بازگشت

المغيرة بن شعبة أول من زرع فكرة البيعة في رأس معاوية


و قد ذكر بعض المؤرخين ان المغيرة بن شعبة كان هو أول من وضع فكرة مبايعة يزيد خليفة في رأس معاوية، و ذكروا ان سبب ذلك يعود الي ان المغيرة قد علم برغبة معاوية بتنحيته عن ولاية العراق و استبداله بوال آخر، فعزم علي مساومته، و ذلك بأن يبقيه واليا، مقابل ان يقوم هو بالدعوة الي خلافة يزيد بعد معاوية.

لقد ادرك المغيرة رابع الدهاة الاربعة المشهورين بالمكر و الخديعة و الحيلة، و هم حسبما ذكر المؤرخون و كتاب الادب: معاوية و عمرو و المغيرة و زياد، ان معاوية ما كان يعدل بولده احدا، و انه كان يفكر بطريقة يستميل بها الناس الي يزيد و يرغبهم به، و انه ربما كان بسبيله الي ان يضع ولاة علي الامصار يقومون بهذه المهمة، و انه ربما رأي انه أي المغيرة كان عاجزا عن القيام بهذه المهمة، أو غير راغب بالقيام بها، فاراد استبداله، لذلك فانه بادر الي عرض خدماته امام سيده معلنا استعداده التام لادائها علي احسن وجه، رغم ان معاوية ربما كان لم يعلن رغبته صراحة حتي ذلك الحين، الامر الذي لابد انه سره غاية السرور، لأن المغيرة كان ممن لا يستهان بقدراتهم و مهارتهم.

و اذا ما علمنا ان المغيرة توفي سنة خمسين و انه ولي الكوفة سنة احدي و اربعين، يكون من المرجح ان معاوية ربما اراد استبداله في النصف الثاني من العقد الذي حكم فيه، أي قبل خمسة عشر عاما من وفاة معاوية نفسه أي قبل وفاة الامام الحسن عليه السلام بأربع سنين و ربما اقل من ذلك.


و لعل وجود الامام الحسن عليه السلام هو الذي منعه من اظهار نيته، فلم يظهرها الا بعد اغتياله عليه السلام، و هذا مما يؤيد رأينا بان المغيرة عرض عليه الامر ربما بعيد السنة الخامسة و الاربعين و قبيل وفاة الامام الحسن عليه السلام، و مما يؤيد هذا الرأي ان الوفد الذي ارسله المغيرة الي معاوية لتأييد البيعة تلقي تعليمات حازمة من معاوية مفادها:

(ألا تعجلوا باظهار هذا و كونوا علي رأيكم).

فما الذي جعل معاوية لا يعلن عن بيعة يزيد بشكل رسمي و معلن لولا وجود الامام الحسن عليه السلام علي الساحة؟

و ما الذي جعله يقدم علي الغدر به ودس السم اليه، لولا عزمه علي نقل الخلافة نهائيا الي ولده و عقبه من بعده...؟

ان تصرفات معاوية لم تكن كلها من وحي الساعة، و كان معظمها مبيتا، و لم تكن تنطلق عن اجتهادات رجل عالم بدين الله حقا و انما عن شيطان لم ير امامه الا هواه و مصالحه.

و الا فهل يستطيع احد ان يفسر السبب الذي يدعو عالما مجتهدا من علماء امة محمد صلي الله عليه و آله و من احد كتاب الوحي علي حد زعمه لقتل امام الامة الحقيقي عليه السلام، الذي حقن الله به دماء الامة و جنبها القتال لو لم يرد ازاحته عن طريقه الي الابد، بعد ان كان ملزما بموجب وثيقة الصلح ان يكون هو الخليفة بعد موت معاوية و فسح المجال امام يزيد لاشغال هذا المنصب بعد تجاهل البند الآخر في الوثيقة الذي ربما رآه اقل اهمية، و هو ان يكون الحسين عليه السلام خليفة اذا ما حل حادث الموت بالامام الحسن عليه السلام، و لعل صغر سن يزيد و اشتهاره بالعبث منذ وقت مبكر منعاه ايضا من اعلان عزمه علي استخلافه، و رأي ان يتريث حتي تتاح له فرصة تجميله و تحسين صورته امام الامة.

و لنذكر القصة كما رواها ابن الاثير في تاريخه، ففيها تفصيلات اكثر من غيرها:

(.. و في هذه السنة (سنة ست و خمسين، بايع الناس يزيد بن معاوية بولاية عهد ابيه، و كان ابتداء ذلك و أوله من المغيرة بن شعبة، فان معاوية اراد ان يعزله عن الكوفة و يستعمل عوضه سعيد بن العاص، فبلغه ذلك فقال: الرأي ان اشخص الي معاوية استعفيه ليظهر للناس كراهتي للولاية. فسار الي معاوية و قال لاصحابه حين وصل اليه: ان لم اكسبكم الان ولاية و امارة، لا أفعل ذلك ابدا. و مضي حتي دخل


علي يزيد و قال له: انه قد ذهبت اعيان اصحاب النبي صلي الله عليه و آله و سلم و آله، و كبراء قريش، و ذووا اسنانهم، و انما بقي ابناؤهم، و انت من افضلهم، و احسنهم رأيا، و اعلمهم بالسنة و السياسة، و لا ادري ما يمنع أميرالمؤمنين ان يعقد لك البيعة؟ قال: أو تري ذلك يتم؟ قال: نعم.

فدخل يزيد علي ابيه و أخبره بما قال المغيرة. فأحضر المغيرة و قال له: ما يقول يزيد؟

فقال: يا أميرالمؤمنين قد رأيت ما كان من سفك الدماء و الاختلاف بعد عثمان. و في يزيد منك خلف، فاعقد له، فان حدث بك حادث كان كهفا للناس، و خلفا منك، و لا تسفك دماء، و لا تكون فتنة. قال: و من لي بهذا؟

قال: انا اكفيك أهل الكوفة، و يكفيك زياد أهل البصرة، و ليس بعد هذين المصرين احد يخالفك. قال: فارجع الي عملك و تحدث مع من تثق اليه في ذلك و تري و نري. فودعه و رجع الي أصحابه فقالوا: مه. قال: لقد وضعت رجل معاوية في غرز بعيد الغاية علي امة محمد، و فتقت عليهم فتقا لا يرتق ابدا و تمثل:



بمثلي شاهدي النجوي و غالي

بي الاعداء و الخصم الغضابا



و سار المغيرة حتي قدم الكوفة و ذاكر من يثق اليه و من يعلم انه شيعة لبني امية امر يزيد، فأجابوا الي بيعته، فأوفد منهم عشرة و يقال اكثر من عشرة. و اعطاهم ثلاثين الف درهم و جعل عليهم ابنه موسي بن المغيرة و قدموا علي معاوية فزينوا له بيعة يزيد و دعوه الي عقدها. فقال معاوية: لا تعجلوا باظهار هذا و كونوا علي رأيكم.

و قيل: فلما دخلوا علي معاوية قاموا خطباء فقالوا: انما اشخصهم اليه النظر لأمة محمد صلي الله عليه و آله و سلم و قالوا: يا أميرالمؤمنين كبرت سنك، و خفنا انتشار الحبل فانصب لنا علما، وحد لنا حدا ننتهي اليه. فقال: اشيروا علي، فقالوا: نشير بيزيد بن أميرالمؤمنين.

فقال: أوقد رضيتموه؟ قالوا: نعم. قال: و ذلك رأيكم؟ قالوا: نعم و رأي من وراءنا. فقال معاوية لعروة سرا عنهم: بكم اشتري ابوك من هؤلاء دينهم؟

قال: باربعمائة دينار. قال: لقد وجد دينهم عندهم رخيصا، و قال لهم: ننظر ما قدمتم له، و يقضي الله ما اراد، والأناة خير من العجلة. فرجعوا، و قوي عزم معاوية علي البيعة ليزيد...).


و قد روي اليعقوبي في تاريخه ان معاوية ولي عبدالله بن عامر علي الكوفة بدل المغيرة.

(فلما بلغ أهل الكوفة الخبر، خرج كثير من الناس الي عبدالله بن عامر فجعل المغيرة لا يسأل عن احد الا قيل له قد خرج الي عبدالله بن عامر، حتي سأل عن كاتبه، فقيل له قد لحق بعبد الله، فقال: يا غلام شد رحلي و قدم بغلي، فخرج حتي اتي دمشق، فدخل علي معاوية، فلما رآه قال: ما أقدمك يا مغيرة، تركت العمل، و اخللت بالمصر و اهل العراق و هم اسرع شي ء الي الفتن؟ قال: يا أميرالمؤمنين كبرت سني، و ضعفت قوتي، و عجزت عن العمل، و قد بلغت من الدنيا حاجتي، و الله ما آسي علي شي ء منها الا علي شي ء واحد، قدرت به قضاء حقك، ووددت انه لا يفوتني اجلي و ان الله احسن عليه معونتي قال: و ما هو؟ قال كنت دعوت اشراف الكوفة الي البيعة ليزيد بن أميرالمؤمنين بولاية العهد بعد أميرالمؤمنين، فاجابوا الي ذلك و وجدتهم سراعا نحوه. فكرهت ان احدث امرا دون رأي أميرالمؤمنين فقدمت لا شافهه بذلك و أستعفيه من العمل. فقال: سبحان الله يا ابا عبدالرحمن انما يزيد ابن اخيك و مثلك اذا شرع في امر لم يدعه حتي يحكمه فنشدتك الله الا رجعت فتممت هذا، فخرج من عنده فلقي كاتبه فقال: ارجع بنا الي الكوفة فوالله لقد وضعت رجل معاوية في غرز لا يخرجها منه الا سفك الدماء.

لقد عرف عبد فرعون هوي فرعون فزينه له، و جعل [اقتراحه] لا يبدو و كأنه رغبة حقيقية لمعاوية، بل كمطلب جماهيري ملح نادت به الامة بأجمعها، و هذه هي احدي مهمات اعوان فرعون الرئيسية في كل زمان و مكان، قد لا يمارسون الظلم و القتل بأيديهم مباشرة، لكنهم كانوا دائما سببا مباشرا خلف كل جرائم فرعون و انتهاكات فرعون و ويلات فرعون.

لقد علمنا فيما مضي كيف ان المغيرة كان احد اعمدة الحكم الاموي، و انه ساهم بتثبيت هذه الدولة الغاشمة و مهد لقيامها منذ اعتزاله المزعوم في صفين ثم بتزعم حملة الدعاية المناهضة لاميرالمؤمنين ثم الحسن عليه السلام.

(و كان معاوية يدس الي عسكر الحس من يتحدث ان قيس بن سعد الحسن قد صالح معاوية و صار معه، و يوجه الي عسكر قيس من يتحدث ان الحسن قد صالح معاوية و أجابه، و وجه معاوية الي الحسن المغيرة بن شعبة و عبدالله بن عامر بن كريز و عبدالرحمن بن ام الحكم و اتوه و هو بالمدائن نازل في مضاربه، ثم خرجوا من


عنده، و هم يقولون و يسمعون الناس: ان الله قد حقن بابن رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم الدماء، و سكن به الفتنة و اجاب الي الصلح، فاضطرب العسكر و لم يشكك الناس فيه فوثبوا بالحسن فانتهبوا مضاربه و ما فيها). تاريخ اليعقوبي 215 - 214 / 2.

و علمنا كيف مهد لاستدراج حجر بن عدي و اصحابه ليقتلوا بيد معاوية بعد ان وشي بهم زياد بعد ذلك و حرض ببعض اعوانه للشهادة ضدهم، و هم اول من قتل صبرا في الاسلام.

لقد وقفت مطامع المغيرة و تطلعاته غير المشروعة نصب عينيه دائما، و مع انه لم يبع دينه بسعر [بخس] كما فعل اصحابه الذين ارسلهم الي معاوية ليزينوا له بيعة يزيد، و باعه بأغلي الاسعار، الا ان اغلي سعر كان يفكر فيه هو ولاية الكوفة و بقائه ضمن الحلقة المقربة من معاوية. و كان يحسب ان مصلحته مرهونة بمصالح سيده، فلم يهن عليه تغيير الوضع الذي اوجده لانه سيفقد عند ذاك كل شي ء.

ان المغيرة يمثل الطائفة الثانية في عملية التجزئة الفرعونية لمجتمع الظلم، فهو نمط من الظالمين الذين (يشكلون حاشية و متملقين. اولئك الذين قد لا يمارسون ظلما بأيديهم بالفعل. لكنهم دائما و أبدا علي مستوي نزوات فرعون و شهوات فرعون و رغبات فرعون، يسبقونه بالقول، قال الله سبحانه و تعالي: (و قال الملأ من قوم فرعون أتذر موسي و قومه ليفسدوا في الأرض و يذرك و ءالهتك قال سنقتل أبناءهم و نستحي ء نساءهم و انا فوقهم قهرون) [1] ، شكلوا دور الاثارة لفرعون. هؤلاء كانوا يعرفون انهم بهذا الكلام يضربون علي الوتر الحساس في قلب فرعون، و ان فرعون كان بحاجة الي كلام من هذا القبيل، فتسابقوا الي هذا الكلام، لكي يجعلوا فرعون يعبر عما في نفسه و يتخد الموقف المنسجم مع مشاعره و عواطفه و فرعونيته) [2] .

و الا فما الذي رآه المغيرة في يزيد فحاول تزيين استخلافه لمعاوية، اللهم الا انه رأي يزيد جميلا في عين معاوية نفسه، و كانت حجة المغيرة انه قد سئم من سفك الدماء و الاختلاف و ان يزيد اذا ما عقدت له البيعة سيكون كهفا للناس و سيكون عاملا علي منع الفتن و سفك الدماء في المستقبل.


هل كان المغيرة مقتنعا بصحة و صواب مسعاه و هو يري انه قد وضع رجل معاوية في غرز بعيد الغاية علي امة محمد صلي الله عليه و آله و سلم، و فتق عليهم فتقا لا يرتق ابدا؟ و لا يخرجه منه الا سفك الدماء؟

هل كان يحب معاوية الي الدرجة التي يأسي بها علي انقضاء عمره دون قضاء حاجة معاوية، و انه لم يكن يتمني الا ان يطيل الله في عمره ليقضي هذه الحاجة؟

و هل غابت حيلته و سبب سعيه ذاك علي معاوية، و هما رفيقان يفهمان بعضهما؟ و هل كان هو الذي وضع رجل معاوية في ذلك الغرز البعيد، ام ان معاوية قد وضع رجله في ذلك الغرز منذ امد بعيد، و وضع فيه ارجل جميع حاشيته و مستشاريه و خدمه؟ و منهم المغيرة؟ ان المرء لا ينبغي له ان يمر علي هذه الامور الدقيقة و ينظر اليها و كأن شيئا لم يحدث. و ينبغي عليه معرفة كل الدوافع الكامنة وراءها..

لقد عرفنا اذا الدوافع وراء بيعة يزيد، و كان اولها رغبة الحاكم الاموي بالاحتفاظ بالسلطة لنفسه و اولاده و ذريته فيما بعد، و رغبة الحاشية و الأتباع و المقربين في بقائها في البيت الاموي الذي حقق لهم اكبر قدر من السلطة و السيادة و الامتيازات، اذ ان من شأن خروجها عنهم سقوط هذه الطبقة الطفيلية كلها و ذهاب امتيازاتها الي الابد.

و قد نصب هؤلاء انفسهم ممثلين للامة و جعلوا اقوالهم تبدو و كأنها تعبر عن ارادتها الحقيقية، و في عملية الخداع الغادرة تلك اوهموا الامة انهم كانوا يتصرفون بوحي الحفاظ علي مصالحها و وحدتها و من اجل حقن دماء ابنائها.

ان عملية تنصيب يزيد بدت و كأنها تتم في جمهورية روما القديمة أو في احدي ممالك الغرب. العتيقة و بدت الامة كآخر شي ء يفكر فيه الحاكمون و يحسبون حسابه، اما الدين، اما الاسلام الذي تدعي تلك المملكة القيام علي اساسه، فلا وجود حقيقيا له الا علي نطاق بعض الاداءات الشعائرية و الطقوسية المجردة التي يثبت بها الحاكم انه ينتمي الي الاسلام، و يحكم قبضته علي الرقاب بحجة المحافظة عليها، ان الطريقة التي تم بها تحويل الدولة الاسلامية الي مملكة أو اقطاعية خاصة تنفرد بادارتها عائلة معينة لم تنتسب للاسلام الا بالاسم، تعد اكبر عملية سطو تمت عبر التاريخ، و سرقت فيها مكتسبات البشرية كلها لا في الزمن الذي تمت فيه عملية السطو و انما في جميع


الازمان و الي يومنا هذا، و انها لمأساة كبيرة، ان تستسلم الامة بتلك الرخاوة و ذلك الضعف لمن كبلوها الي الابد و حجروا عليها و صادروا حرياتها و مكاسبها، و تسخر اكبر مجموعة من محترفي الدين و الحديث و السيرة و مدعي صحبة الرسول صلي الله عليه و آله و سلم و القصاصين و الشعراء و غيرهم في هذه العملية التي أريد بها غسيل ادمغة كل ابناء الأمة لتقبل هذه الحالة الشاذة لتكون هي الاصل و القاعدة، و أن لا يكلف من جاءوا بعدهم انفسهم عناء تمحيص مواقفهم و اقوالهم و الظروف التي تمت فيها و يأخذوها علي علاتها، و الاسباب واضحة في حال اولئك الذين يتصرفون في ظل انظمة مشابهة للنظام الاموي الفرعوني، اما اولئك الذين لا تقيدهم قيود دول طاغوتية متجبرة، فلماذا يخدعون ببريق من باعوا انفسهم للشيطان و خضعوا له و تقبلوا الانحراف كأمر واقع لابد منه، و لماذا لا يعيدون النظر بتلك المأساة التي وقعت بعد أقل من نصف قرن فقط من وفاة الرسول صلي الله عليه و آله و سلم ليست رؤية الاسلام لمثل هذه الامور نظرة غائمة أو ضبابية حتي نروح نحن نعالج اخطر مسائل الاسلام بهذه الروح المنهزمة اللامبالية، بل انها رؤية واضحة تستهدف تحميل كل فرد من المجتمع الاسلامي مسؤولية القيادة و التقويم و النقد و عدم ترك الامور بيد فئة خاصة تستأثر بكل شي ء و تستولي علي كل شي ء بمختلف الذرائع و الحجج طالما ان القوه بيدها. و لا ندري بأية عقلية يفكر عالم كابن العربي قديما و محمد قطب و امثالهما عند تناول هذه القضية، قضية الحكم في الاسلام و استعراضها كأنها من قضايا الترف الفكري البحت الذي لا علاقة له بمصير الامة و حياتها و مستقبلها.

فقد ذكر ابوبكر ابن العربي في العواصم من القواصم:

(ان معاوية ترك الافضل في ان يجعل الخلافة شوري، و عدل الي ولاية يزيد، و عقد له البيعة، فبايعه الناس، و انعقدت بيعته لأنها تنعقد بواحد و قيل باثنين و يزيد أهل لذلك، و ليس للخلافة سن مخصوص، رهو رجل ليس مسلوب العدالة، و ان كان هناك من هو احق بالامامة من يزيد، فان امامة المفضول جائزة علي الاختلاف فيها). [3] .

أهو عبث؟ لماذا ترك معاوية الافضل في ان يجعل الخلافة شوري علي حد تعبير ابن العربي؟


و لماذا ترك الافضل فعلا باعادتها الي اهلها الحقيقيين آل الرسول صلي الله عليه و آله و سلم و نكث بوعوده و لم ير امامه الا ابنه يزيد؟ فعدل الي ولايته و عقد له البيعة.. فبايعه الناس؟

هل تم الامر هكذا و بهذه البساطة، و هل لم يسخر معاوية كل طاقات الدولة و امكاناتها و اخذ الناس بكل الطرق المتاحة للموافقة عليها.

و ما هذا الحديث عن انعقاد البيعة بواحد، و قيل باثنين، لو عقدت لغير يزيد بواحد أو اثنين أو حتي بألفين أو مليونين هل كان معاوية يقبل ذلك، و كيف علم ابن العري ان يزيدا أهل لذلك و انه ليس مسلوب العدالة؟

و كيف يؤكد جواز امامة المفضول مع أنه يقر بانها مسألة فيها اختلاف.

لعل ابن العربي لا يحسب انه سيقف موقفا عادلا يوم الجزاء و يحاسب علي اضاليله و افتراءاته؟

أ هو عبث كعبث يزيد نفسه؟

أ هذه حصيلة المسلمين من دينهم و من رسولهم الكريم صلي الله عليه و آله و سلم، ان يخلف عليهم امثال يزيد و يرضي لهم الحياة في ظل الانحراف و الجهل و العبث و الاهمال؟

هل هذا هو الاسلام...؟

لابد من وقفة جدية لمناقشة الامر مجددا و الا بقينا ضحية دائمية لامثال يزيد و اشباهه.

لماذا يكلف أولئك الذين يدعون للصحوة الاسلامية انفسهم عناء محاربة اناس لا يختلفون مظهريا عن يزيد، بل قد يفضلونه، و يقبلون يزيدا؟ الان عهده قد مر و انقضي؟ و ان علينا ان لا ننظر الا الساعة التي نحن فيها؟.

ان النماذج المعادة المكرورة من يزيد قد ظهرت عشرات المرات علي مسرح السياسة و الحكم، لان الامة تقبلت النموذج الأول و لم ترفضه بل خضعت له و استسلمت بسهولة، فكيف يمكن ايقاف هذه المهزلة ان كنا ننحاز دون وعي و تمحيص الي صف من حاربوا الاسلام عمليا و ان ادعوا وصايتهم و حرصهم عليه؟ ان استعراض تاريخنا ينبغي ان يتم بطريقة حذرة متيقظة تضع امامها كل قواعد التصور الاسلامي السليم، و ان ننظر بعين الرسول صلي الله عليه و آله و سلم لا بعين عدوه.

و قد ذهب الخوف من ذلك ببعضهم الي منع الخوض نهائيا بوقائع التاريخ


الاسلامي زاعما ان ذلك يهيج الناس علي بعض الصحابة و الطعن فيهم، فهل كان يزيد أو ابن زياد أو ابن سعد و اشباههم من الصحابة حتي يتخوف عليهم هؤلاء؟

(قال الغزالي و غيره: و يحرم علي الواعظ و غيره رواية مقتل الحسين و حكاياته و ما جري بين الصحابة من التشاجر و التخاصم، فانه يهيج علي بعض الصحابة أو الطعن فيهم و هم اعلام الدين، تلقي الائمة الدين عنهم رواية، و نحن تلقيناه من الائمة دراية فالطاعن فيهم مطعون، طاعن في نفسه و دينه. و قال ابن الصلاح و النووي الصحابة كلهم عدول.

و مما يوجب الامساك عما شجر أي وقع بينهم من الاختلاف و الاضطراب، صفحا عن اخبار المؤرخين.. فقد قال صلي الله عليه و آله و سلم: «اذا ذكر اصحابي فأمسكوا، و الواجب ان نلتمس لهم احسن التأويلات و اصوب المخارج اذ هم أهل لذلك» [4] .

و لا ندري عندما سوغوا جعل معاوية من الصحابة، كيف اباحوا لانفسهم جعل يزيد كذلك.. هل يجب طوي السجل هكذا؟ و اذا ما اردنا ان نبدأ من جديد، فعلي أي اساس نبدأ؟ و ما هو مقياس نظرتنا الي الامور؟.

هل لجأ معاوية الي الباطل مرة واحدة حتي نبرر له ذلك و نقول انه اجتهد فأخطأ.. أم ان اعماله بمجملها كانت الخوض في الباطل و السير في دروبه دائما؟ و لماذا سيطرة الاسطورة الاموية علي عقول فئات كبيرة من المسلمين الي اليوم؟

و اذا ما تساءل احد: كيف تمت مهزلة البيعة ليزيد، مع ما كان عليه من سلوك فاضح مكشوف لملايين المسلمين؟ نعود الي جوابنا: ان الامة قد غلبت علي امرها و استدرجت لتقبل اوضاعها المأساوية بعمليات منظمة دؤوبة من قبل معاوية الداهية الماكر و اجهزته المتمرسة و وسائل اعلامه العديدة، و قد اجبر الامة علي قبوله، بعد ان كان شكله المحسن نسبيا لا يمكن ان يدخل ضمن لعبة الحكم و زعامة المسلمين علي الاطلاق مع ما كان يتظاهر به من الميل للاسلام و المجاهرة بشعائره المعلنة كالصلاة و غيرها، فسلوكه الفاضح لم يخف علي احد من ابناء الامة.

و قد كانت حسابات معاوية الارضية و التجارية البحتة في الربح و الخسارة تحاول ان توحي للناس انه مادام قد فاز بالملك فعلا في النهاية فان الحق معه، و ان


تلك كانت مشيئة الله نفسه، و لابد ان يكون الامر نفسه مع يزيد ايضا، مادام قد فاز و اصبح وجوده امرا واقعا... و هذا ما احتج به يزيد نفسه، مبررا قيامه بقتل الحسين عليه السلام و اصحابه عليه السلام في معركة الطف.

(فأما قوله: [و يقصد به الحسين عليه السلام] أبوه خير من أبي، فقد حاج أبي و اياه الي الله عزوجل، و علم الناس ايهما حكم له...).

فمادام الجو قد خلا لمعاوية في النهاية، فانه هو الذي كان علي الحق، و أن الله قد حكم له، و بنفس هذا المنطق يمكن ان يبرر شرعية وجوده بعد مقتل الحسين عليه السلام و صحابته و انصار رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم في المدينة، مادام هو المسيطر الوحيد علي الساحة.

و لعل القصص التي رويت في [فضائل] يزيد و التي استمعنا الي قسم منها، كانت تمهد لجلوسه عل العرش، اذ لم يكن الامر كذلك، لما كلف معاوية نفسه عناء ابراز هذه [الفضائل] التي بدا فيها يزيد امام ابيه مثالا للطاعة و الزهد و العفة و التواضع و العلم.

و هذه القصص مصدرها الوحيد معاوية و الطرف الآخر يزيد، و لابد للقاري ء المدقق ان يلاحظ التكلف الواضح فيها و الأمور التي تستهدفها هذه الاقاصيص المفتعلة.

و مع كل حنكة معاوية و دهائه و خياله الطويل العريض، فانه ربما لم يكن يتصور في يوم من الايام و قبيل ابداء المغيرة استعداده لا قناع أهل الكوفة بها، أن احدا يمكن ان يفكر بيزيد خليفة للمسلمين، فهو ربما قد نفض يديه منه الي الابد، و لم ير فيه ما يشجعه عن ان يكون خليفته، و ربما فكر بمتخلف اموي آخر يضعه بدلا عنه بعد ان يملي عليه شروطه و يوصيه بعائلته الا ان [الملأ] المقربين و الحاشية المتملقة التي لم يكن يهمهم سوي بقاء و ديمومة مراكزهم و امتيازاتهم و ضمان قربهم من سدة الحكم زينوا لمعاوية الامر و شجعوه علي السعي لاخذ البيعة ليزيد، و كأنه الامر الوحيد الذي كان ينبغي عليه القيامه به فورا فهم كانوا يشعرون ان كل شي ء يمكن ان يضيع منهم الي الابد بهلاك معاوية، و ان حياتهم رهينة بحياته.

و ربما لم يكن معاوية ليجرؤ علي القيام بهذه الخطوة لولا الحاح حاشيته و مستشاريه و ملئه، و عندها قام بتلك العمليات التجميلية التي كان قوامها تلك


الاقاصيص الملفقة عن كفاءة يزيد و امكاناته النادرة و حرصه علي النجاة من النار بتولي امر المسلمين و لو لثلاثة ايام... الخ.

و ربما كان معاوية يريد ان يستكشف الامر منذ البداية بشأن استخلاف يزيد و يجس نبض الامة، فان لقي قبولا منها، مضي في مهمته الي النهاية، و ان رأي اعراضا و امتناعا و مقاومة عدل عن ذلك بطريقته الخاصة التي تدفع عنه الاحراج و المشاكل. و لعله لم يقتنع بكلام المغيرة حتي ارسل اليه جماعة متملقة من اهالي الكوفة، و قد خاطبهم معاوية و كأنه يستلهم النصح منهم:

(أشيروا علي. فقالوا: نشير بيزيد بن أميرالمؤمنين. فقال: أو قد رضيتموه؟ قالوا: نعم. قال: و ذلك رأيكم؟ قالوا: نعم و رأي من وراءنا) [5] .

و اذا ما علمنا ان المغيرة قد دفع لكل واحد من هؤلاء اربعمائة درهم رأينا ان معاوية كان محقا و ربما للمرة الاولي في حياته عندما وجد (دينهم عندهم رخيص) [6] ، كما عبر عن ذلك، و لم يبيعوه بذلك الثمن الغالي الذي باعه به هو و اصحابه.

و لم يرد معاوية اكراه النفر الذين أبوا مبايعة يزيد مثل الحسين عليه السلام و عبدالله بن الزبير و عبدالله بن عباس و عبدالله بن عمر و ترك هذه المهمة لينجزها يزيد فيما بعد عندما يتولي الامور بعد وفاته.

لقد ترك مهمة السعي للبيعة في الكوفة للمغيرة و في البصرة لزياد، اما المدينة و مكة فقد كان اعوانه و ولاته الامويون فيها كفيلين بانجاز هذه المهمة، و حاول ارسال ابنه لجهاد الروم في جيش اردف به الجيش الاول بعد ان تخلف في الطريق، و كانت تلك اكبر نكسة يمكن ان تلحق بهذه المهمة التي يسعي لها معاوية اذا ما رفض يزيد الذهاب الي القسطنطينية.

فقد (اغزي معاوية يزيد ابنه الصائفة و معه سفيان بن عوف العامري، فسبقه سفيان بالدخول الي بلاد الروم، فنال المسلمين في بلاد الروم حمي و جدري، و كانت ام كلثوم بنت عبدالله بن عامر تحت يزيد بن معاوية، و كان لها محبا، فلما بلغه ما نال الناس من الحمي و الجدري قال:




ما ان ابالي بما لاقت جموعهم

بالغذقذونه من حمي و من موم



اذا اتكأت علي الانماط في غرف

بدير مران عندي ام كلثوم



فبلغ ذلك معاوية فقال: اقسم بالله لتدخلن ارض الروم فليصيبنك ما اصابهم، فاردف به ذلك الجيش، فغزا به حتي القسطنطينية) [7] و كان ذلك عام 50 للهجرة.



پاورقي

[1] الاعراف 127.

[2] المدرسة القرآنية 231.

[3] تطهير الجنان: ابن‏حجر ص 61.

[4] ابن‏حجر الصواعق المحرقة 223.

[5] ابن‏الاثير 350 / 3.

[6] نفس المصدر.

[7] اليعقوبي 229 / 2. و مروج الذهب 29.