بازگشت

هيهات منا الذلة


و هكذا توجه عليه السلام اليهم بخطابه الشديد قبيل بدء المعركة، و بعد أن أصروا علي حربه و مقاومته انتصارا لأسيادهم و جلاديهم.


قائلا:

(فسحقا لكم يا عبيد الأمة، و شذاذ الأحزاب، و نبذة الكتاب، و محرفي الكلم، و نفثة الشيطان، و عصبة الآثام، و مطفئي السنن، و قتلة أولاد الأنبياء، و مبيري عترة الأوصياء، و محلقي العهار بالنسب، و مؤذي المؤمنين، و صراخ أئمة المستهزئين، الذين جعلوا القرآن عضين و لبئس ما قدمت لهم أنفسهم أن سخط الله عليهم و في العذاب هم خالدون.

ألا و ان الدعي ابن الدعي قد ركز بين اثنتين: بين السلة و الذلة، و هيهات منا الذلة، يأبي الله و رسوله و المؤمنون، و حجور طابت و طهرت، و أنوف حمية، و نفوس أبية، من أن نؤثر طاعة اللئام علي مصارع الكرام.

ألا و قد أعذرت و أنذرت، ألا و اني زاحف بهذه الأسرة، علي قلة العدد، و كثرة العدو، و خذلان الناصر.



فان نهزم فهزامون قدما

و ان نهزم فغير مهزمينا [1] .



هل تري أمامك شخصا مسحوقا مهزوما خائفا؟ أم أنك تري شخصا أمتلك ايمانا هو اليقين بعينه، انه ليتراجع لأنه موقن بصحة موقفه و سلامته، و من الوصول الي هدفه، و لو سلت بوجهه السيوف، فماذا سيقول لجده رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم ان تراجع و تخاذل و آثر الذل في ظل يزيد بعد عز الاسلام الذي حمله دائما في نفسه و في ضميره كمثل أعلي جدير بتحقيق الخير و السعادة لكل البشر. وجد نفسه قويا بالاسلام، و وجد أمامه نفوسا ضعيفة رأت أن حياتها و مصيرها و سعادتها رهينة بكلمة واحدة تخرج من فكم يزيد أو أحد أتباعه و حاشيته، و هكذا أنذرهم، و زحف بأسرته و أصحابه علي قلة العدد و كثرة العدو و خذلان الناصر فقد كان لابد من الهجوم، الآن و في كل حين، مادام الانحراف قد أظهر وجهه الكريه.

فان يهزم أعداءه في هذه المعركة، فلطالما هزم الله أعداءهم، و ان يهزم فيها، فليست هذه الهزيمة التي فكر بها العدو و يحسب أنه انتصر بعدها، فالمعركة قائمة، و الغلبة النهائية فيها للحق و للاسلام، و ان انتهكت حدوده و تلاعب به أعداؤه و حسبوا أن الأمور قد استتبت لهم فما هي الا جولة واحدة، و الطريق لا يزال طويلا.


لم يقل لهم الحسين عليه السلام أنه سيقتلهم و يبديهم، لكنه قال أنه سيهزمهم، و قد هزمهم، اذ بقوا رهينة مخاوفهم و فزعهم و عبيدا لمن هو جدير أن يكون أشد فزعا منهم، لو كان يدرك حقيقة موقفه و تصرفاته، تقدم عليه السلام متخطيا الآلام و المصاعب دون تردد أو خوف يعلن رفضه الواقع الفاسد الذي قبلته الأمة و ارتضته طالما رغب كل فرد من أفرادها أن يظل علي قيد الحياة، و لو في ظل يزيد بعيدا عن الاسلام.

أي دروس شهدت الأمة في عرصة كربلاء، و أي وعي بالاسلام ثبتته تلك اللحظات التي أقدم فيها الحسين عليه السلام علي تحدي أعداء الله و أعداء الأمة و أعداء أنفسهم، لم يفكر الشهيد أنه مهزوم اذ لم ير أمامه الا الله و سلطانه و ملكه، أما ضربة السيف و طعنة الرمح، فطالما أنها قد حققت له ما لا يتاح تحقيقه للجميع فحسبه منها فرحا أنها جنبته حزنا كبيرا كان سيجثم علي صدره، لو انه أطاع الظالم و أصبح اداة بيديه ينال بها من الآخرين، و كان عمره سينتهي أيضا كما انتهت أعمار الآخرين و ان كانت العواقب ستختلف في الحالتين، فان:

(كل نفس ذآئقة الموت و انما توفون أجوركم يوم القيمة فمن زحزح عن النار و أدخل الجنة فقد فاز و ما الحيوة الدنيآ الا متع الغرور). [2] .

(لا يستوي أصحب النار و أصحب الجنة أصحب الجنة هم الفآئزون). [3] .

لا يجيب عن السؤال الثاني الا الفائزون أنفسهم، و لعل استبشارهم بالموت هو الذي يعبر عن ذلك... أما الموت، فالجميع مقبلون عليه و ملاقوه دون شك



(اذا ما الموت رفع عن أناس

كلاكله أناخ بآخرينا



فأفني ذلكم سروات قومي

كما أفني القرون الأولينا



فلو خلد الملوك اذا خلدنا

و لو بقي الكرام اذا بقينا



فقل للشامتين بنا: أفيقوا

سيلقي الشامتون كما لقينا) [4] .



لقد تمثل بأبيات شاعر عربي ذكر أمورا بديهية عن الموت، فهو نهاية حتمية لهذه الحياة و من لا يريد الاعتراف بذلك، فسيجعله الموت نفسه يعترف به.


كان الحسين عليه السلام يريد لأبناء الأمة كلها أن يترقبوا نهاية الحياة بغبطة، و يقبلوا علي فوز محتم في الآخرة، بعد أن يعيشوا في ظلال الاسلام و علي ضفافه، لا في ظل الفراعنة و المنحرفين، و كان التفاف أبناء الأمة حوله سيجنبهم النهاية المحزنة، اذ كان حريا به أن يعيدهم الي أيام رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم، و سيجد الظالمون أنفسهم معزولين عن الأمة و لن يستطيعوا التسلط أو التغلب عليها ثانية و تسخيرها لأغراضها و مصالحهم الخاصة.

أما و قد عجزت الأمة عن ذلك، و استسلمت ذلك الاستسلام المهين ليزيد و رهطه و حاشيته، فان ما ستقبل عليه سيكون رهيبا حقا، و سيكون أولئك الذين شاركوا بقتاله أول المتسهدفين بعد أن جعلتهم الدولة أداة لحربه و قتله، و لم تكن لتطمئن اليهم في تنفيذ أغراضها الأخري. فالكوفة لم تكن الي جانب معاوية منذ البداية و كانت عدوة له، ثم خضعت و استسلمت بعد غياب أميرالمؤمنين عليه السلام عن الساحة، مع أن العديدين من أبنائها و قادتها لم يخضعوا البتة، و عادت ثانية لتؤازر الحسين عليه السلام و تعلن وقوفها الي جانبه و تنتفض مع (مسلم)، ثم ها هي تستسلم الي الأبد و ستكون هادئة و خاضعة له علي الدوام.

ان الدولة الأموية ستعمد حتما بعد ذلك الي أشد ضروب القسوة و الوحشية اذا ما لمست أدني بادرة تمرد أو اعتراض في المستقبل، و هو ما فعلته بعد ذلك علي الدوام. كانت صرخة الامام الحسين عليه السلام فيهم تشكل تحذيرا من مستقبل أسود في ظل دولة الظلم و فراعنتها و جبابرتها، كان ذلك المستقبل يلوح أمامه بقتامته و سواده المقيت، الذي سيجعلهم يتخبطون فيه خبط عشواء، و ستتناولهم فيه اليد الأموية و تتلاعب بهم تلاعبها بالكرة:

(أما و الله لا تلبثون بعدها الا كريثما يركب الفرس، حتي تدور بكم دوران الرحي، و تقلق بكم قلق المحور، عهد عهده الي أبي عن جدي رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم. (فأجمعوا أمركم و شركآءكم ثم لا يكن أمركم عليكم غمة ثم اقضوا الي و لا تنظرون) (اني توكلت علي الله ربي و ربكم ما من دآبة الا هو ءاخذ بناصيتهآ ان ربي علي صراط مستقيم). [5] .



پاورقي

[1] الخوارزمي ج 2 ص 8 / 7، و البحار ج 10 / 8 / 45، و ابن‏عساکر، الجزء الخاص بريحانة الرسول ( 3) ص 218، و ابن‏طاووس 42 / 41، و جلاء العيون 177 / 2.

[2] آل عمران: 185.

[3] الحشر: 20.

[4] المصادر السابقة، و الأبيات لفروة بن مسبک المرادي.

[5] تراجع المصادر السابقة.