بازگشت

شروط الصلح


و هكذا وافق الامام عليه السلام علي الصلح و شرط علي معاوية شروطا - أخل بها معاوية في النهاية -.. و تكشف الشروط المثبتة بوثيقة الصلح عن المستوي الايماني الفريد الذي تمتع به الامام، و مستوي الشعور بالمسؤولية و الحرص العالي علي تماسك الأمة و اعادتها الي وعيها و الي مستواها الأول القريب من الاسلام.

و مما جاء في بنود الوثيقة أن يقوم معاوية بتولي شؤون الناس علي أساس كتاب الله و سنة رسوله صلي الله عليه و آله و سلم و أن يمتنع عن سب أميرالمؤمنين عليه السلام، و أن يتولي الامام عليه السلام شؤون الأمة و قيادتها بعد وفاة معاوية و اذا حل أجله فالحسين عليه السلام، و أن يصدر عفو عام عن كل من كان له موقف مناوي ء لمعاوية، و أن يأخذ ما بيده من أموال. و هذا البند الأخير أراد منه الامام التمتع بثروة يفتح له الصرف علي من حرموا من العطاء في ظل التصرف و التوزيع الكيفي للأموال، و من هؤلاء بعض اتباع الامام و الموالين له.

و قد لخص الامام الحسن عليه السلام موقفه من الصلح و سب توقفه عن القتال عندما خطب قائلا: (أنا و الله ما ثنينا عن أهل الشام شك و لا ندم و انما كنا نقاتل أهل الشام بالسلامة و الصبر، فشيبت السلامة بالعداوة و الصبر بالجزع، و كنتم في مسيركم الي صفين و دينكم امام دنياكم و أصبحتم اليوم و دنياكم أمام دينكم). [1] .


هكذا تبدلت معادلة الايمان في نفوس المسلمين الذين كانوا يقاتلون مع أبيه أميرالمؤمنين عليه السلام، و انحسر الاسلام من النفوس، و خالطت العداوة السلامة و الجزع الصبر، و ضعفت قيم الاسلام في النفوس بفعل القوي المعادية، و أصبحت القيم الأرضية الواطئة تفعل فعلها في النفوس التي استسلمت و ضعفت.

و كان الامام عليه السلام يريد أن يلفت نظر المسلمين الي حالهم ذاك. و لم يكن يريد أن يفعل ذلك لمجرد تقريعهم و محاسبتهم و الشماتة بهم، و انما أراد أن ينتبهوا الي أخطار الغزو الأموي للاسلام و الي ما عصف بهم و جعلهم علي هذه الحال التي و صلوها. و أرادهم أن يتخلصوا منها فيما بعد، بعد أن يروا ما ستؤول اليه أمورهم نتيجة هذا التخاذل المخزي و التخلي الفاضح عن المبادي ء و القيم التي أراد أميرالمؤمنين عليه السلام تربيتهم عليها و اعدادهم علي أساسها.

و قال عليه السلام، عندما سئل: (ما حملك علي ما فعلت؟ كرهت الدنيا و رأيت أهل الكوفة قوما لا يثق بهم أحد أبدا الا غلب. ليس أحد منهم يوافق آخر في رأي و لا هوي، مختلفين لا نية لهم في خير و لا شر. لقد لقي أبي منهم أمورا عظاما. فليت شعري لمن يصلحون بعدي؟) [2] .

في مقابل جيش معاوية الذي لا يري أمامه الا معاوية سار الامام بهذا الجيش المتخاذل المتفكك الذي لا يحمل توجها واحدا و لا رأيا أو هوي واحدا، و الذي بدأ يمل الحرب و الرحيل الي الشام لمقاتلة معاوية منذ أواخر عهد أميرالمؤمنين عليه السلام نفسه.

و لابد أن نتيجة الاختلاف في الرأي و الهوي ستكون الهزيمة الساحقة، ليس له شخصيا و انما لهم؛ فهم شريحة مهمة من هذه الأمة، و واجهة من واجهاتها و قد نهضت للحرب، و كان مفترضا فيها أن تكون من الشرائح وعيا و علما و ادراكا لواجباتها و قد أتيح لها أن يعيش امام الأمة عليه السلام بين ظهرانيها. فكيف بها و قد قعدت نهائيا و لم تنهض للقتال مع ابنه الامام الحسن عليه السلام..؟.

و مع علمهم بوضعهم و تخاذلهم و اختلافهم في الرأي و الهوي، فقد واجه بعضهم الامام عليه السلام بعد الصلح محتجين علي ذلك، و قد أجابهم عليه السلام قائلا: (يا


أهل العراق، انه سخي بنفسي عنكم ثلاث، قتلكم أبي، و طعنكم أياي، و انتهابكم متاعي) [3] .

لقد كان موقف الامام الحسن عليه السلام احتجاجا قائما علي الأمة المتخاذلة، و تقريعا شديدا لها؛ اذ تخلت عنه و هو يستعد لخوض معركته العادلة ضد معاوية، و تراجعت بكل صراحة حتي أعرب بعض أبنائها بكل جرأة عن رغبتهم الصريحة بالتسليم لامام ضلالة. و هكذا أعربوا عن تنازلهم عن مبادئهم و قيمهم التي حاول أميرالمؤمنين عليه السلام أن يربيهم و ينشئهم عليها. و كان يريدهم أن يعودوا يوما من الأيام، حتي و ان تطاول الزمن و ابتعد، الي موقفهم الأول، و كانوا يخوضون الحرب مع أميرالمؤمنين في صفين و دينهم أمام دنياهم.. لقد كان عليه السلام يعلم أنهم سيتراجعون. و لم يكن من السهل عليه أن يستسلم لمعاوية أو يسلمه المتخاذلون أو المساومون اليه، ذلك الاستسلام الذي لا تفهمه الأمة و قد يكون هو شخصيا ضحية و هدفا مباشرا له متعرضا للوم اللائمين و شماتة العاذلين و القالين.

و لعل مسالمة معاوية و هو في موقف قوي - و لا يزال بعد قويا - أفضل من مسالمته بعد قتال قد يسفر عن انتصار معاوية و أخذ الامام أسيرا أو قتله، و في الحالتين تكون الخسارة فادحة، كما عبر عن ذلك عليه السلام في بعض اشاراته.

لقد كان موقف الامام عليه السلام حكيما و صائبا حينما استطاع أن يمنع النهاية الفاجعة التي كانت ستنتهي بقتله و قتل آل بيته و أصحابه.

و قد علم ببصيرته النافذة و علمه الموروث عن رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم، و بما امتلكه من ايمان و وعي أن خط أصحابه لن يكون ملتقيا مع خط الدولة الأموية المتجبرة، و أنها ستلجأ الي منعهم أرزاقهم و معاشاتهم و عطاءهم.. و هكذا فانه عندما قبل أن يأخذ من معاوية المبالغ التي عرضها عليه، فانه جنبهم بها هوان الفقر و ذل العوز و الحاجة الي الدولة الجديدة و تملقها و التنازل لها؛ هذه الدولة التي كانت ستمنع عنهم دون شك عطاءها و لن تبدي لهم الكرم الذي تبديه لأعوانها، و ضمن عليه السلام لهم بذلك سبل المعيشة و الارتزاق.



پاورقي

[1] ابن‏الأثير 272 - 3.

[2] المصدر السابق 274.

[3] المصدر السابق 272 و الطبري 165 - 169 - 168 - 3.