بازگشت

عقلية المعترضين تختلف في دوافعها و منطلقاتها عن عقيلة الامام الحسين


ماذا رأينا في كل ذلك؟

رأينا سعيا محموما مختلف الدوافع لتحذير الامام الحسين عليه السلام من الخروج من مكة الي العراق، و البقاء فيها و الرجوع الي المدينة، و كان مصدره من اشخاص يختلفون في مستوياتهم و درجة قرابتهم أو علاقتهم به.

فهل لم يكن الحسين عليه السلام يستمع اليهم؟

و هل لم يدرك العواقب التي حذروه منها، حتي و هو في مرحلة من مسيره و قد علم بتخلي أهل الكوفة عن مسلم؟

و هل كان متشنجا أو يتصرف برد فعل عصبي و هو يستمع اليهم، ثم و هو يرد عليهم بعد ذلك كما سنري؟ (و سنري العكس بالتاكيد). و هل كان في مرحلة من الصبا و الشباب قد تمنعه من التروي و امعان الفكر في نصائح هؤلاء و اقوالهم؟ ام أن ادراكه و مستواه لم يكونا يتيحان له معرفة واقع الكوفة، و مواقف اهلها من ابيه أميرالمؤمنين و اخيه الحسن عليه السلام؟

ألم يعش حياة حافلة امتدت اكثر من نصف قرن مع جده و ابيه، و عاصر اكثر الاحداث اثارة في التاريخ الاسلامي، و كان في خضم تلك الاحداث، شاهدا عليها، و مع اناس ذوي كفاءة و تجربة و خبرة و علم؟

و هل لمس احد و هو يستعرض تاريخه كله ما حاول الامويون الصاقه به و هو التصرف السريع و عدم التروي و الحدة و غير ذلك، حتي في اشد المواقف مدعاة لذلك؟ ام ان ألمه لواقع الامة و سقوطها و استسلامها لمعاوية و يزيد من بعده، كان أشد مما يعانيه و ما يتوقعه من آلام، حتي ولو كانت آلام الذبح و القتل؟ كان موت الامة اشد هولا عليه من موته، و مصيرها المحزن الذي تنتظره في ظل يزيد و امثاله اشد هولا عليه من المصير المحزن الذي ينتظره اذا ما اقدم في عملية كبيرة كعمليته التي قام بها


لانقاذ الامة كلها، و تنبيهها الي ما سوف تتعرض له ان هي رضيت بواقعها، و تنازلت عن وجودها كأمة اسلامية.

ربما كان الحسين عليه السلام يتألم لجلاديه انفسهم، و لمن غرروا بهم، و يري ان مصيرا اشد قتامة و سوادا ينتظرهم، و انهم قد خدعوا بما خدع به امثالهم من قبل، و انهم انما يعيدون صورا سبق و ان طلعت علي الانسانية من قبل، و انهم لم يأتوا بجديد رغم نعمة الاسلام و وضوح حجته عليهم.

هل كان مقدرا لتراث خاتم الرسل صلي الله عليه و آله و سلم، ان ينتهي هذه النهاية المأساوية علي يد يزيد، و تسكت الامة ببساطة هكذا، و يأتي (عقلاؤها) ليحذروه مغبة ايقاف هذا السقوط الرهيب، لئلا يموت كما مات غيره من النبيين و الشهدا و الصالحين في سبيل اديانهم و معتقداتهم؟

و هل هذا الموت هو ما يخشي منه حقا؟ هل خشي اولئك الموت الذي لا قوة، ام اقبلوا عليه بصدور رحبة طالما انه كان يحقق اهدافهم بايقاظ اممهم و شعوبهم و دفعها لكي تنتبه الي واقعها و حياتها، التي ظلت رهينة بايدي الطغاة و الجبابرة و المستغلين علي مر التاريخ؟

و لا نحسب انه كان يعتقد ان كان من تقدم اليه (بالنصيحة) كان يغشه؟ و لعله كان من اكثر الناس معرفة بالدوافع التي جعلت هؤلاء يتقدمون بالنصح و التحذير اليه.

ربما اعتقد بعضهم انه كان يقود معركة خاسرة منذ البداية، و ان عمله كان انتحاريا لا طائل منه، و ربما اعتقد بعضهم انه خرج بفعل تأثره بأقوال ابن الزبير أو أهل العراق، و ربما اعتقد بعضهم انه انما كان يسعي الي السلطة و كرسي الحكم، و ان خروجه كان رد فعل سريع علي موت معاوية.

ينبغي ان نعلم هنا و هو ما اكدته لنا كل تفصيلات سيرته ان شخصيته و تركيبه النفسي و الاجتماعي، و مركزه من رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم و من المسلمين،و سيرته المنزهة بشهادة الهية عليا، لم تدل في اي يوم من حياته انه كان يتصرف باندفاع عاطفي ورد فعل سريع، بل انه كان نسخة من ابيه أميرالمؤمنين عليه السلام، بكل ما حمله من وعي و علم و اخلاص للرسالة التي آمن بها اول الناس بعد رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم، و من هنا كان سر ذلك الانحياز المطلق للاسلام و عقيدته، و سر تلك الاستقامة التي لم تر اي مجال


للمساومة أو التراجع علي ساب رسالة جده صلي الله عليه و آله و سلم، التي حملها آل عليهم السلام أول من حملوها و كانوا في مقدمة المضحين في سبيلها.

ان العقلية التي خاطبت الحسين عليه السلام، لم تكن تدرك ما كان يحمله من هموم و هو يري ان محصلة الاحداث التي استدرجت اليها الامة، كانت قعود يزيد في مركز رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم، و هو امر بدا غير محتمل أو قابل للتصديق أو التحمل، ليس منه فحسب، بل حتي من اصحابه الذين لم يكونوا بمستواه و مستوي ما يحمله من علم و معرفة و ادراك.

لم تدرك تلك العقلية كل ما جال بباله، و لم تدرك صعوبة المهمة التي كان يتصدي لها.

لقد كانوا حريصين علي حياتهم، و رأوا أن من الحكمة ان يحرص الحسين عليه السلام مثلهم علي حياته، و يكتفي بالسلامة، و لا ينازل دولة الانحراف و الظلم، التي بدت قوية و قاهرة بنظرهم، اذ ان في ذلك موته المحقق، و هو ما بدا خسارة كبيرة بنظرهم، مادامت الحياة غاية كبيرة بنظر العديدين منهم.

كان لابد للعقلية التي تخاطبه ان تحمل نفس تصوراته، و ان تدرك خطورة مهمته و تدرك ابعادها و مراميها، فهل الخوف من الموت وحده هو الذي كان سيقعده عن اداء هذه المهمة الخطيرة، مهمة ارجاع الامة عن خط الانحراف، و انقاذها من المأزق الذي وقعت فيه بفعل تراكمات الاحداث و السلطة الغاشمة، التي تسللت الي موقع قيادة المسلمين و حكمهم؟

و لو تساءل الحسين عليه السلام و هو يعرف من هو و يعرف أهميته و موقعه من المسلمين تري لو استسلم و بايع و أقر هذا الحكم الجائر و اعترف به، ما ستكون قيمة السنواب المتبقية من عمره، و هي سنوات شيخوخة و هرم، ان لم يفعل العكس و يستثمرها بعمل مربح ستكون نتيجته انقاذ حياة الامة كلها، بل كل اجيالها علي امتداد التاريخ؟ و كيف كان سيحقق هذا الهدف الكبير، ان لم يدفع ذلك الثمن الكبير؟

لقد كان الثمن عظيما: دون شك، غير أن الهدف كان عظيما ايضا، و كانت صعوبة المهمة علي مستوي صعوبة الموقف الذي وضع نفسه فيه، بوعي و ادراك و بصيرة.


و كان لابد لمن لم يفهموا طبيعة مهمته تلك، و لمن لم يريدوا ان يفهموها أن يبرروا مواقفهم و عدم فهمهم امامه و امام الامة، فقد كان العديدون منهم يدركون انه كان شاهدا عليهم، و انه اقوي منهم و انه يملك ان يدينهم و يحاسبهم بمنطق الاسلام، لو لا ان الحساب النهائي هو بيد الله، و الحكم له و المصير اليه بعد ذلك دون شك.