهم عليه.

صحيح أنهم كتبوا اليهم ثم نكثوا و عودهم و غدروا به

لكن السؤال هنا هل أن رفض الحسين عليه السلام مبايعة يزيد كان سابقا علي دعوة أهل الكوفة اياه، أم أن دعوتهم كانت سابقة علي رفضه؟


لاشك أن دعوتهم اياه كانت و هو في مكة في منتصف شهر رمضان، أي بعد أكثر من شهر و نصف من اعلانه رفض مبايعة يزيد، و قد كان مصمما علي موقفه.

و مع علمه بجو العراق و طبيعة العراقيين، الذين استهدفوا بظلم الدولة المركز، و احتمال تراجعهم و انقلابهم عليه و توقعه ذلك بشكل كان محرجا و حتميا لديه، فانه استجاب لدعوتهم، لأنه لو فعل العكس فانه كان يتحمل المسؤولية التاريخية أمام الأمة علي مر الأجيال، و سيدعي الكوفيون، أنهم كانوا علي استعداد لنصرته و السير تحت قيادته، الا أنه لم يأت، و كانت الأمة ستصدق ذلك و تعتبره المسؤول الأول من كل النكسات التي نزلت و تنزل بها الي يومنا هذا. [3] .

لقد أبطل الحسين عليه السلام - بتأكيده علي أنه سيستشهد و أصحابه، اذا ما واجه دولة الظلم تلك المواجهة الحاسمة - المزاعم الأموية التي كانت تدعي أنه أحد طلاب الملك، و أحد المنافسين الحاسدين ليزيد، اذ لو كان كذلك لكان من أشد الناس حرصا علي حياته، و لكان قد لجأ الي المساومة و انصاف الحلول و لتراجع عندما حوصر و طلب منه مبايعة يزيد.

غير أنه بتأكيده الواضح أنه سيقتل تلك القتلة الشنيعة و قوله عندما خرج من مكة الي الكوفة قد فند كل تلك المزاعم:

(و خير لي مصرع أنا لاقيه. كأني بأوصالي تقطعها عسلان الفلوات، بين النواويس و كربلاء فيملأن مني أكراشا جوفا، و أجربة سغبا، لا محيص عن يوم خط بالقلم، رضي الله رضانا أهل البيت، نصبر علي بلائه، و يوفينا أجور الصابرين، لن تشذ عن رسول الله لحمته، و هي مجموعة له في حظيرة القدس تقر بهم عينه، و ينجز لهم وعده، فمن كان فينا باذلا مهجته، موطنا علي لقاء الله نفسه، فليرحل معنا فاني راحل مصبح ان شاء الله). [4] .

و لقد كانت الأخبار الواردة عن رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم - و هي علم من العلم الذي علمه الله - تؤكد استشهاده في كربلاء، و قد تعرضنا لتلك الأخبار و الروايات في هذه الدراسة و ذكرنا بعض أسانيدها و رجالها و هم رجال الصحيح، و أنها كانت معروفة و متداولة،


و لا شك أن ما عرفه المحدثون. عن رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم لم يكن مما يغيب عن الحسين عليه السلام و هو خليفته و وريث علمه.

كان الحسين عليه السلام باستشهاده يبلغ الأمة كلها أن هناك ما هو أثمن من الحياة، التوجه المخلص لله الذي هو المبرر الطبيعي لهذه الحياة، و اذ أن كل فرد له أن يمضي فترة محدودة علي هذه الأرض فان الله قدر لهذا الدين أن يظل حيا علي الدوام، الي أن يرث الله و من عليها، و ان موت المسلم في سبيل بقاء هذا الدين لن يكون غير ذي جدوي أو مردود. هكذا كانت رسالة الاسلام منذ البداية، و هحذا كانت تعاليم رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم و وصاياه و أفعاله، كلها تشير الي ذلك اشارات واضحة لا غموض فيها.

و هكذا كانت تضحية الامام الحسين عليه السلام الكبيرة بنفسه و بكل شي ء في سبيل الاسلام، و اصراره علي تقديم نفسه و أولاده قربانا لله، اشارة لحيوية هذا الدين و قدرته علي الديمومة و البقاء، و جدارته بكل تضحية أخري، و ان كان لا تساوي تضحية الحسين عليه السلام.

كان أمر اعادة الأمة الي خط الاسلام الصحيح، و منعها من الانزلاق في مهاوي الانحراف السريع. يتطلب عملا حاسما كالذي أقدم عليه الحسين عليه السلام دون تردد أو مبالاة بقوة العدو وعدته و عدده، فلم يكن الا صوته لتثبت و تتألق رغم التشويه و التزوير.

و قد أثبت الاسلام باستشهاد الحسين عليه السلام من أجله، انه جدير بالحياة و البقاء، و ان التضحية في سبيله ليست عبثا و ليست اضاعة للحياة و الجهد و المال.

كانت لغة الشهيد المعبرة النافذة الواضحة هي شهادته، و كان دمه مدادها، و مع أن كلماته قد عبرت بوضوح عن الهدف من ثورته و اقدامه علي مقاومة الانحراف حتي الشهادة، فقد كانت تلك الشهادة هي الدليل علي صدقه و اخلاصه و تفانيه في سبيل الاسلام، و كانت بداية موت أعدائه - أعداء الاسلام - و خوفهم الدائم من ثوار مرتقبين و محتملين يقفون بوجوههم و يرقبون مسيرتهم و يرصدون تحركاتهم. فكلمات الشهيد قد عبرت بوضوح عن غايته، و دمه بلغ غاية البيان و أوصل موته و رسالته الي الجميع.

فبدون تلك الشهادة، و بدون ذلك الاستعداد لورودها و الاقبال عليها، ستظل الكلمات جوفاء، و ستضيع في زحمة الكلمات و الادعاءات الأخري.


لم يكن ترديد الحسين عليه السلام لأقواله بخصوص موت مرتقب في كربلاء علي يد أعداء الاسلام، الا دعما لمسيرة أنصار الاسلام، لكي لا يترددوا أو يتخاذلوا أو يتراجعوا أو يضعوا أيديهم بأيدي أولئك الأعداء متي ما لاحت لهم بوادر الخطر، و هددهم أعداؤهم بالموت الزؤام.

و قد قدر الله لتلك الأقوال أن تظل حية نابضة، لأنها قرنت بفعل حي نابض، فعل ارادي حازم و واع، رأي صاحبه أن الموت في سبيل الاسلام سعادة، و الحياة مع الظالمين المنحرفين برما كما عبر هو عليه السلام.


پاورقي

[1] اللهوف ص 49، و الخوارزمي ج 2 ص 32، و مثيرا لأحزان ص 36.

[2] تاريخ الخلفاء 192.

[3] اللهوف ص 53 / 52 عن البحار ص 367 / 44.

[4] بحارالأنوار، العلامة المجلسي، 312 / 44.