بازگشت

التنعيم، المحطة الأولي


(التنعيم) كان المحطة الأولي التي مر بها الامام في طريقه من مكة الي الكوفة، و قد أخذ معه عياله و ثقله و أهل بيته، و قد عرفنا دوافعه لأخذهم معه، مع أنه لم يكن يتوقع أوضاعا ممهدة.

كان مسيره ايذانا بملحمة كبيرة ستشهدها الأمة و تقف منها موقف المتفرج، غير أنه لم يكن شي ء بمستواها و حجمها سيثير الأمة فيما بعد و يخرجها من سباتها الطويل و استسلامها المتواصل لأعداء الاسلام الذين استلموا السلطة و الحكم علي المسلمين حتي أنها لم تر في ذلك شيئا غير طبيعي. و كأن مسيرة رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم لابد أن تنتهي بيزيد ليكمل شوط الرسالة و يحملها بتلك الكفاءة التي حملها صلي الله عليه و آله و سلم.

و كانت معركة مواجهة مصيرية بين الاسلام و أعدائه، و قد ألقي فيها الأعداء كل ثقلهم و بذلوا كل جهودهم ليتغلبوا علي آخر القوي الحقيقية التي كانت مستعدة


للتضحية في سبيل الاسلام... و لو أن تلك القوة المتمثلة بالامام الحسين عليه السلام و صحبه قد هادنت و استسلمت بدورها لما وجد من يضحي من أجل الاسلام بعد ذلك.

كان الحسين عليه السلام و صحبه بذرة لشجرة مثمرة قيض لها أن تعيش و تثمر الي الأبد، و لم يكن شي ء يجعلها بذلك المستوي و يجعل لها قابلية الديمومة و الحياة سوي الاقدام الشجاع الذي تم فعلا و أثبت فيه الامام عليه السلام و صحبه أن للانسان ما يعيش من أجله حقا. و اذا ما انعدم هذا السبب فان التضحية حينئذ تكون أول الواجبات، بل الواجب الوحيد... فما مبرر العيش اذا انعدم السبب الذي يعيش من أجله المرء.؟.

و هكذا أقدموا علي الخطوة الوحيدة التي كان من الواجب اتخاذها، و التي عجزت الأمة كلها عنها. لكنها أدركت فيما بعد أنها الخطوة الصحيحة حقا، و أدركت خطأها حينما لم تواكب الامام في مسيرته و تشاركه فيها... اذ أنها لو فعلت ذلك لحظيت بقيادة حقيقية تعيدها الي عهد رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم حقا. و لما وقعت ذلك المأزق الخطير في الذي جعل يزيد و أشباهه يتسلطون عليها.

كان لابد من وقفة باسلة، و شن الحرب بوجه دولة الانحراف و الظلم، و بكل الوسائل المتاحة، و طرح كل تحفظ و حذر عند مواجهة من لم يتحفظ و لم يحذر و هو يطرح الاسلام جانبا و ينبذه بكل وقاحة مع أنه يدعي الحكم باسمه و يحتل علي أساس ذلك أسمي مركز في الدولة الاسلامية و هو خلافة رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم نفسه..

و الا فأي موقف بديل يمكن أن يوقف الانحراف و يمنعه.؟.

في (التنعيم) لقي الامام ابلا بعث بها عامل يزيد علي اليمن اليه محملة بالورس و الحلل - و هي من أموال الأمة المسلمة، و قد استولي عليها الامام و عرض علي أصحاب الابل السير معه فيوفي كراؤهم و تحسن صحبتهم أو مفارقته فيعطون من الكراء علي قدر ما قطعوا من الأرض (فمن فارقه منهم حوسب فأوفي حقه، و من مضي منهم معه أعطاه كراءه و كساه). [1] .


و كان ذلك هو التصرف العادل الوحيد الذي كان يمكن أن يقفه الامام منهم. فهو ليس متجبرا يفرض نفسه علي فئة من المستضعفين بدلا من متجبر آخر، لقد كان ممثلهم الحقيقي و أحري به أن يدفع اليهم حقوقهم كاملة غير منقوصة.

كما كان تصرفه حيال أموال الأمة هو التصرف الصائب الوحيد، فليس من المعقول أن لا يقر ليزيد حقا في التسلط علي الأمة كخليفة و يقر له بشي ء من حقوقها و أموالها. و مادام قد أعلن الحرب عليه، فما معني تسليم هذا الجزء من الأموال اليه.؟.

علي أن أعداء الحسين عليه السلام قد وضعوا سابقة لهذه، ادعوا فيها أنه كان قد استولي في عهد معاوية أيضا علي أموال مماثلة، و حاولوا جعل القصة تبدو معقولة عندما ذكروا أن الحسين عليه السلام كتب في أعقاب ذلك رسالة الي معاوية يخبره فيها بما حدث و كأنه يستأذنه في ذلك و أن معاوية قد غض النظر عن ذلك و قال أنه سيكررها و أن له يوما سيشهد فيه متاعب ممن ليسوا في مثل حلمه و عقله.

أي أن الذين ذكروا تلك القصة لتذكر معها هذه فيما بعد أرادوا تصوير الاستيلاء علي أموال المسلمين لحفظها و توزيعها في أهلها كعملية قرصنة أو سرقة أو عمل طائش يقام في وضح النهار. و من الغريب أن القصة الأولي - و قد تطرقنا اليها في هذا الكتاب قد انطلت علي العديدين. اذ كيف يقدم الامام، و لم تكن بينه و بين معاوية حرب معلنة علي الاقدام علي خطوة كتلك.؟.


پاورقي

[1] الطبري 296 / 3 و التنعيم موضع بمکة في الحل علي فرسخين من مکة و يراجع مقتل الخوارزمي 220 - 1 و ابن‏کثير 166 - 8 و الارشاد للمفيد و مثير الأحزان لابن نما - 21.