بازگشت

فضائل يزيد بين الجاهلية و الاسلام


لم ينسب احد فضيلة من فضائل الاسلام أو أخلاقه الي يزيد، و حتي من انحازوا اليه، اذا ما تحدثوا عنه متجاهلين صفاته غير اللائقة و اسرافه علي نفسه و فجوره، يتحدثون و كأنهم يوجهون الخطاب الي مجتمع جاهلي لا يعرف الا تلك الفضائل التي نسبت للعرب في جاهليتهم كالفصاحة و الكرم و الشجاعة، الخ، و لم


يضيفوا اليها تلك التي ينبغي ان يتصفوا بها في اسلامهم كالايمان بالله و التمسك باوامره و تعاليمه و نبذ ما ينهي عنه، لانهم علموا انهم لو خاضوا بفضائل الاسلام الحقيقية لما وجدوا ما ينسبونه الي يزيد منها، و لعل النص التالي يمثل أخف و أهون ما قبل في حقه:

(و قد كان يزيد فيه خصال محمودة من الكرم و الحلم و الفصاحة و الشعر و الشجاعة و حسن الرأي في الملك، و كان ذا جمال حسن المعاشرة و كان فيه ايضا اقبال علي الشهوات و ترك بعض الصلوات في بعض الاوقات و اماتتها في غالب الاوقات) [1] .

فهل هذه مؤهلات جديرة بأكبر زعيم للمسلمين، بل خليفة رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم، و من يفترض فيه ان يكون مبلغ سره و حامل أمانته؟، ان أي شاطر من شطار بغداد و فتوتها في العهد العباسي المتأخر، ما كان يفخر بهذه الصفات لو نسبت اليه، فربما كان يأنف من ان ينسب الي الاقبال علي الشهوات و ترك الصلاة و اماتتها، و ربما عد ذلك مما يخل بفروسيته و شجاعته.

لقد رويت لنا الاشعار التي تداولها و قالها، و كلها تدل علي تهتك و مجون و كفر صريح بالاسلام و لم ترو لنا الا نتفا صغيرة من اقواله و تصريحاته و تصرفاته لكي نتمكن من تكوين صورة واضحة للفصاحة و الحلم المزعومين، و لعل مجمل سلوكه يشكل حماقة مستمرة لم يستطع معاوية نفسه بكل مؤهلاته ان يحد أو يخفف منها.

غير ان (خليفة المسلمين) لم يقلل من قيمته في نظر البعض، الاقبال علي الشهوات و ترك بعض الصلوات في بعض الاوقات و اماتتها في اغلب الاوقات؛ مادامت فيه خصال محمودة من الكرم و الحلم و الفصاحة و الشعر و الشجاعة و حسن الرأي في الملك، و مادام ذا جمال، و حسن معاشرة.. اليس هو المفوض المتصرف النائب عن الله في كل شي ء كما سبق ان عبر عن ذلك أبوه معاوية..؟ حينما خطب قائلا يوم جمعة:

(انما المال مالنا و الفي ء فيئنا فمن شئنا منعناه) [2] .


و يبدو ان بعضهم لم يروا فائدة من تبرير أي عمل مفضوح من اعمال يزيد، و رأوا انهم سيفشلون في هذه المهمة امام جماهير المسلمين المطلعين علي سلوكه و تصرفاته المفضوحة، و رأوا ان ينقذوا معاوية علي الاقل و يلحقوه بمن سبقه من الخلفاء كخليفة عادل، مؤهل لزعامة المسلمين و رووا بحقه روايات تعادل و ربما تفوق تلك التي رويت بحقهم. و قد رووا عن رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم انه قال:

(لا يزال امر امتي قائما بالقسط حتي يثلمه رجل من بني اميه يقال له يزيد) [3] .

و كأن معاوية لم يقم بهذا الثلم قبلا و جعلوا من هذا [الحديث] شهادة بحق معاوية. و وضعوا حديثا آخر يشابه مضمون هذا [4] ، و استدلوا بهما علي عدالة معاوية و كفاءته و جداراته بقيادة المسلمين.

(و في هذين الحديثين دليل أي دليل علي ان خلافة معاوية لم تكن كخلافة من جاء بعده من بني امية، فانه صلي الله عليه و آله و سلم اخبر ان اول من يثلم امر امته، و يبدل سنته يزيد، فافهم ان معاوية لم يثلم و لم يبدل و هو كذلك لما مر انه مجتهد) [5] .

و هنا لنا تساؤلات عديدة: هل كان معاوية يعلم بمضمون هذا [الحديث]؟ و هو من كتابه كما زعموا بل من كتاب الوحي؟ و هو من دعا له الرسول صلي الله عليه و آله و سلم بان يعلمه الله الكتاب و الحساب؟.

فاذا كان يعلم فكيف جاء بيزيد خليفة مع علمه بذلك؟

و رغم علمه بما في يزيد و بما يفعله يزيد؟ فمن يتحمل وزر ذلك؟

فلو لم يكن لمعاوية من مثلبة الا استخلافه يزيد لكفاه بذلك اثما يلحقه الي الابد.

كيف ينصبه خليفة رغم علمه بحديث رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم، و كيف اجتهد امام النص الصريح، و كيف برر ذلك، لنستمع اليه نفسه و هو يقول:


(و لولا هواي في يزيد ابصرت قصدي) [6] .

لم يتوقع معاوية ان تستجيب الامة لمسعاه في تنصيب يزيد خليفة من بعده لو لم تدغدغ امانيه بعض همسات المنتفعين و المنافقين امثال المغيرة بن شعبة الذي طمأنه الي انه قد مهد له الجو في العراق، و ذلك هو مركز المعارضة الاول الذي كان يخشاه معاوية. و كان عمله الدؤوب المنتظم طيلة حوالي عشر سنين و اخراجه لمسرحيات ضخمة مهد فيها الجو لقبول يزيد رغم علمه بوجود من هو اكثر كفاءة منه يدلل علي تعمده اسقاط الامة و حرفها الي الابد، و ان انتهاج خط الاسلام هو آخر ما كان يفكر فيه، فكيف ذهب الامر بكتاب المسلمين و علمائهم الي التهوين من شأن ذلك و اعتباره قضية خطأ في اجتهاد يثاب عليه معاوية في نهاية الامر.

هل ينبغي معالجة قضايا الاسلام المصيرية بهذه الرخاوة و هذا التساهل؟

لو ان من فعل ذلك غير معاوية، و كان من الموالين لعلي بن أبي طالب عليه السلام.. أكانت المسألة تعالج و ينظر اليها بهذا الشكل؟

و رحم الله احمد بن حنبل عندما سأله ابنه عن علي و معاوية، فقال:

(اعلم ان عليا كان كثير الاعداء، ففتش له اعداؤه عيبا فلم يجدوا، فجاءوا الي رجل قد حاربه و قاتله فأطروه كيادا منهم له) [7] .

فهل اضروا بذلك عليا امام الله ام نفعوا معاوية، و اذا ما جنب هؤلاء معاوية ما نسب اليه، فانهم بذلك قد جعلوا الموقف الاموي المناوي ء لموقف أميرالمؤمنين عليه السلام موقفا يحتمل و جهات نظر معينة، و انه موقف مجتهد، اجتهد و تأول و اخطأ و هو مأجور في جميع الحالات، لانه انطلق في اجتهاده من حرصه علي اقامة حدود الدين و وحدة الامة.

و حتي في مسألة استخلاف يزيد و ضعوا قولا علي لسان معاوية، و ربما قاله فعلا ليبرر تردده في امر ولده و عدم تأكده من انحرافه و فساده، و بدا معاوية بذلك القول و كأنه لم يستهدف الا مصلحة المسلمين، و بدا كأن دعاءه هو الذي سبب موت يزيد بعدما تمادي في شروره و آثامه، فقد روي ان معاوية:


(ليم علي عهده اليه، فخطب و قال: اللهم ان كنت انما عاهدت ليزيد لما رأيت من فعله، فبلغه ما املته و أعنه، و ان كنت انما حملني حب الوالد لولده، و انه ليس لما صنعت به اهلا، فاقبضه قبل ان يبلغ ذلك.. فكان كذلك) [8] .

و بذلك برئت ذمته و استجاب الله دعاءه، و كفي المؤمنين القتال فهو انما عهد ليزيد لما رأي من فعله، و هو فعل طيب حسن لابد، و ربما وقع منه الانحراف بعد وفاة أبية، فلماذا لم يعمد معاوية الي نشر فضائل يزيد و اعلام الامة بها، و اكتفي بحفظ ما علمه عنه في صدره؟ واي فضائل رآها معاوية ليزيد؟

من لنا بمن يروي لنا بعض هذه الفضائل التي رآها ابوه فيه فقال مقالته تلك؟

و مهما بالغ بعض المؤرخين في اخفاء عيوب يزيد، الا انهم لم يستطيعوا ان يتستروا علي ما ظهر منها و شاع.

«و قد روي ان يزيد كان قد اشتهر بالمعازف و شرب الخمر و الغناء و الصيد و اتخاذ الغلمان و القيان و الكلاب و النطاح بين الكباش و الدباب و القرود، و ما من يوم الا يصبح فيه مخمورا، و كان يشد القرد علي فرس مسرجة بحبال و يسوق به و يلبس القرد قلانس الذهب و كذلك الغلمان، و كان يسابق بين الخيل، و كان اذا مات القرد حزن عليه، و قيل ان سبب موته انه حمل قرده و جعل ينقزها فعضته، و ذكروا عنه غير ذلك) [9] .

و مما يبدو لنا من هذا النص أنه استمر في عبثه حتي نهاية حياته، و ان عبثه ذلك لم يكن مقصورا علي المرحلة الاولي من شبابه كما روي بعضهم، يؤيد ذلك نصوص اخري تثبت ان مركز الخلافة قد جعله يتمادي في ابتكار المزيد من وسائل العبث و اللهو.

و لزياد بن أبيه شهادة مهمة بحق يزيد، رغم انه (ابن اخيه)، فعندما اراد معاوية ان يبايع ليزيد كتب الي زياد يستشيره، فبعث زياد الي احد مستشاريه و قال له:

(.. ان أميرالمؤمنين كتب الي يزعم انه قد عزم علي بيعة يزيد، و هوي تخوف نفرة الناس، و يرجو مطابقتهم و يستشيرني، و علاقة امر الاسلام و ضمانه عظيم، و يزيد


صاحب رسلة و تهاون، مع ما قد أولع به من الصيد، فالق أميرالمؤمنين مؤديا عني، فأخبره عن فعلات يزيد، فقال له: رويدك بالأمر فأقمن ان يتم لك ما تريد، لا تفسد علي معاوية رأيه، و لا تمقت اليه ابنه، و القي انا يزيد سرا عن معاوية فأخبره عنك ان أميرالمؤمنين كتب اليك يستشيرك في بيعته، و انك تخوف خلاف الناس لهنات ينقمونها عليه، و انك تري له ما تري له ترك ما ينقم عليه، فيستحكم لأميرالمؤمنين الحجة علي الناس و يسهل لك ما تريد، فتكون قد نصحت ليزيد و ارضيت أميرالمؤمنين، فقدم علي يزيد فذاكره ذلك، و كتب زياد الي معاوية يأمره بالتؤدة، و الا يعجل، فقبل ذلك معاوية و كف يزيد عن كثير مما كان يصنع) [10] .

و قد اورد اليعقوبي في تاريخه نفس الخبر بطريقة اخري: ان معاوية كتب الي زياد يستحثه لدعوة أهل البصرة [لابن اخيه] علي حد تعبيره، و قد رد عليه زياد بقوله:

(يا أميرالمؤمنين.. ان كتابك ورد علي بكذا، فما يقول الناس اذا دعوناهم الي بيعة يزيد، و هو يلعب بالكلاب و القرود، و يلبس المصبغ و يدمن الشراب، و يمشي علي الدفوف، و بحضرتهم الحسين بن علي، و عبدالله بن عباس، و عبدالله بن الزبير، و لكن تأمره، و يتخلق بأخلاق هؤلاء حولا و حولين، فعسينا ان نموه الناس فلما صار الرسول الي معاوية وادي اليه الرسالة، قال: ويلي علي ابن عبيد؛ لقد بلغني ان الحادي حدا له ان الامير بعدي زياد، و الله لاردنه الي امه سمية و ابيه عبيد) [11] .

و يبدو لنا ان معاوية نفسه كان مترددا في امر الخطوة التي كان يعتزم ان يخطوها بالبيعة ليزيد و يتخوف نفرة الناس و رفضهم لذلك لما عرفوه عنه، و كان من شأن رفض زياد لفكرة استخلاف يزيد ان يكشف نواياه هو، و قد بلغ معاوية ان زيادا قد تطلع للخلافة ايضا و ان الحادي يحدو له، و ما نحسب ان احدا يري ان زيادا كان يخاف علي الاسلام،فهو اذكي من ان ينطلي عليه الواقع البعيد عن الاسلام الذي اوجده معاوية بمساعدته، و امثاله، و مادام يزيد قد ترشح لهذا المنصب، فزياد يري نفسه اكثر اهلية و قدرة للقيام به، و كانت خطة مستشار زياد كفيلة بتجنيبه مواجهة مباشرة مع معاوية، و هو ما لم يكن زياد قادرا عليه، و قد ادرك ان توجيه النصح وحده ليزيد لن يكفي لرعده ورده الي الطريق القويم، و انه سيكون حجة له هو في المستقبل اذا ما ثارت


الامة علي يزيد و رفضته، و ربما وجد حينذاك الفرصة للوثوب علي كرسيه، غير ان هذا لم يتم، و هلك زياد قبل يزيد.

كما ان معاوية بدوره كان يدرك ان زيادا اكثر أهلية من ولده يزيد، و انه قد يثب عليه و ينتزع الخلافة منه، و ربما كان معاوية يري امكانية قيام زياد بمهمة الخلافة، و ربما عمد الي قتله بالسم أو غيره كما فعل مع كثيرين من قبله.

و علي اية حال: كان معاوية يري في زياد عقبة في طريق يزيد، و ربما رأي ان مهمة زياد قد انتهت و ان كل شي ء قد استقر ااآن لصالحه، و عند موت زياد اسرع معاوية. و (اظهر عهدا مفتعلا فقرأه علي الناس فيه عقد الولاية ليزيد بعده، و انما اراد ان يسهل بذلك بيعة يزيد، فلم يزل يروض الناس لبيعته سبع سنين، و يشاور، و يعطي الأقارب و يداني الأباعد، حتي استوثق له من اكثر الناس) [12] .

و للحجاج الثقفي شهادة ظريفة بحق يزيد، عندما استفزه خالد ابنه، بكلام سمعه الحجاج فرد عليه:

(انا ابن الاشياخ من ثقيف و العقائل من قريش و الذي ضرب مائة بسيفه هذا كلهم يشهدون علي ابيك بالكفر و شرب الخمر، حتي اقروا انه خليفة). [13] .

لقد اعترف الحجاج في غمرة غضبه من خالد بحقيقة المسألة كلها، و عرفه حقيقة أبيه فهو كان احد المتورطين بمسألة المجي ء بيزيد الي كرسي الحكم، و قد اجبر كثيرا من الناس كلهم يشهدون عليه بالكفر و شرب الخمر حتي جعلهم يقرون انه خليفة، و لعل الحجاج ما كان ليجرؤ علي هذا الغضبة المضرية لو ان خالدا اصبح خليفة بعد ابيه و لم يؤخذ منه الملك الي مروان و اولاده.

لقد تركنا الحديث عن اكبر ثلاثة احداث وقعت في عهد يزيد، و بفعل منه، و هي واقعة الطف و واقعة الحرة ثم ضرب الكعبة بالمنجنيق بعد ذلك، لاننا اردنا ان نتكلم عنهما بمباحث خاصة، لتبيين الاثار الخطيرة التي ترتبت عليها، و التي لا تزال تطالعنا رغم محاولة البعض فصلها عن مجمل الاحداث التي وقعت بعد ذلك.


ان الانتهاك المعلن الذي قام به يزيد اتاح الفرصة لمن جاءوا من بعده للقيام بالمزيد من الانحرافات امام انظار الامة و ابصارها، دون ان يمد احد يدا للاحتجاج أو الاستنكار الا في الحدود الضيقة التي تحدثت عنها كتب التاريخ.


پاورقي

[1] المصدر السابق 233 / 8.

[2] تطهير الجنان و اللسان، ابن‏حجر الهيثمي، مکتبة القاهرة، ط 2 / ص 26.

[3] البداية و النهاية 234 / 8. و تاريخ الخلفاء 194، و الصواعق المحرقة، ابن‏حجر 221.

[4] ورد في الصواعق المحرقة عن الروياني في مسند عن ابي‏الدرداء قال: (سمعت النبي صلي الله عليه و آله و سلم يقول: «اول من يبدل سنتي رجل من بني‏امية يقال له يزيد» ص 221.

[5] المصدر السابق 221.

[6] تطهير الجنان و اللسان عن الخطور و التفوه بثلب سيدنا معاوية بن ابي‏سفيان، ابن‏حجر الهيثمي، مکتبة القاهرة مصر ط 1965، 2 ص 525.

[7] تاريخ الخلفاء 186.

[8] الصواعق المحرقة 224.

[9] البداية و النهاية 239 / 8.

[10] الطبري: 248، 247 / 3.

[11] اليعقوبي: 220 / 2.

[12] العقد الفريد 117 / 5.

[13] المصدر السابق 260.