بازگشت

سيناريو و اخراج معاوية


لقد بدأ الاعداد الفعلي لبيعة يزيد قبل سنة 50 للهجرة، بعيد قتل الامام و الحسن عليه السلام بالسم من قبل معاوية كما رأينا و بعد المشورة العلنية للمغيرة بذلك و استعداده لا قناع أهل الكوفة و قيام زياد باقناع أهل البصرة و هما المركزان المتوقعان للمعارضة و الرفض.

و بدا حرص معاوية علي اكمالها الي حد جعله يغضب من زياد، و هو من اقرب المقربين اليه، الي حد شتمه و تهديده بارجاعه عبدا كما كان، مع ان معاوية اشتهر باخفاء مشاعره و عواطفه امام الناس، عندما نصحه بتأجيل الامر عاما أو عامين ريثما تتاح فرصة تحسين صورته و تجميلها امام الامة.

و كانت الخطوة الاولي هي رسم صورة جديدة ليزيد لترضاه الامة خليفة لها و هكذا:

(كتب معاوية الي عماله بتقريظ يزيد و وصفه و ان يوفدوا اليه الوفود) [1] .

و هكذا وفدت الوفود المؤيدة لمشروع البيعة لتشارك باكبر عرض مسرحي اعد لهذه الغاية و ليستمع اعضاؤها الي الخطب البليغة بحق الخليفة المرتقب، ثم تقوم بعد ذلك بتبليغ اهالي الامصار [باجماع] الأمة و [رغبتها الشديدة] لانتخاب يزيد و الانطباع الحسن عنه لدي الجميع، و انه البديل العملي الوحيد لمعاوية.

و كان التهميد لمسرحية التحكيم قد تم بصورة حاذقة متوقعة من معاوية فعلا. فعند وصول الوفود الي دمشق دعا معاوية الضحاك بن قيس الفهري، فقال له:

اذا جلست علي المنبر، و فرغت من بعض موعظتي و كلامي، فاستأذني للقيام، فاذا اذنت لك، فاحمد الله تعالي، و اذكر يزيد، و قل فيه الذي يحق له عليك


من حسن الثناء عليه، ثم ادعني الي توليته من بعدي، فاني قد رأيت و اجمعت علي توليته، ثم دعا عبدالرحمن بن عثمان الثقفي و عبدالله بن مسعدة الفزاري و ثور بن معن السلمي و عبدالله بن عصام الاشعري، فأمرهم ان يقوموا اذا فرغ الضحاك و أن يصدقوا قوله، و يدعوه الي بيعة يزيد) [2] .

فهو هنا قد وضع حتي التفاصيل الدقيقة و دور كل ممثل في هذه المسرحية الفاضحة، و ارادهم ان يظهروا و كأنهم ممثلون للامة يتحدثون باسمها و يعبرون عن رغباتها الحقيقية و الملحة بتولية يزيد.

و هكذا تحدث هؤلاء الخطباء المعبرين عن رغبات معاوية امام وفود الامصار المتجمعة في عاصمة الدولة..، و كان اول من تحدثوا ليكسروا طوق الخجل من التحدث عن فضائل يزيد امام الآخرين الذين لابد سيحرجون امام معاوية و خطبائه المتحمسين و يحذون حذوهم بابداء الحماس تجاه خليفة الامة المرتقب.

و بعيد اللمسات الاخيرة للمشهد و بعد ان جلس معاوية علي المنبر، و فرغ من بعض موعظته، و هؤلاء النفر في المجلس قد قعدوا للكلام. [3] .

قام خطيبهم الاول، الضحاك بن قيس و قد جاء بكلمته التي لابد انه قد اعدها اعدادا جيدا تناسب المقام الذي وقفه:

[انا قد بلونا الجماعة و الالفة، و الاختلاف و الفرقة، فوجدناها ألم لشعثنا، و امنة لسبلنا، و حاقنة لدمائنا، و عائدة علينا في عاجل ما نرجو و آجل ما نؤمل، مع ما ترجو به الجماعة من الالفة، و لا خير لنا ان نترك سدي، و الايام عوج رواجع، و الله يقول (كل يوم هو في شأن)، و لسنا ندري ما يختلف به العصران، و انت يا أميرالمؤمنين ميت كما مات من كان قبلك من انبياء الله و خلفائه، نسأل الله بك المتاع، و قد رأينا من دعة يزيد بن أميرالمؤمنين، و حسن مذهبه و قصد سيرته و يمن نقيبته، مع ما قسم الله له من المحبة في المسلمين و الشبه بأميرالمؤمنين في عقله و سياسته و شيمته


المرضية، ما دعانا الي الرضا به في امورنا. و القنوع به في الولاية علينا، فليو له أميرالمؤمنين اكرمه الله عهده و ليجعله لنا ملجأ و مفزعا بعده، تأوي اليه ان كان كون، فانه ليس احد أحق بها منه، فاعزم علي ذلك، عزم الله لك في رشدك، و وفقك في امورنا) [4] .

لقد اكد الضحاك في خطبته علي الالفة و الجماعة، و هي النغمة التي عزف عليها معاوية طيلة حكمه، و قد أراد الايحاء بانه حقق ما لم يتحقق من قبل، و انه جنبهم ايام حكمه ويلات الحروب التي خاضوها ضد أميرالمؤمنين عليه السلام، متناسيا انه السبب الرئيسي لهذه الويلات و الفتن، و ان الالفة و الجماعة هي المكسب الرئيسي الذي تحقق بفضله، و ذلك ما يجب ان يحافظوا عليه و يتمسكوا به و يتنازلوا عن كل شي ء مقابله.

أما مواصفات يزيد فهي الدعة و حسن المذهب و قصد السيرة و يمن النقيبة و محبة المسلمين له، و شبهه بأبيه معاوية في عقله و سياسته و شيمته، و انه اذا ما اصبح خليفة بعد ابيه فانه سيحقق لهم ما حققه ذلك الاب.

اننا لا نلمح نفسا اسلاميا في هذه الخطبة، و لا نلمس الا تلويحا بالمصالح و الامتيازات، و لكن ماذا عسي ان يقول الضحاك أو غيره غير ما قال في يزيد.

ثم ألقي عبدالرحمن بن عثمان الثقفي خطبة رنانة أخري شكي فيها من الزمان و اهوائه و ادوائه و ابنائه و تطوع ليشير علي معاوية بالرشاد و يدعوه الي السداد حسب تعبيره مع انه احسنهم نظرا و اثبتهم بصرا، و قد جاء فيها:

(و يزيد بن اميرالمؤمنين قد عرفنا سيرته و بلونا علانيته و رضينا ولايته، و زادنا بذلك انبساطا، و به اغتباطا، ما منحه الله من الشبه بأميرالمؤمنين و المحبة في المسلمين، فاعزم علي ذلك و لا تضق به ذرعا، فالله تعالي يقيم به الاولاد، و يردع به الالد، و تؤمن به السبل، و يجمع به الشمل، و يعظم به الاجر، و يحسن به الذخر...). [5] .

تري ماذا عرفوا من سيرة يزيد و ماذا بلوا من علانيته، و لماذا رضوا ولايته و زادهم بذلك انبساطا و اغتباطا؟ ألأنه اشبه الناس بمعاوية؟ ألأن الامة تحبه؟


لقد بدا خطاب عبدالرحمن الثقفي و كأنه يوجه لانسان متردد حائر، لا لانسان قد عزم امره و وصل الي قراره، و اراد بذلك ايهام الناس بان معاوية لم يتخذ قراره الا بناء علي رجاء الامة و طلبها.

و لقد افلح هذا المتملق و امثاله بجعل الناس يدركون ان معاوية مصر علي المضي بهذه البيعة الي النهاية، و انه لن يتراجع عنها حتي و ان كان الثمن مزيدا من دماء ابناء الامة، و قد بلوا معاوية في السابق و خبروه، و عرفوا سيستميت في الدفاع عن مصالحه و ملكه الذي حسب انه قد ضحي من اجله و بذل الكثير و اقنع جيلا من الناس بذلك.

أما ثور بن معن الثالث في سلسلة الخطباء الممثلين في هذه المسرحية الهزلية المعدة فقد تكلم عن الزمان و تقلباته، و اطري يزيد و دعا الي استخلافه، و ذكر فضائل له تصلح لو صحت لانسان يعيش القيم العربية الجاهلية، لا قيم الاسلام، ففضائل الاسلام لم تذكر الا علي نحو غير واضح، و قد جاء في خطبته:

(... و يزيد بن أميرالمؤمنين اقدمنا شرفا، و ابذلنا عرفا، و قد دعانا الي الرضا به، و القنوع بولايته، و الحرص عليه، و الاختيار له، ما قد عرفنا من صدق لسانه و وفائه، و حسن بلائه، فاجعله لنا بعدك خلفا، فانه اوسعنا كنفا و اقدمنا سلفا، و هو رتق لما فتق و زمام لما شعب، و نكال لمن فارق و نافق، و سلم لمن واظب و حافظ للحق) [6] .

و هذه صفات ملك جاهلي نموذجي، لو كان يزيد يتمتع بها حقا لكان صالحا لحكم قبيلة أو شعب من شعوب الجاهلية، و لكن هل عرف احد ليزيد حتي هذا القدر من الصفات المطلوبة لحاكم جاهلي غابر؟

و قد بدا عبدالله بن عصام خلال خطبته كأحد الزهاد أو الاولياء الذي لا تروق له هذه الدنيا المقضية المليئة بالاهواء المنجذمة التي يخاف حدها و ينتظر جدها..

(شديد منحدرها كثير وعرها، شامخة مراقيها، ثابتة مراتبها، صعبة مراكبها،... فالموت يا أميرالمؤمنين من ورائك و وراء العباد، لا يخلد في الدنيا احد و لا يبقي لنا امد و انت يا أميرالمؤمنين مسؤول عن رعيتك و مأخوذ


بولايتك، و انت انظر للجماعة، و اعلي عينا بحسن الرأي لاهل الطاعة، و قد هديت ليزيد في اكمل الامور و افضلها رأيا و اجمعها رضا، فاقطع بيزيد قالة الكلام و نخوة المبطل و شغب المنافق و اكبت به الباذخ المعادي، فان ذلك الم للشعث و اسهل للوعث، فاعزم علي ذلك و لا تترامي بك الظنون) [7] .

و قد بدا واعظ السلاطين هذا حريصا كزملائه علي تولية يزيد، مع انه لم يسهب في الحديث عن فضائله و مزاياه.

اما الخطيب الأخير عبدالله بن مسعدة الفزاري الذي رأي ان الله آثر معاوية بالخلافة، رأي ايضا ان يزيد احق الناس بالخلافة بعده لشبابه و مكارمه و شدته في العدو وحث معاوية علي استخلافه قائلا:

(... ان الله آثرك بخلافته، و اختصك بكرامته، و جعلك عصمة لاوليائه، و ذا نكاية لاعدائه، فاصبحت بأنعمه جذلا، و لما حملك محتملا، يكشف الله تعالي بك العمي، و يهدي بك العدي، و يزيد بن أميرالمؤمنين احسن الناس برعيتك رأفة، و احقهم بالخلافة بعدك، قد ساس الامور، و احكمته الدهور، ليس بالصغير... و لا بالكبير السفيه، قد احتجي المكارم و ارتجي لحمل العظائم و اشد الناس في العدو نكاية، و احسنهم صنعا في الولاية، و انت اغني بأمرك، و احفظ لوصيتك، و احرز لنفسك...) [8] .

و قد ادي الخطباء الذين اعدهم معاوية امام الوفود لمثل هذا الموقف أدوارهم ببراة منقطعة النظير جعلت الناس لا يشكون في (اخلاصهم) و ولائهم للبيت الاموي المالك و انحيازهم التام اليه، مما جعل احتمال تنصيب يزيد (خليفة) امرا محققا، رغم ان احدا من الخطباء أنفسهم لم يستطع ذكر محاسن محددة ليزيد، الا انه اشبه الناس بوالده، و ان استخلافه قيمن بمنع الفتن و المشاكل، و ربما حقق فائدة اكبر بعد تحقيق حياة طابعها الدعة و الاستقرار، و قد كان الخطباء المذكورون يمثلون اغلبية مجتمع الشام المنحاز لمعاوية و الذي خاض الحروب معه ضد الامام علي عليه السلام.

و قد اراد معاوية بخطبته هو، و خطب اعوانه جس نبض الآخرين الذين دعاهم من الامصار، و قد سأل الخطباء و ربما وفود الامصار:


(أو كلكم قد اجمع رأيه علي ما ذكرنا؟ فقالوا: كلنا قد اجمع رأيه علي ما ذكرنا) [9] .

و قد طلب من الاحنف بن قيس ان يبدي (رأيه) في هذه المسألة، و كان يتوقع استجابة تامة منه و قبولا ببيعة يزيد و قد أجابه الاحنف بقوله:

(... اصلح الله أميرالمؤمنين. ان الناس قد امسوا في منكر زمان قد سلف، و معروف زمان مؤتنف، و يزيد، بن أميرالمؤمنين نعم الخلف، و قد حلبت الدهر اشطره يا أميرالمؤمنين فاعرف من تسند اليه الامر من بعدك، ثم اعص امر من يأمرك، لا يغررك من يشير عليك، و لا ينظر لك، و انت انظر للجماعة، و اعلم باستقامة الطاعة مع ان أهل الحجاز و اهل العراق لا يرضون بهذا، و لا يبايعون ليزيد ما كان الحسن حيا) [10] .

فقد ادرك الاحنف ان الخطب كانت مدبرة و معدة من قبل، و ان الاجتماع لم يكن سوي مسرحية، و ان معاوية اراد اظهار بيعته ليزيد و كأنها استجابة لامر الامة و رغبتها، فاراد ان يلفت نظره الي مسؤوليته الشخصية عن الامر كله، و عدم اللجوء الي هذه المسرحيات المعدة من قبل.

و نفهم من كلام الاحنف ان هذا المشهد الاستعراضي تم قبل اغتيال الامام الحسن عليه السلام و قتله بالسم بايعاز و تشجيع من معاوية نفسه، و ربما لفت الاحنف نظره الي هذه الحقيقة، حقيقة عدم استجابة الامة لبيعة يزيد مادام الامام الحسن عليه السلام موجودا في الساحة، و ربما كان ذلك هو الذي جعله يسرع بالتخلص منه بعد ان لم تنجح محاولاته السابقة لقتله.

و قد اثار رد الاحنف غضب الضحاك بن قيس الذي القي ثانية خطبه نارية ضد أهل العراق و ضد الامام الحسن عليه السلام و آله و عبر عن اصرار أهل الشام علي المضي الي النهاية لاستخلاف يزيد بعد معاوية، و قد جاء في خطبته:

(ان أهل النفاق من أهل العراق، مروءتهم في انفسهم الشقاق، و الفتهم في دينهم الفراق، يرون الحق علي اهوائهعم، كأنما ينظرون باقفائهم، اختالوا جهلا و بطرا، لا يرقبون من الله راقبة، و لا يخافون وبال عاقبة، اتخذوا ابليس لهم ربا


و اتخذهم ابليس حزبا، فمن يقاربوه لا يسروه، و من يفارقوه لا يضروه، فادفع رأيهم يا أميرالمؤمنين في نحورهم، و كلامهم في صدووهم، ما للحسن و ذوي الحسن في سلطان الله الذي استخلف به معاوية في أرضه هيهات لا تورث الخلافة عن كلالة، و يحجب غير الذكر العصبة، فوطنوا انفسكم يا أهل العراق علي المناصحة لامامكم و كاتب نبيكم و صهره، يسلم لكم العاجل و تربحوا من الآجل) [11] .

كما اثار رد الاحنف غضب رجل من أهل الشام فقال:

(ما ندري ما تقول هذه المعدية العراقية، و انما عندنا سمع و طاعة و ضرب و ازدلاف) [12] .

و قد حاول الاحنف اثارة النزعات الخيرة عند معاوية و حثه علي عدم نكث عهوده للامام الحسن عليه السلام و هدده ان فعل ذلك بشن الحرب عليه ثانية، و قد جاء في خطبته:

(انا قد فررنا عنك قريشا فوجدناك اكرمها زندا، و اشدها عقدا، و اوفاها عهدا، و قد علمت انك لم تفتح العراق عنوة، و لم تظهر عليها قعصا، و لكنك اعطيت الحسن بن علي من عهود الله ما قد علمت، ليكون له الامر من بعدك، فان تف فانت أهل للوفاء، و ان تغدر تعلم، والله ان وراء الحسن خيولا جيادا، و اذرعا شدادا، و سيوفا حدادا، ان تدن له شبرا عن غدر، تجد وراءه باعا من نصر، و انك تعلم ان أهل العراق ما احبوك منذ ابغضوك، و لا ابغضوا عليا و حسنا منذ احبوهما، و ما نزل عليهم في ذلك غير من السماء، و ان السيوف التي شهروها عليك مع علي يوم صفين لعلي عواتقهم، و القلوب التي ابغضوك بها لبين جوانحهم، و ايم الله ان الحسن لأحب الي أهل العراق من علي). [13] .

و مع ان معاوية لم يجبه، الا ان احد الخطباء المكلفين بالمشاركة لعرض مسرحية الاستخلاف و هو عبدالرحمن بن عثمان الثقفي، تصدي للأحنف بخطبة غاضبة، شجع فيها معاوية علي المضي بخطته الي النهاية، قال الثقفي في خطبته:


(... ان رأي الناس مختلف، و كثير منهم منحرف، لا يدعون احدا الي الرشاد، و لا يجيبون داعيا الي سداد مجانبون لرأي الخلفاء، مخالفون لهم في السنة و القضاء، و قد وقفت ليزيد في احسن القضية، و ارضاها لحمل الرعية، فاذا خار الله لك فاعزم، ثم اقطع قالة الكلام، فان يزيد أعظمنا حلما و علما، و أوسعنا كنفا، و خيرنا سلفا، قد احكمته التجارب، و قصدت به سبل المذاهب، فلا يصرفنك عن بيعته صارف، و لا يقفن بك دونها واقف ممن هو شاسع عاص، ينوص للفتنة كل مناص لسانه ملتو، و في صدره داء دوي، ان قال فشر قائل، و ان سكت فدود غائل، قد عرفت من هم أولئك و ما هم عليه لك من الجانبة للتوفيق، و الكلف للتفريق، فاجعل ببيعته عنا الغمة، و اجمع به شمل الأمة، فلا تحد عنه اذا هديت له، و لا تنش عنه اذا وقفت له، فان ذلك الرأي لنا و لك. و الحق علينا و عليك...) [14] .

و قد شجع ذلك معاوية علي القاء خطبة نارية، يغلب عليها الاسلوب الوعظي، هدد فيها كل مناوئيه و معارضيه بالويل و الثبور ان لم يستجيبوا لكل مخططاته و مساعيه لاحتكار السلطة له و لخلفه الي الابد، و قد جاء في خطبته:

(ان لابليس من الناس اخوانا و خلانا بهم يستعد و اياهم يستعين و علي السنتهم ينطق، ان رجوا طمعا أو صفوا، و ان استغني عنهم ارجفوا، ثم يلحقون الفتن بالفجور و يشققون لها حطب النفاق، عيابون مرتابون، ان ولوا عروة امر حنقوا، و ان دعوا الي غي اسرفوا، و ليسوا اولئك بمنتهين و لا بمقلعين و لا متعظين، حتي تصيبهم صواعق خزي وبيل، و تحل بهم قوارع امر جليل، ثجتث اصولهم كاجتثاث اصول الفقع، فاولي لاولئك ثم اولي، فانا قد قدمنا و أنذرنا ان اغني التقدم شيئا أو نفع النذر) [15] .

و بعد خطبته الحماسية التي لابد انه كان يبدو من خلالها متأثرا و مستاء من المعارضة التي لمسها لاستخلاف يزيد قام يزيد بن المقنع العذري فقال:

(هذا أميرالمؤمنين، و اشار الي معاوية فان هلك، فهذا و اشار الي يزيد، و من ابي، فهذا، و اشار الي سيفه، فقال معاوية: اجلس فانت سيد الخطباء) [16] .


و اذ علم الاحنف ان معاوية كان مصرا علي عزمه باستخلاف يزيد فانه قال كلمة ختامية حذر فيها معاوية من المضي بهذه الخطوة الي النهاية و قال:

(انت اعلمنا بليله و نهاره، و بسره و علانيته، فان كنت تعلم انه خير لك فوله و استخلفه، و ان كنت تعلم انه شر لك، فلا تزوده الدنيا و انت صائر الي الاخرة، فانه ليس لك من الاخرة الا ما طاب، و اعلم انه لا حجة لك عند الله ان قدمت يزيد علي الحسن و الحسين و انت تعلم من هما و الي ما هما، و انما علينا ان نقول (سمعنا و أطعنا غفرانك ربنا و اليك المصير). [17] .

و قد انتشرت ردود الاحنف علي معاوية و خطبائه بين الناس..

(فتفرق الناس يحكون قول الاحنف) [18] .

و و بعد هذا الاجتماع التمهيدي الذي جس به معاوية النبض من اجل اخذ البيعة ليزيد، عمل بطرقه الخاصة السابقة لاستمالة الناس بمختلف الاساليب و لابد ان الرشوة و التهديد و القتل كان في مقدمة هذه الاساليب.

(و كان معاوية يعطي المقارب و يدراي المباعد و يلطف به حتي استوثق له اكثر الناس و بايعه، فملا بايعه أهل العراق و الشام سار الي الحجاز) [19] .

و هكذا تم احد اشأم فصول المهزلة التي تم فيها تنصيب يزيد [خليفة] مطلقا متحكما برقاب المسلمين و اموالهم و اعراضهم، باصرار من معاوية، مع علمه الاكيد بيزيد علي حد تعبير الاحنف، فلا ندري كيف اجتهد و رأي انه الاصلح، و كيف اقتنع ابن العربي و اشباهه بهذا الاجتهاد الذي اريد له تكريس مصالح الاسرة الاموية و استمرار سيطرتها علي المسلمين الي الابد.


پاورقي

[1] ابن‏الاثير 352 / 3، والعقد الفريد 112 - 111 / 5.

[2] الامامة و السياسة 166 - 165 و راجع ابن‏الاثير 352 / 3.

[3] المصدر السابق 166 و قد روي ابن‏الاثير 352 / 3 ان معاوية في خطبة له تکلم (فعظم امر الاسلام و حرمة الخلافة و حقها و ما امر الله به من طاعة ولاة الامر، ثم ذکر يزيد و فضله و علمه بالسياسة و عرض ببيعته).

[4] الامامة و السياسة 166 و الکامل 352 / 3.

[5] المصدر السابق 167.

[6] المصدر السابق.

[7] المصدر السابق 168.

[8] المصدر السابق 168.

[9] المصدر السابق 169.

[10] المصدر السابق 169.

[11] الامامة و السياسة 169.

[12] ابن‏الاثير 352 / 3 و مروج الذهب 34 / 3.

[13] الامامة و السياة 170.

[14] المصدر السابق 171 / 170.

[15] المصدر السابق 171 / 170.

[16] ابن‏الاثير 352 / 3 و قيل انه قال: (يا أميرالمؤمنين: انا لا نطيق السنة مضر و خطبها انت أميرالمؤمنين، فان هلکت فيزيد بعدک، فمن أبي فهذا وسل سيفه، فقال معاوية: انت اخطب القوم و اکرمهم) الامامة و السياسة 171.

[17] الامامة و السياسة 171 و قد اوردها ابن‏الاثير بصيغة اخري قريبة و اضاف اليها: (نخافکم ان صدقنا و نخاف الله ان کذبنا) ابن‏الاثير 352 / 3.

[18] ابن‏الاثير 353، 352 / 3.

[19] ابن‏الاثير 353 / 3.