بازگشت

اهم أهداف الثورة الحسينية هو تحريك الأمة بأجمعها ضد الظلم الأموي


لقد نجح الامام الحسين عليه السلام نجاحا باهرا باشعار الأمة بأهداف ثورته ضد النظام الأموي المنحرف، و جعلها تدرك حقيقة ثورته و أبعادها و ضرورتها، و كانت قيادته للمعركة منذ البداية قد أكدت علي البعد الجماهيري العام و ضرورة، اشتراك الأمة كلها لتحمل مسؤولية ازاحة مسؤولي الانحراف و رموزه.

ان الأمة لم تستطع - حتي في أشد اللحظات ضعفا و استسلاما - أن تشكك بالدوافع الحقيقية للثورة و أن تنال من شخصية الحسين عليه السلام و أصحابه، و أن تتهمه بالسعي للحصول علي السلطة، لأنها تتيح له المزيد من الامتيازات كتلك التي كان يتمتع بها معاوية أو يزيد. و لم يستطع الاعلام الأموي أن يضللها بهذا الشأن رغم محاولاته الجادة لابرازها كحدث عابر أراد أحد طرفيه استلاب السلطة من الطرف (الشرعي) الذي يحكم الأمة فعلا، و حتي أولئك المدافعون عن السياسة الأموية، و التوجه الأموي في الحكم و الحياة، لم يستطيعوا الا أن يقولوا أن الحسين عليه السلام كان مجتهدا، و قد أصاب بعزمه علي الوقوف بوجه الانحراف، الا أنه (أخطأ) بتقدير قوته، و كان عليه أن لا يقدم بالعدد القليل الذي كان معه علي تحدي الدولة - كما أشرنا الي ذلك - عند مناقشة رأي ابن خلدون و ابن كثير و غيرهما في هذه الدراسة.

و هنا لابد أن نشير اشارة مؤكدة الي أن الامام الحسين عليه السلام، أدرك قبل غيره أنه كان يقدم علي عملية ضخمة تستهدف ازالة الانحراف، و اعادة الأمة الي المسار الاسلامي الصحيح الذي رسمه و اختطه رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم، و أدرك أن مهمة ازالة هذا الانحراف لن تتم الا بازالة دولة الظلم نفسها، التي أقيمت علي أساس بعيد عن الاسلام جملة و تفصيلا، و أن هذه الدولة لن تسمح لأي شخص، حتي ولو كان رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم أن (يسلبها) ما انتزعته و أخذته بحد السيف، و بعد كفاح مرير و سعي متواصل جندت فيه كل حاقد و خارج عن الاسلام، و أنها لن تتورع عن اشهار هذا


السيف نفسه في كل وقت تراه ضروريا، لاستئصال أعدائها و (منافسيها) و القضاء عليهم. فالامام الحسين عليه السلام لم يكن يقدم علي بلد قد استتبت فيه الأمور لصالحه، و انما كان يقدم علي بلد كان يحكمه ممثلو السلطة الجائرة، و يجبون خراجه و يسيرون أموره و لم تستتب له فيه طاعته - علي حد تعبير ابن عباس - عندما أشار عليه بعدم الخروج و كذلك عمر بن بوذان أحد شيوخ بني عكرمة، و قد قال له عندما رآه ببطن العقبة قاصدا الكوفة:

(أنشدك الله لما انصرفت، فوالله لا تقدم الا علي حد السيوف و الأسنة. و ان هؤلاء الذين بعثوا اليك لو كانوا كفوك مؤونة القتال و وطئوا لك الأشياء، فقدمت عليهم كان ذلك رأيا، فقال عليه السلام: يا عبدالله، ليس يخفي علي الرأي، ولكن الله تعالي لا يغلب علي أمره. ثم قال: و الله لا يدعونني حتي يستخرجوا هذه العلقة من جوفي). [1] .

كما أنه يدرك ضعف أهل الكوفة و احتمال تراجعهم و انقلابهم عليه تحت وطأة الارهاب الأموي، و أنه يقدم منذ البداية علي معركة غير متكافئة من حيث العدة و العدد، و لم يكن له بد من خوضها، مادام قد اختار الوقوف الي جانب الاسلام. لقد استهدفته الدولة بالقتل منذ البداية عندما لم يبايع، و أدركت هي أنه لن يبايع، و كان الاجراء السليم الوحيد بنظرها قتله أو اغتياله في مكة أو المدينة قبل أن يواجه الأمة بالأسباب التي دعته الي رفض يزيد.

أما من جانبه، فلم يكن يجد أن عليه الاختفاء أو الهرب، مادام أن ذلك هو موقفه النهائي، لأنه حتي لو نجح في ذلك، فستظهر الدولة قضيته علي أنها قضية منافسة علي السلطان، و أنها قضية كره متوارث، و أنها قضية انفجار نفسي، جعلت الحسين يقدم علي ما أقدم عليه من عدم المباعية و الاختفاء، و سنجد من أبناء الأمة من يقول أن الحسين قد هرب و ترك الأمة وحيدة بمواجهة طغاتها و جلاديها، و يحمله مسؤولية ما سيلحق بها من خراب نتيجة تدهورها السريع في هاوية الانحراف.

و كان الامام الحسين عليه السلام يجد أن أمامه قضية واضحة كبيرة، يجب عليه أن يجعل الأمة كلها تنظر اليها بنفس الوضوح الذي ينظر اليها أصحابه علي الأقل. كان


يريد استثمار تلك القضية استثمارا حكيما و صحيحا، فالقتل أمر محتم مادام يرفض مبايعة رمز الظلم و رأسه، فلماذا لا يهجم هو علي دولته و يشن الحرب عليه و يجعل معركته تجري أمام سمع الأمة و بصرها، اذ أن لون الدم الأحمر القاني هو اللون الوحيد الذي سيظل في ذاكرة الأمة، و لن تنساه، و سيكون الشي ء الوحيد الذي يحفزها لتذكر قضيته و تبنيها، و ستخرج فصائل عديدة من أبنائها علي أثره يلبون نداء هو يسترون علي أثره، و لابد أن العديد منها ستنجح في تحقيق ما سعي اليه، و أن تواصلها مع الاسلام ستكون له نفس حرارة الجيل الأول، الذي رباه رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم و أميرالمؤمنين عليه السلام من بعده و أن دولة الظلم علي امتداد التاريخ لن تكون مطلقة اليد و حرة التصرف للتلاعب بمقدرات الأمة الاسلامية علي هواها و وفق رغبات حكامها، و ستجد دائما فصيلا من فصائل الثورة الحسينية يتصدي لها بدماء أبنائه، و يكون لها بالمرصاد، و ستجد طليعة حسينية مناضلة تفكر بمنطق الحسين عليه السلام و عقل الحسين، و لا يهمها اذا ما تساقط و قدمت دماءها في سبيل الاسلام، فستتبعها الأمة كلها يوما من الأيام، فالسعي لازالة دولة الظلم مهما كان شكلها و لونها و شعاراتها يجب أن يستمر لأن هذا تكليف الهي لم يسقط عن عواتقنا مهما مرت السنون.

أما تحقيق ذلك فمرهون بمشيئة الله و حكمته و عدله، هذا هو منطق الاسلام و هذه هي لغته و من لا يفهم ذلك لا يفهم الاسلام. و لسنا بحاجة الي اعادة ما قاله الامام عليه السلام ثانية بخصوص توقعه الموت في كربلاء، و قد سبق أن أشرنا الي تلك الأقوال في هذه الدراسة، غير أننا سنستعرض بعض أقواله و مواقفه خلال معركة الطف، و هي أقوال تدل علي أن توقع الموت كان بحكم اليقين، و اذا ما أخذنا بنظر الاعتبار الأخبار الواردة عن رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم و أميرالمؤمنين عليه السلام، بخصوص مصرعه في كربلاء، و علمنا أنه وريث علمهما، و العالم الأول الذي انتهت اليه تلك الأخبار، و أضفناها الي معرفته بالواقع الذي كانت تعيشه الأمة في ظل قيادة الفساد و الانحراف، و أن تلك القيادة ستتصدي بعنف و شراسة لكل منتقد و معارض لها، أدركنا أن الامام الحسين عليه السلام لم يحسب نفسه ذاهبا في نزهة خلوية - كما أشار الي ذلك أحد الكتاب الذين تناولوا ثورته بالبحث و التعليق، و انما كان يدرك أن مسيرته الملحمية التي كان يستعرض فيها نفسه و أصحابه و عائلته أمام الأمة كلها، ستكون مأساوية و دامية و مفجعة، و أن ضروب البلاء التي سيلقاها معهم لن تضاهيها ضروب أخري من البلاء و المحن يمكن أن تمر بشخص آخر، و اذ أنه كان يطمح أن يشعر الأمة كلها أن ما نزل


به هو بعين الله و في سبيله، و اذ أنه صبر صبرا عجيبا علي ذلك البلاء، فان رسالته التي خطها بدمه قد وصلت الي أسماع كل أبناء الأمة، و قد استوعبوها بسهولة و أدركوا أن معركة الحسين عليه السلام مع الانحراف لا تزال قائمة حتي بعد زوال الرموز الأولي، و أنه لا يزال يقود كل المعارك اللاحقة من موقعه في عرصة كربلاء، رغم ابتعاده المكاني و الزماني عن تلك المعارك التي لا تزال تحدث و تتجدد الي يومنا هذا، و أنه نجح في تجنيد الأنصار الحقيقيين للاسلام في كل بقاع الأرض ليضافوا لأنصاره في بدر و الطف و غيرهما من معارك الاسلام الخالدة.

و لعلنا بحاجة هنا لذكر تأكيده لابن عمه عبدالله بن جعفر، عندما حذره من المسير الي العراق لأنه يخاف أن يكون في ذلك هلاكه و استئصال أهل بيته، أجابه الحسين عليه السلام:

(فوالله، ليعدن علي، كما اعتدت اليهود في يوم السبت). [2] .

كانت الدلائل كلها تشير الي أنه سيقتل اذا ما مضي في مهمته الي النهاية، و بالتأكيد فان من نصحوه و حذروه لم يكونوا بمستوي ادراكه و علمه، و ما احتملوه بخصوص قتله و اعتبروه أمرا مؤكدا احتمله هو أيضا، بل به علما يقينا، و مع ذلك مضي و لم يتردد أو يهن أو ينكل.

لقد وضع ابن زياد المسالح و المراصد و أخذ الحدود ما بين واقصة الي طريق الشام، و منه الي طريق البصرة، فلا يدع أحد يلج أو يخرج، و مع علم الحسين عليه السلام بذلك من أحد الأعراب و قد قال له:

(انا لا نستطيع أن نلج و لا نخرج). [3] .

فانه (سار تلقاء وجهه). [4] .

و قد عزم عزما أكيدا علي مواجهة الموقف الساخن الذي جردت فيه الدولة جندها و جواسيسها لمواجهته و القضاء عليه.

لقد بدا للبعض أن الحسين عليه السلام كان متورطا، و لم يدرك و رطته الا بعد أن مضي شوطا بعيدا تجاه الكوفة، و قد فاتته فرصة الرجوع و لم يدرك ضرورتها الا بعد


أن حوصر و وجد نفسه بمواجهة طليعة جيش الدولة الذي يقوده الحر بن يزيد الرياحي، و قد أثبتت الوقائع عكس ذلك، و دلت علي أنه عليه السلام كان عازما علي بلوغ نقطة الهدف، و مواجهة الدولة و قوتها هناك، و ان فرص الرجوع قد اتيحت له أكثر من مرة قبل مواجهة جيش الحر، فلم يفكر في ذلك علي الاطلاق و لم يضعه في حسبانه.


پاورقي

[1] تاريخ الطبري: 304 / 3.

[2] الخوارزمي ج 1 ص 218، و ابن‏کثير 169 / 8، و قد روي الطبري ج 3 ص 297 الخبر بايجاز.

[3] الارشاد ص 203، و روضة الواعظين للقتال ص 178.

[4] الارشاد ص 203، و روضة الواعظين للقتال ص 178.