بازگشت

مشاهد الفجيعة ودماء الصالحين وأوصالهم المقطعة تحرك الأمم علي مرالتاريخ


كانت الشهادة بذلك الشكل المفجع المروع المؤثر أول الأمور المحتملة من قبل الحسين عليه السلام، و قد أرادها هو أن تتم بذلك الشكل المؤثر، لا لأنه كان يري ذلك نهاية لأمل لم يتحقق، بل لأن ذلك الأمر الوحيد الذي يمكن أن تبقي صورته في أذهان أبناء الأمة علي مر العصور، و الذي من شأنه أن يثيرها بشكل حاد و يجعلها تراقب ممارسات حكامها و أوضاعهم و أوضاعها هي، و تستعرض نفسها أمام الصفوة من الحسين عليه السلام و أصحابه الذين استشهدوا معه و أدوا واجبهم كأفضل ما يكون الاداء، لتجد - بالتالي - أن عليها الاقتراب من موقف هؤلاء، و الابتعاد عن خط دولة الظلم، و انتهاج خط الرسالة الصحيح الذي رسمه لها رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم، و قد روي عن علي بن الحسين زين العابدين عليه السلام أنه قال:

(خرجنا مع أبي الحسين، فما نزل منزلا و ما ارتحل منه الا و ذكر يحيي بن زكريا و قتله و قال يوما: و من هوان الدنيا علي الله عزوجل أن رأس يحيي بن زكريا أهدي الي بغي من بغايا بني اسرائيل). [1] .

و لم يذكر الحسين عليه السلام يحيي اعتباطا، فيحيي له مقام رفيع عند الله جل و علا لقد بشر به أبوه زكريا (الذي كفل السيدة مريم)...

(فنادته الملئكة و هو قائم يصلي في المحراب أن الله يبشرك بيحيي مصدقا بكلمة من الله و سيدا و حصورا و نبيا من الصلحين). [2] .

(يزكريا انا نبشرك بغلم اسمه يحيي لم نجعل له من قبل سميا) (ييحيي خذ


.

و قد (سماه الله سبحانه يحيي و سمي ابن مريم عيسي، و جعله مصدقا بكلمة منه و هو عيسي، كما قال تعالي: (بكلمة منه اسمه المسيح عيسي). و اتاه الحكم و علمه الكتاب صبيا كما فعل بعيسي، وعده حنانا من لدنه و زكاة و برا بوالديه و غير جبار كما كان عيسي كذلك، و سلم عليه، في المواطن الثلاث كعيسي، وعده سيدا كما جعل عيسي وجيها عنده، و جعله حصورا و نبيا من الصالحين مثل عيسي...). [3] .

هذا هو يحيي بن زكريا الذي اختصه الله باسم من عنده و كرامه و جعله نبيا، قتله أحد ملوك بني اسرائيل، و قد كان صديقا له، لأن بغيا سقته الخمر و أغرته به، لأنه نهاه عن التزوج منها، و لأنه كان ينهي قومه عن ارتكاب المحرمات، لقد أدرك قومه خطأهم بعد ذلك عندما تخلو عنه و أسلموه للملك يقتله، و قد جرت عليهم تلك الجريمة الويلات و المآسي.

فهل كانت الدنيا التي يهدي فيها رأس سلالة النبوة لبغي من بغايا بني اسرائيل، كريمة القدر و عظيمة الشأن عند الله حتي يسمح فيها بارتكاب هذه الجريمة، و حتي (يحرم) منها يحيي عزيزه و أثيره و المقرب منه؟ أم أنه اختصه بقربه، و خلصه منها بعد أن قال كلمة الحق، و بعد أن حذر من الشذوذ و الحرام.؟ لماذا يتراءي رأس يحيي بن زكريا سليل الأنبياء الذي قال كلمة الحق فقتل من أجلها، للحسين عليه السلام سليل خاتم الأنبياء؟ الانه كان يقول كلمة الحق أيضا، و يدعوا الي نبذ الباطل و ترك الانحراف؟ ألأنه كان يري أن الدولة الأموية و رمزها - يزيد - أول باطل يجب أن يزول؟ هل سيترك و شأنه يقول مما يريد؟ أم أن أقل ثمن لذلك سيكون رأسه و رؤوس أصحابه، رغم أنه وريث الرسالات كلها، و وريث الأنبياء و ابن سيدهم و خاتمهم؟ هل ستعبأ الدولة بذلك، و هو يواجهها تلك المواجه الواضحة، و يروم ازالتها و استئصالها؟ أن أنها ستقدم علي قتله بنفس الطريقة التي أقدم بها منكر و الأديان و الكفرة علي قتل أنبيائهم و تعذيبهم، لأن منهج فراعنتهم لا يستقيم مع منهج أولئك الأنبياء؟.


كان ذكر الحسين عليه السلام ليحيي فيه ايجاء شديد بما سيلقاه علي يد الطغمة الأموية المستلطة، و حتي لو لم يصرح بما سيلقاه هو، فان في الاشارة ليحيي النبي القديس المقرب، و قد قدم رأسه الي احدي بغايا بني اسرائيل، أضمرت الحقد عليه، و حرضت الملك علي قتله لأنه قد قال قول الحق، اشارة لما يحتمل أن يلقاه هو و قد قال كلمة الحق و ألقاها بوجه دولة الباطل.

كان يدرك أكثر من غيره أن هذه الدولة التي أقيمت علي أسس البغي و العدوان و الكفر و النفاق و الخروج المتعمد عن الاسلام، لن تتساهل معه و لن تتركه يطيح بها و أنها ستلجأ الي أشد ضروب القسوة و الوحشية معه.

و مع ذلك فان الدنيا كانت هينة بنظره، كما هو حالها من الهوان عند الله، فهي ليست غاية و ليست مستقرا دائميا، و ما هي الا لحظات حتي تنقضي طال الأجل أو قصر، فليقل كلمته و ليمضي، و ان كان في ذلك حتفه.

و اذ أدرك الملك الذي قدم رأس يحيي خطأه بعد ذلك و بعد أن أفاق من سكرته، فان من قطع رأس الحسين لم يدرك خطأه لأنه ظل سادرا في سكره، الا أن الأمة التي نفذت الجريمة أدركت أنها ترتكب خطأ جسيما، و أنها تناسق دون وعي أو ارادة وراء قائدها السكير المنحرف عن الاسلام، و أدركت أنها كانت بفعلها ذاك معرضة لهلاك و الدمار الي الأبد، و أن عليها أن تصحح مسيرتها و أوضاعها، لتنتهج خط من أرادوا انقاذها و تخليصها من جاهلية جديدة معمدة رفعت شعارات الاسلام و حاولت تضليلها و حرفها الي الأبد عن طريقه.

و هكذا بدأت صحوة الأمة، تتجد دائما، و ظلت تقدم أنصارا جددا للحسين عليه السلام رغم طول الشقة و بعد الزمن، لأنها ادركت صحة مسيرته و سلامة توجهاتها، و أنه الوحيد الذي كان حريصا علي حياتها و بقائها أمة اسلامية تعيش جوا اسلاميا، و تنتفس هواء اسلاميا خالصا، رغم أن شرائح كبيرة منها ظلت مخدرة و نائمة بفعل دول الظلم التي تتابعت علي قيادتها علي مر الزمن.

لقد كانت اشارات الحسين عليه السلام و تصريحاته في كل مرحلة من مراحل مسيرته واضحة بخصوص ميتة فظيعة سيلقاها علي يد أعداء الاسلام، ها هو يخاطب أحدي بني أزد في الثعلبية و قد سأله عن سبب خروجه عن حرم الله و حرم جده محمد صلي الله عليه و آله و سلم قائلا بعد أن ذكر له بعض الأسباب:


(لتقتلني الفئة الباغية، و ليلبسنهم الله تعالي ذلا شاملا و سيفا قاطعا، و ليسلطن عليهم من يذلهم.). [4] .

و قال لأحد بني عكرمة - في زبالة - و قد حاول ثنيه عن المسير الي الحكومة:

(.. و الله لا يدعونني حتي يستخرجوا هذه العلقة من جوفي، فاذا فعلوا ذلك سلط الله عليهم من يذلهم حتي يكونوا أذل فرق الأمم). [5] .

و قال للحر بن يزيد قائد طليعة الجيش الأموي الذي أرسل لحصاره و تسليمه لابن زياد، و قد حذره من القتال و المضي في مهمته الي النهاية)

(أفبالموت تخوفني؟ و هل يعدو بكم الخطب أن تقتلوني: ما أدري ما أقول لك، ولكن أقول كما قال الأوس لابن عمه و لقيه و هو يريد نصرة رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم فقال له أين تذهب، فانك مقتول، فقال:



سأمضي و ما بالموت عار علي الفتي

اذا ما نوي حقا و جاهد مسلما



و آسي الرجال الصالحين بنفسه

و فارق مثبورا يغش و يرغما) [6] .



فهل كانت مسؤولية ابن رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم و خليفته و ممثله تجاه الاسلام أقل من مسؤولية أخي الأوس الذي مضي ينصر رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم رغم توقعه الموت؟

أكان تخويف الحسين عليه السلام بالموت كافيا لجعله يتراجع عن المهمة الكبيرة التي أخذ علي عاتقه القيام بها، و هل هذا أمر يواجه به الحسين عليه السلام لكي يطلب منه الجواب عليه، و تحديد موقفه علي ضوئه؟

و قد كان عليه السلام بترديده الآية الكريمة:

(فمنهم من قضي نحبه و منهم من ينتظر و ما بدلوا تبديلا). [7] .

عندما سمع خبر مقتل رسوله الي الكوفة قيس بن مسهر الصيداوي، يشير اشارة واضحة الي ما ينتظره هو و أصحابه، و قد قال بعد ترديدها:


(اللهم اجعل لنا و لهم الجنة نزلا، و اجمع بيننا و بينهم في مستقر رحمتك، و رغائب مذخور ثوابك..). [8] .


پاورقي

[1] اللهوف ص 14 و في رواية. (و سيهدي رأسي الي يزيد بن معاوية) نظم درر السمطين ص 215، عن مقتل الحسين للسيد محمد تقي آل بحر العلوم.

[2] آل عمران: 39.

[3] الميزان في تفسير القرآن / العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي، منشورات الأعلمي للمطبوعات بيروت / لبنان 1972، ج 3 ص 177 / 176.

[4] الخوارزمي ج 1 ف 11، و اللهوف ص 29، و أعيان الشيعة ج 4 ص 184.

[5] الارشاد ص 206، و أعيان الشيعة ج 4 ق 1 ص 188، و نفس المهموم للقمي ص 98.

[6] الطبري 307 / 3، و ابن‏الأثير 280 / 3، و الخوارزمي ج 1 ف 11، و المناقب ج 4 ص 96، و الارشاد ص 208، و روضة الواعظين للقتال ص 180، و أنساب الأشراف ج 3 ص 171.

[7] الأحزاب: 23.

[8] الطبري 308 / 3، و النويري ج 20 ص 421.