بازگشت

الامام الحسين يلقي الحجة علي جمع من علماء المسلمين في مكة


و قد ألقي الامام الحسين عليه السلام خطبة في جموع من الناس ضمت جماعة من الصحابة، لعلها كانت في مكة كما يبدو من سياق حديثه فيها، جمع فيها جملة أمور، أشار الي بعضها فيما بعد في خطبه و كلماته الاخري، و أوضح فيها جانبا من جوانب الخلل التي المت بالمجتمع الاسلامي، بل بالفئة التي كان ينبغي ان تكون أكثر شعورا بالمسؤولية، و هي فئة أهل العلم و الخير و النصيحة، و هو ما كادوا يتخلون عنه بفعل


العوامل العديدة التي ذكرها عليه السلام في خطبته، و نورد الخطبة [1] علي طولها هنا لأهميتها في البحث الذي نحن بصدده.

(اعتبروا ايها الناس بما وعظ الله به أولياءه من سوء ثنائه علي الاحبار، اذ يقول: (لو لا ينههم الربنيون و الأحبار عن قولهم الاثم و أكلهم السحت لبئس ما كانوا يصنعون) [2] و قال: (لعن الذين كفروا من بني اسرءيل علي لسان داوود و عيسي ابن مريم ذلك بما عصوا و كانوا يعتدون كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون) [3] . و انما عاب الله ذلك عليهم، لانهم كانوا يرون الظلمة الذين بين أظهرهم يفعلون المنكر و الفساد فلا ينهونهم عن ذلك، رغبة فيما كانوا ينالون منهم، و رهبة مما يحذرون و الله يقول: (فلا تخشوا الناس و اخشون و لا تشتروا بئايتي ثمنا قليلا) [4] و قال (و المؤمنون و المؤمنت بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف و ينهون عن المنكر) [5] فبدأ الله بالامر بالمعروف و النهي عن المنكر فريضة منه، لعلمه بانها اذا أديت و اقيمت استقامت الفرائض كلها هينها و صعبها ذلك ان الامر بالمعروف و النهي عن المنكر دعاء الي الاسلام مع رد المظالم و مخالفة الظالم و قسمة الفي ء و الغنائم و اخذ الصدقات من مواضعها و وضعها في حقها.

ثم أنتم ايتها العصابة، عصابة بالعلم مشهورة و بالخير مذكورة و بالنصحية معروفة، و بالله في أنفس الناس مهابة. يهابكم الشريف و يكرمكم الضعيف و يؤثركم من لا فضل لكم عليه و لا يد لكم عنده.تشفعون في الحوائج اذا امتنعت من طلابها. و تمشون في الطريق بهيئة الملوك و كرامة الأكابر. اليس كل ذلك انما نلتموه بما يرجي


عندكم من القيام بحق الله، و ان كنتم عن أكثر حقه تقصرون، فاستخففتم بحق الائمة، فاما حق الضعفاء فضيعتم، و اما حقكم بزعمكم فطلبتم. فلا مالا بذلتموه، و لا نفسا خاطرتم بها للذي خلقها، و لا عشيرة عاديتموها في ذات الله. انتم تتمنون علي الله جنته و مجاورة رسله و أمانا من عذابه. لقد خشيت عليكم ايها المتمنون علي الله ان تحل بكم نقمة من نقماته، لانكم بلغتم من كرامة الله منزلة فضلتم بها و من يعرف الله. لا تكرمون و انتم بالله في عباده تكرمون. و قد ترون عهود الله منقوضة فلا تفزعون و انتم لذمم بعض آبائكم تفزعون، و ذمة رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم مخفورة، و العمي و البكم و الزمن في المدائن مهملة لا ترحمون، و لا في منزلتكم تعلمون، و لا من عمل فيها تعنون و بالادهان و المصانعة عند الظلمة تأمنون، كل ذلك مما امركم الله به من النهي و التناهي، و أنتم عنه غافلون.

و أنتم أعظم الناس مصيبة لما غلبتهم عليه من منازل العلماء لو كنتم تسعون، ذلك بان مجاري الامور و الاحكام علي أيدي العلماء بالله، الأمناء علي حلاله و حرامه، فانتم المسلوبون تلك المنزلة، و ما سلبتم ذلك الا بتفرقكم عن الحق و اختلافكم في الالسنة، بعد البينة الواضحة. و لو صبرتم علي الاذي و تحملتم المؤؤنة في ذات الله، لكانت أمور الله عليكم ترد، و عنكم تصدر، و اليكم ترجع. ولكنكم مكنتم الظلمة من منزلتكم و اسلمتم أمور الله في أيديهم، يعملون بالشبهات و يسيرون في الشهوات. سلطهم علي ذلك فراركم من الموت و اعجابكم بالحياة التي هي مفارقتكم، فاسلمتم الضعفاء في أيديهم، فمن بين مستعبد مقهور، و بين مستضعف علي معيشته مغلوب. يتقلبون في الملك بارائهم، و يستشعرون الخزي بأهوائهم، اقتداء بالاشرار، و جرأة علي الجبار، في كل بلد منهم علي منبره خطيب مصقع. فالارض لهم شاغرة و أيديهم فيها مبسوطة، و الناس لهم خول. لا يدفعون يد لامس، فمن بين جبار عنيد، و ذي سطوة علي الضعفة شديد، مطاع لا يعرف المبدي ء المعيد، فيا عجبا، و مالي لا أعجب و الارض من غاش غشوم، و متصدق ظلوم، و عامل علي المؤمنين بهم غير رحيم. فالله الحاكم فيما فيه تنازعنا و القاضي بحكمه فيما شجر بيننا.

اللهم انك تعلم انه لم يكن ما كان منا تنافسا في سلطان و لا التماسا من فضول الحطام، ولكن لنري المعالم من دينك، و نظهر الاصلاح في بلادك، و يأمن المظلومون من عبادك، و يعمل بفرائضك و سننك و احكامك، فان لم تنصرونا


و تنصفونا قوي الظلمة عليكم و عملوا في اطفاء نور نبيكم، (و حسبنا الله و عليه توكلنا و اليه انبنا و اليه المصير). [6] .

و يبدو أن هذه الخطبة التي ضمت ثلاثة محاور رئيسية جرت بعد حوار ساخن أراد فيه بعض ذوي النفوذ و المكانة و السمعة العالية من الصحابة أو المشهورين بالعلم و الصلاح، منع الامام عليه السلام من معارضة حكم يزيد أو الذهاب الي العراق لاعلان الثورة هناك.

و قد دار حديثه في المحور الاول عن مسؤولية الامة كلها، و في مقدمتهم علماؤها في التصدي للظلم و الانحراف. و أشار الي بني اسرائيل و كيف تقاعس علماؤها و احبارها عن مهمة الامر بالمعروف و النهي عن المنكر في مجتمعاتهم، رغم مكانتهم في تلك المجتمعات و انهم كانوا مسموعي الكلمة، و قد تخلوا عن هذه المهمة التي بدت امرا أساسيا و ضروريا مبررين ذلك، كما يفعل أمثالهم دائما بخشيتهم من الظلمة و حرصهم علي المصالح القليلة التي يحصلون عليها في ظلمهم، و التي يمكن ان يفقدوها اذا ما قاموا بهذا الواجب الذي كان كفيلا بتحصين مجتمعاتهم من الانهيار و السقوط.

كانت سمات المجتمعات الاسرائيلية تدل علي انها كانت اخذة بالانهيار، تسابق ابناؤها في الاثم و العدوان كان السمة الاولي، و سكوت الربانيين و الاحبار الذين هم دون مستوي الانبياء و يفترض فيهم ان يكونوا قائمين علي امر الشريعة و تعاهدها و رعايتها و ملاحظة أي انحراف عنها هي السمة الثانية و الخطيرة، اذ ان تخلي هؤلاء عن مهمتهم في الامر بالمعروف و النهي عن المنكر، و العودة الي احكام الشريعة و قواعدها، رغم انهم يمتلكون القوة و المكانة و الرصيد الشعبي، يجعل الناس يسارعون أكثر فأكثر في الاثم و العدوان، و يكون سباقهم محموما، أيهم يخرج أكثر من غيره عن احكام الشريعة المقدسة و يقوم باختراقات اكثر لها.

ان الربانيين و الاحبار أكثر ايمانا و علما و معرفة و مكانة من الآخرين، انهم أهل الدين و الحفظة للشريعة، و هكذا فان سكوتهم و تسامحهم و تهاونهم يفتح الباب علي مصراعيه امام المنحرفين و الظالمين و الخارجين، للتمادي في الانحراف و الظلم


و الخروج المعلن، بل انه تأييد له، و لذلك فانهم تحملوا كل مسؤولية هؤلاء اضافة لمسؤولياتهم الشخصية، اذ كان بوسعهم ايقاف كل شي ء منذ البداية اذا ما عزموا علي ذلك، و ستكون مهمتهم سهلة. اما اذا تمادي المجتمع كله في سباقه المحموم للشر و العدوان و الظلم، و دخل أبناؤه كلهم حلبات النزال، فأي باب يمكن سده حينئذ، و أي شر و ظلم يمكن ايقافه و الحد منه؟

كان حال الامة في فترة حكم معاوية حال بني اسرائيل في المراحل المبكرة من حياتها و بعيد نزول الرسالات عليها، و كما كان الربانيون و الاحبار المنتشرين بين أمم بني اسرائيل يستطيعون انتشال أممهم من الانحراف و الخطأ و التسارع في الاثم، اذا ما عزموا علي ذلك و صمموا عليه لمكانتهم و منزلتهم، فان صحابة رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم، و علماء الأمة المنتشرين باعداد كبيرة، و كان يفترض أن يكونوا هم حملة الرسالة و احرص الناس عليها، كانوا يستطيعون اذا ما وقفوا حقا بوجه الانحراف، ان يقفوا في مقدمة صفوف الامة التي كانت ستستجيب لهم حتما، و تسير وراءهم بكل حماس و اخلاص.

غير أن الذي حصل هو ان هؤلاء تخلوا عن مهمتهم، و رأينا من كان ينبغي ان يكون في مقدمة الصفوف مع الحسين عليه السلام، قد سارع اليه (بالنصح) و التحذير من مغبة مواجهة الظلم، بل لعل بعضهم قد غبط نفسه علي انه كان عاقلا بعيدا عن (الفتن) و المشاكل.

و قد رأينا كيف ان بعض من اختالوا علي الناس و افتخروا بصحبتهم لرسول الله صلي الله عليه و آله و سلم، و نالوا مكانتهم من الأمة علي هذا الاساس، كانوا في مقدمة المسارعين في الاثم و العدوان و الوقوع بيد الحاكم الجائر، و ذهب بعضهم الي حد تشويه الاسلام، و افتراء أحاديث مكذوبة عن النبي صلي الله عليه و آله و سلم، و لم يقفوا عند السكوت و التفرج علي الاوضاع المتردية، بل كانوا سببا مباشرا لترديها و سقوطها، و كانوا في مقدمة المساهمين في ذلك، و بدا كأن ما جاءوا به من (أحاديث) و افتراءات مكذوبة علي لسان الرسول صلي الله عليه و آله و سلم، تشكل قاعدة لدين آخر غير دين الاسلام، و بذلك أتاحوا للفراعنة و الطواغيت الجدد، ان يتشبثوا بكراسيهم و عروشهم علي أساس من الشرعية المزيفة، و الادعاءات الباطلة، فيوغلوا الي أبعد حد في الظلم و العدوان و الاذي.

و اذ لم يستطيعوا تحريف القرآن، كما فعلت بنواسرائيل بالتوراة، فانهم أولوه


و فسروه وفق أهوائهم و مصالحهم، و لذلك فانهم الحقوا اكبر نكسة بالاسلام، لا نزال نعاني منها الي يومنا هذا.

و لذلك جاءت اشارة الامام الحسين عليه السلام الي هذه الفئة العالمة الواعية من بني اسرائيل، و هو يتحدث الي الفئة العالمة الواعية من المسلمين في محلها تماما، و قد كان بتحذيره هذا و تشخيصه أمر سقوط بني اسرائيل، ابلغ شاهد علي قومه.

لقد شخص سبب قعود و تكاسل ربانيي و احبار بني اسرائيل، بانه كان خوفا من الظلمة الذين كانوا يعيشون بين اظهرهم، و رغبة في عطائهم و جوائزهم، و كأنه كان يشير الي ان ذلك كان نفس السبب الذي أقعدهم عن القيام بواجبهم و مسؤولياتهم.

لقد كان الحسين عليه السلام يحاول استئصال الخوف من قلوب الناس، كما كان يحاول استئصال الطمع، و يوجههم للعودة مرة اخري لمهمتهم الاساسية باعتبارهم من ينبغي ان يكونوا في طليعة المؤمنين و المؤمنات، المتكاتفين المتعاضدين المتآخين لانجاز المهمة الكبيرة، مهمة الامر بالمعروف و النهي عن المنكر، التي اناطها الله بهم و اراد منهم ان يكونوا دائما علي أهبة الاستعداد لمراقبة دائمية متواصلة، لرصد أي بادرة للخطأ و الانحراف و الظلم و المنكر، و اعادة الناس الي الصواب، مهما كان مركزهم و مهما كانت مكانتهم.

فهل كانوا قادرين علي رد أقواله عليه السلام، التي هي أقوال الاسلام، و هم يعلمون ان فريضة الامر بالمعروف و النهي عن المنكر كانت في مقدمة الفرائض لانها دعوة الي الاسلام مع رد المظالم و مخلفة الظالم علي حد تعبيره عليه السلام، و هذا ما أكد عليه القرآن و رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم. و قد رأينا الآية التي استشهد بها الامام عليه السلام بخصوص الامر بالمعروف و النهي عن المنكر، و كيف انه اعتبرها فريضة تستقيم و تؤدي الفرائض كلها بعدها، هينها و صعبها. [7] .


و في المحور الثاني يصفهم أولأ، ثم يتوجه اليهم بالنقد الجاد، و يصف بعض ما حل بهم و ما حل بالأمة كلها جراء سكوتهم و مصانعتهم.

و قد أشار أيضا الي ان مركزهم في الأمة يشابه مركز الربانيين و الاحبار في بني اسرائيل الذين تخلوا عن مسؤولية تقويم مجتمعاتهم، رغم انهم كانوا يتمتعون بامتيازات كبيرة و ربما بحصانة من الاذي، و قد كان ذلك بفضل ما كانت الأمة ترجوه منهم من القيام بحق الله.

لقد قصر أولئك، و قصر هؤلاء عن أكثر حق الله. استخفوا بالائمة، ضيعوا حق الفقراء.

أصبح جل همهم الحصول علي المزيد من المكاسب، زاعمين انها حق لهم، بخلوا باموالهم، جبنوا عن التصدي للظالم و اعلان الحرب عليه، بل و حتي عن نصيحته. و كان حريا بهم و هم في موقفهم ذاك ان لا يذهبوا في امانيهم الي حد الطمع في الجنة و مجاورة الرسل و الامان من العذاب، بل ان يتوقعوا نقمة من نقمات الله التي تخوفها الامام عليه السلام عليهم، لان المنزلة التي وصلوا اليها كانت لانهم اقرب بنظر الناس الي الله من غيرهم، و هكذا عظموا في أعين الناس مع انهم لم يكونوا يستحقون ذلك،بل انهم ليستحقون العكس و قد أخلوا بشروط القرب من الله سبحانه، بل انهم تمادوا الي أبعد من ذلك.


رأوا عهود الله منقوضة فلم يفزعوا، و قد خفرت ذمة رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم،

حينما ابتعدوا عن دينه و خالفوا اهله و عترته.

و أهمل ضعاف الناس و مرضاهم و مساكينهم، و لم يكلفوا انفسهم عناء السؤال عنهم و العلم بحالهم.

لقد قصروا في اعمالهم، و داهنوا الظلمة و صانعوهم، و قد تعرض الامام عليه السلام الي مسألة دقيقة و مهمة: و هي:

ان اعظم الناس مصيبة، و أولهم تعرضا للاذي و الغبن و الاهمال هم العلماء، اذا ما أخلوا بشروط عملهم و مسؤولياتهم و أخلوا بشروط الامانة علي الحلال و الحرام، فماذا يتوقع من يخون الامانة سوي ان يقابله الناس بالمثل؟

لقد سلبوا منزلتهم من قبل ادعياء العلم و اعوان السلطة الجائرة، لأن من سلبهم منزلتهم لم يتوقع ان يجتمعوا علي الحق و يصبروا علي الاذي و يتحملوا المؤونة في ذات الله، و قد ضعفوا بذلك و ذلوا و مكنوا الظلمة من منزلتهم، و اسلموا امور الله اليهم، (يعملون بالشبهات و يسيرون في الشهوات).

لقد فروا من الموت و اعجبوا بالحياة الزائلة و لو في ظل سلطان الجور و الانحراف، و وجدوا ان من السهل عليهم ان يسلموا ضعاف الناس بأيدي هذا السلطان، لكي يحفظوا حياتهم هم.

ان موقف علماء الامة (بتسامحهم) و تراخيهم و تركهم زمام الامور بأيدي سلطان الجور و الانحراف من شأنه ان يولد أكثر الحالات تناقضا بين صفوف الأمة و يجعل حالة الظلم سائدة حتي بين الضعاف و المظلومين.

و سيكون من شأن تكثير عدد (العلماء) المزيفين ان توضع اجمل زينة في عروة عرش الظالم، طالما انهم يخضعون الناس و يجعلونهم يستجيبون لأهوائه استجابة تامة، و لو كان علي خطأ مبين.

و هكذا يروح ادعياء العلم، بلا علم صحيح، يتسنمون دري المنابر، يتكلمون علي هواهم، طالما ان أحدا لا يستطيع الرد عليهم أو معارضتهم.

ان حالة من السعي المحموم وراء تجارة (العلم) المربحة هذه ستجتاح الناس و سيكون اكثرهم تأثيرا و مكانة، أقربهم منزلة من السلطة و أكثرهم دعوة لتكريس مصالحها و امتيازاتها و نفوذها.


أليس ذلك ما حصل فعلا؟

ألم يتنازل علماء الامة الحقيقيون عن مهمتهم الحقيقية، للعلماء المزيفين؟

و تحت أية ذريعة أو حجة؟

أليس تحت ذريعة التعقل و حجة الواقعية، و تقبل الامر الواقع...؟

غير انهم و بضمنهم من ذكرنا من الناصحين و المحذرين كانوا عاجزين أمام الامام الحسين عليه السلام، فهم لم يكونوا قدوته و محط اماله و اعجابه، بقدر ما كان حريا ان يكون هو كذلك بالنسبة لهم.

لم يكن مبهورا بأي منهم، كما لم يكن مبهورا حتي بالبريق اللامع لعرش معاوية الذي شيده من اموال الامة و فوق جماجمها و اشلائها و مكاسبها المسروقة.

كان الحسين عليه السلام هو العالم الاول في الامة، و كان محط امال الامة كلها بعلمه و منزلته من رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم، و مواقفه الصادقة الثابتة، و من هنا كان سر قوته، و قوة تمسك الامة به، رغم انها قد تخلت عنه بعد ذلك لقوة الضغوط الاموية التي بلغت حدا مذهلا من الشراسة و العدوان.

لقد كانت الدولة الاموية تعلم مكانة و قوة و علم من تنازله، و هكذا كانت وسائلها لمحاربته و كفاحه منذ البداية علي مستوي المعركة المتوقعة.

و قد بدأ معاوية المعركة عندما حرك قوي اعلامه لاظهار الحسين عليه السلام و كأنه طالب حكم و منافس ليزيد، و كأنه كان ينطلق بدافع ردود فعل سريعة و غاضبة دون النظر الي عواقب الامور، و اشاع بعض القصص التي تروي وقوفه بوجه اخيه الحسن عليه السلام عند توقيع وثيقة الصلح، و اخري عن انتهازه الفرص للتعرض لبعض آل عبد شمس، بدافع المنافسة القديمة بين هاشم و أمية طبعا، و اخري عن خروج آل البيت و في مقدمتهم أميرالمؤمنين عليه السلام عن الاسلام و سبه من علي منابر المسلمين، و استئصال شيعتهم و مواليهم و السائرين علي خطهم و متابعتهم و محاربتهم في حياتهم و معيشتهم و عطائهم و في كل شي ء.

و لم يهمل معاوية ادق التفاصيل للمعركة المحتملة، حتي انه عين ابن زياد قيبل وفاته و اوصي بان يكون واليا علي العراق و قائدا للجيش الذي سوف يتصدي للحسين عليه السلام، اذا ما اعلن الثورة علي الدولة الاموية اليزيدية، كما سنري ذلك في الوثائق التي رويت في كتب التاريخ المعتبرة و الموثوقة لدي الجميع.


و اذ اعلن الامام الحسين عليه السلام انه ينفرد عن العلماء و الصحابة الخائفين و المستسلمين، فانه توجه الي الله بخطابه امامهم، موضحا امامه سبحانه، و هو الذي لا تخفي عليه خافية، طبيعة المهمة الصعبة التي كان يتعرض لانجازها بمفرده، ليكون بيانه الاخير امام اكبر تجمع للامة قد يتاح لها ان تشهده في مواسم الحج شهادة عليهم، و وثيقة ادانة للامة الخانعة و لعلمائها القاعدين، و قد سبق ان تحدث باسهاب عما سيحل بالامة اذا ما تخلي علماؤها عن مسؤولياتهم.

ان ما شهدته الامم الخالية، من بني اسرائيل و غيرهم، شهده المسلمون و عاشوه.

و لكي يزيل كل ظلال الشك التي قد تحاول الدعاية الاموية القائها علي مهمته الكبيرة، و يحاول كل من لم يجد في نفسه القدرة علي المشاركة فيها اثارتها، (و هو ما تم بالفعل بعد ذلك)، فانه اوضح بجلاء طبيعة هذه المهمة و النتائج المتوقعة عند نجاحها، أو عندما تكون الجولة لصالح السلطان الاموي الجائر.

أشهد الله اماهم انه لم يكن ما كان منه و من سيتابعه في معركته المقبلة تنافسا في سلطان و لا التماسا من فضول الحطام، ولكن لكي تري المعالم التي اخفيت من دينه، ولكي يظهر الاصلاح و يأمن المظلومون، ولكي تعود الامة الي الاسلام، و العمل بفرائض الله و سننه و احكامه، لا الاحكام و السنن التي اوجدها الظالمون و الفراعنة الجدد.

و كانت كلمته الاخيرة فيهم، و تحذيرة الاخير اليهم، ان لم تنصرونا و تنصفونا قوي الظلمة عليكم، و عملوا في اطفاء نور نبيكم، و هو ما بدا لهم انه امر واقع فعلا، فقد قوي الظلمة عليهم، و عملوا علي اطفاء نور نبيهم صلي الله عليه و آله و سلم و رسالته.

و كان ما كان بسببهم هم، و بسبب تخليهم عن واجباتهم و مسؤولياتهم و هكذا جاء قوله صلي الله عليه و آله و سلم عندما سئل:

(أي الناس شر؟ قال: العلماء اذا فسدوا؟). [8] .

فقد فسد بسببهم المجتمع كله، و لم ير أن يتمسك بما تخلي عوه خياره و فضلاؤه، و من هنا جاء تأكيده صلي الله عليه و آله و سلم علي العلماء ان يعملوا بعلمهم. اذ ما معني ان


يكتموا بعضه، الا ان يكون ما كتموه، مما لا يسر من تسلط علي الناس و تأمر عليهم بغير وجه حق، و كان من شأنه ان يكشف كل منكر يعمله أمثال هؤلاء.

فكيف اذا كان الحال قد وصل بأن لا يكتفي هؤلاء بالعمل بما علموا، أو كتم ما علموه و حسب، بل و ان يفسحوا المجال لمدعي العلم و واضعي الحديث و مزوري الكلام ليأخذوا مكانهم و ينزووا هم في زوايا المساجد أو في البيوت، مكتفين بالسلامة، اما التحدث عن (الحلال)، أو (الحرام) فقد تركوا امر الحديث عنه لبدائلهم الذين تولوا صياغة العديد من التشريعات ثانية، حتي لم يعد امام الحاكم حرام يفكر فيه، و غدا كل شي ء مباحا له، و قد برء من كل حساب يوم الحساب.

و هكذا رأينا من شهد من هؤلاء (العلماء) ليزيد بن عبد الملك، عندما ذكروا له بان (الخليفة) غير محاسب يوم القيامة، و ان ما يمنع علي غيره مباح له.

كان الامر بالمعروف و النهي عن المنكر و التصدي للظلم و الهوي و الانحراف، ذاك الذي عجز عن القيام به علماء الامة، وادي الي انحرافها و تساقط ابنائها و استسلامهم للحاكم المنحرف، من الامور التي لم يكن الامام الحسين عليه السلام يعتقد انها يمكن ان تتم بسلام و هدوء، و انها يمكن ان تتقبل من الحاكم الظالم ببساطة، و انه سرعان ما سيستجيب لمن سوف يدعونه لتبني خط الاسلام الواضح المتقاطع من خطه و المتعارض مع هواه و رغباته و مصالحه جملة و تفصيلا، بل ان أول رد فعل (مناسب) لهذا الحاكم هو المواجهة العنيفة مع من يفكر برده الي خط الاسلام، و سيفقد صوابه اذا ما استمع الي أقوال تدعوه لذلك.

و اذ لم يعبر من سبقوا عبد الملك بن مروان عن ذلك صراحة، فان عبد الملك و من جاءوا بعده عدا عمر بن عبد العزيز عبروا عن الاستجابة الطبيعية لفرعون، اذا ما طلب احد (استسلام) فرعون لقانون آخر غير قانونه و هواه.

و قد عبر أميرالمؤمنين عليه السلام في احدي المرات عن صعوبة أمثال هذه المهمات علي من لم ينحازوا الي جانب الاسلام انحيازا تاما، و علي من لم يوطنوا أنفسهم تحمل كل شي ء في سبيله:

(ان امرنا صعب مستصعب، لا يحمله الا عبد مؤمن، امتحن الله قلبه للايمان، و لا يعي حديثنا الا صدور امينة و احلام رزينة). [9] .


علي انه عليه السلام لم يقل انها مستحيلة و انها لا يمكن القيام بها، و كل ما في الامر انه اراد ان يستعد من يتصدي لامثال هذه الامور و بتزود باكبر قدر من الايمان و الفهم و الوعي القادر علي حمل الرسالة و ايصالها الي الآخرين.


پاورقي

[1] و قد رواها بعضهم عن اميرالمؤمنين عليه‏السلام لتشابه عبارات المقطع الاخير فيها، و لعل الحسين عليه‏السلام يعيد في المقطع الاخير بعض کلام ابيه و يستشهد به، و قد يکون التشابه جاء عفوا اتفقت عليه خواطرهما و افکارهما، و قد جاء في کلمة أميرالمؤمنين:(اللهم انک تعلم أنه لم يکن الذي کان منا منافسة في سلطان، و لا التماس شي‏ء من فضول الحطام، ولکن لنرد المعالم من دينک و نظهر الاصلاح في بلادک، فيأمن المظلومون من عبادک، و تقام المعطلة من حدودک...) نهج‏البلاغة.

[2] المائدة: 63.

[3] المائدة: 79 / 78.

[4] المائدة: 44.

[5] التوبة: 71.

[6] تحف العقول عن آل الرسول ص 170 - 168.

[7] قال الله تعالي: (ولتکن منکم أمة يدعون الي الخير و يأمرون بالمعروف و ينهون عن المنکر و أولئک هم المفلحون) آل عمران 104.

(کنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف و تنهون عن المنکر و تؤمنون بالله). آل عمران 110. (الأمرون بالمعروف و الناهون عن المنکر و الحفظون لحدود الله و بشر المؤمنين). التوبة: 112.

(الذين ان مکنهم في الارض أقاموا الصلوة و ءاتوا الزکوة و أمروا بالمعروف و نهوا عن المنکر) الحج: 41.

و قال رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم: (... اذا لم يأمروا بالمعروف و لم ينهوا عن المنکر و لم يتبعوا الاخيار من اهل بيتي سلط الله عليهم شرارهم فيدعو عند ذلک خيارهم فلا يستجاب لهم) تحف العقول 36.

(کل معروف صدقة، و أهل المعروف في الدنيا هم اهل المعروف في الآخرة، و اهل المنکر في الدنيا هم أهل المنکر في الآخرة، و أول من يدخل الجنة أهل المعروف) المصدر السابق 39. وروي عن ابي‏سعيد الخدري عنه صلي الله عليه و آله و سلم: (من رأي منکم منکرا فليغيره بيده، فان لم يستطع فبلسانه، فان لم يستطع فبقلبه، و ذلک أضعف الايمان).

وروي ابوداود و الترمذي باسناده عن ابي‏سعيد عنه صلي الله عليه و آله و سلم قوله: (أفضل الجهاد کلمة حق عند امام جائر) و روي أحمد باسناده عن عدي بن عميرة انه صلي الله عليه و آله و سلم قال: (ان الله لا يعذب العامة بعمل الخاصة، حتي يروا المنکر بين ظهرانيهم و هم قادرون علي ان ينکروه فلا ينکرونه فاذا فعلوا عذب الله العامة و الخاصة)... کما روي عن اميرالمؤمنين عليه‏السلام أحاديث و أقوال عديدة بهذا الخصوص و يخصوص الجهاد، لعلها تحتاج الي بحث مفرد مستفيض.

[8] تحت العقول 25.

[9] نهج‏البلاغه 280.