بازگشت

الخلافة الربانية في مفهوم الاسلام


ان الخلافة الربانية، كما أوضحها الاسلام، تتيح للانسان استثمار طاقاته و ابداعاته و كل موارد الطبيعة لتحقيق الكرامة الانسانية و التكافل الاجتماعي و الشعور بالحرية و الأمن و تحقيق العدالة، و توظيف كل ذلك بما يضمن تحقيق هذه الاهداف، وفق نظرة شاملة متكاملة هي نظرة الاسلام، لا نظرات نابعة عن هوي شخصي أو مصلحة شخصية أو ظرف خاص.


فهي عقد مشروط لا يجوز الخروج عن بنوده بأي حال من الأحوال، و ليست كما صورها معاوية و أمثال معاوية عندما واجه الناس صراحة بقوله:

(الارض لله، و أنا خليفة الله، فما آخذ من مال الله فهو لي و ما تركت منه كان جائزا لي). [1] .

فكأن معاوية يتصور هنا ان أرض الله و ماله قد وهبا له شخصيا، مادام قد أصبح (خليفة) بقوة ذراعه و سيفه و (دهائه) و انه غير مقيد أو ملزم حتي أمام الله بتقديم أي حساب، فكل شي ء له و تحت حكمه و تصرفه المطلق.

ان هذه الأطروحة تنفي الاسلام من الأساس، و لا تجعل أي مبرر لوجوده مادام الخليفة قد أخذ علي عاتقه مهمة سن التشريعات و القوانين الكفيلة بتصريف شؤون الحياة، واضعا بذلك نفسه بديلا عن الله سبحانه، الذي لم يرد ذلك و أنزل قوانينه الخاصة و احكامه بكل شأن مهما بدا صغيرا، أو قليل الاهمية بنظر البعض.

و لم يكن معاوية بالذي يجهل ذلك عندما يواجه الأمة هذه المواجهة و ما كانت الأطروحات الاسلامية الصحيحة لتغيب عن ذكائه، غير أن شيئا وحيدا كان يمثل أمامه علي الدوام، و هو مصالحه و تقوية دولته و تعزيز نفوذه، و هكذا عمل علي تحريف و تزوير و استبدال بعض المفاهيم الأساسية، بمفاهيم أخري من شأنها تحقيق أغراضه، و قد رأينا مواجهته لاهل العراق بقوله الصريح انه لم يكن يقاتلهم لكي يصلوا أو يصوموا أو يحجوا أو يزكوا، فقد علم انهم يفعلون ذلك، ولكنه قاتلهم لكي يتأمر عليهم.

و اذا ما حاول البعض تبرير هذه المقولة أنها نوع من الاعلام الحربي لكسر شوكة العدو و تحطيم أنفاسه، فاننا نقول لهم: ان الحرب قد انتهت بينه و بينهم، و خضع الجميع له، و لم يكن جديرا به ان يصرح بما صرح به متحديا بذلك، ليس أهل الكوفة و حسب، بل الله سبحانه و كتابه و أحكامه.


انه اذ يقول ذلك، فانه يعلم أكثر من غيره ان قوله ابعد ما يكون عن الصحة، و ابعد ما يكون انطباقا مع الاطروحات الاسلامية الصحيحة.

غير انه وصل بانحرافه و استهتاره و تحديه و عبثه و شعوره بالقوة علي اذلال الأمة و اخضاعها حدا لم يجد فيه حرجا أو خشية من اعلان ذلك صراحة و علي رؤوس الأشهاد، و انه مخول بالتصرف كيف يشاء و انه غير محاسب أو مسؤول عن اي عقد أو التزام تجاه من استخلف عليهم هذا اذا صح استخلافه، و ان تصرفه مبرر مسبقا أمام الله مادام هو يري ذلك، و مادام الله بزعمه قد اعطاه كل شي ء و اجاز له ترك ما يريد تركه، و لا ندري هل أن الله سبحانه و تعالي، أشركه في ملكه حتي يتيح له ذلك؟ و لا ندري أيضا، كيف انحدرت تصورات الذين تبنوا هذا اللغو و تلقفوه من فم معاوية الذي كان يعبث دون شك، و يسخر حتي من أولئك الذين يبذلون جهودهم و يلهثون لاضفاء الشرعية علي تصرفاته و علي نظام الحكم الذي يقوده، و يحاولون تزيين هذه التصرفات بزينة براقة من الاحاديث المزورة الموضوعة و الاقاصيص و (الاجتهادات) الذاتية البحتة، غير القائمة علي أصول الاسلام و احكامه و توجهاته.

ومن العجيب ان بعض من يدعون تبنيهم حرية الفكر و سلامة البحث و النظر و موضوعية الحديث و الحوار، يجرون لاهثين لتبرير هذه النظرية الأموية و اشباهها، التي أطلقها معاوية، ربما ليلهو و يعبث و هو يري اهتمام معاصريه من امثال هؤلاء باطروحاته و دنانيره علي السواء، و الذين يقومون دائما بتبرير و تزيين اعمال السلاطين علي مر الأزمان، و كأنها هي الشي ء الصحيح الوحيد الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه و لا من خلفه.

و اذا ما كان لمعاصريه عذرهم بزعمهم في ذلك و السكوت عن تلك الانتهاكات، بل و الضلوع فيها، فما عذر من لا يتعرض لنفس ما تعرضوا له من ظروف.

(ان الخلافة الربانية للجماعة البشرية، تقضي بطبيعتها علي كل العوائق المصطنعة و القيود التي تجمد الطاقات البشرية و تهدر امكانات الانسان، و بهذا تصبح فرص النمو متوفرة توفرا حقيقيا، و النمو الحقيقي في مفهوم الانسان ان يحقق الانسان الخليفة عغلي الأرض في ذاته تلك القيم التي يؤمن توحيدها جميعا في الله عزوجل الذي استخلفه و استرعاه الكون، فصفات الله تعالي و اخلاقه من العدل و العلم و القدرة و الرحمة بالمستضعفين، و الانتقام من الجبارين و الجود الذي لا حد له، هي مؤشرات للسلوك في مجتمع الخلافة و أهداف للانسان الخليفة.


و كلما استطاع الانسان من خلال حركته ان يتصاعد في تحقيق تلك المثل، و يجسد في حياته بصورة أكبر فأكبر عدالة الله و علمه و قدرته و رحمته و وجوده و رفضه للظلم و الجبروت، سجل بذلك انتصارا في مقاييس الخلافة الربانية، و اقترب نحو الله في مسيرته الطويلة التي لا تنتهي الا بانتهاء شوط الخلافة علي الأرض.

و لم يكن من الصدفة أن يوضع العدل أصلا ثانيا من أصول الدين و يميز عن سائر صفات الله تعالي بذلك، و ذلك لأن العدل في المسيرة، و قيامها علي أساس القسط هو الشرط الأساسي لنمو كل القوي الخيرة الأخري، و بدون العدل و القسط يفقد المجتمع المناخ الضروري لتحرك تلك القيم و بروز الامكانات الخيرة). [2] .


پاورقي

[1] مروج الذهب 53 / 3، و تطهير الجنان و اللسان / أحمد بن حجر الهيثمي ص 26، و قد روي انه قال: انما المال مالنا و الفي‏ء فيئنا فمن شئنا منعناه) و أورد الهيثمي أن معاوية ردد ذلک في ثلاثة أيام متتالية من أيام الجمع امام جمع من المسلمين و ذلک في خطبة الجمعة، و ابن‏الهيثمي من الموالين لمعاوية و ألف کتابه هذا في معرض الدفاع عنه.

[2] الأساس الاسلامي لخطي الخلافة و الشهادة / الشهيد الصدر 142 / 141.