بازگشت

بين تصور و تصور


ان حرص أميرالمؤمنين عليه السلام عي أن تبقي الامامة من بعده متمثلة بأبنائه، لم يكن من نوع حرص معاوية للتمهيد ليزيد ليكون وليا للعهد و خليفة علي المسلمين. و اذا ما حاول معاوية أن يصور الأمر و كأنه تنافس بين الأبناء عندما مهد لخلافة يزيد بقوله: (أنه لم يبق الا ابني و أبناؤهم فابني أحب الي من أبنائهم). [1] .

(قد ذهبت الآباء و بقيت الأبناء فابني أحب الي من أبنائهم؛ مع أن ابني لو قاولتموه وجد مقاولا) [2] .

لم يقل أميرالمؤمنين عليه السلام ذلك للأمة، و لم يكن يريد أن يقول انه يرغب أن يؤول الأمر الي أبنائه هم أكثر الناس مؤهلات لتحمل مسؤوليات الامامة بعده. و كانت هناك أخبار مؤكدة عن رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم و شهادات واضحة من القرآن الكريم تشيد بفضلهم و تنزههم عن الرجس و الانحراف، و ما كان أميرالمؤمنين ليصفهم الا بصفاتهم الحقيقية التي خبرها و عرفها عنهم و الا بما علمه علما أكيدا عن رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم بحقهم. كما رأينا في فصول هذا الكتاب.

و هكذا فان أميرالمؤمنين عليه السلام عهد الي الامام الحسن عليه السلام قبيل وفاته بتولي الأمر بعده اماما و قائدا للمسلمين، علي أن يتسلسل بجماعة خاصة من آله بعد ذلك، و ليس بأي بفرد منهم. («يا بني، انه أمرني رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم أن أوصي اليك و أدفع اليك كتبي و سلاحي، كما أوصي الي و دفع الي كتبه و سلاحه، و أمرني أن آمرك اذا حضرك الموت أن تدفعها الي أخيك الحسين..» ثم أقبل علي ابنه الحسين عليه السلام أن تدفعها


الي ابنك هذا» ثم أخذ بيد علي بن الحسين و قال له: «و آمرك رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم أن تدفعها الي محمد بن علي، فاقرأه من رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم و مني السلام) [3] .

كانت حياة الائمة ضرورية للابقاء علي حياة الأمة، علي وجودها و وحدتها و استمرارها و نموها و التفافها حول الاسلام و قربها منه.

و من هنا كان حرص الامام عليه السلام علي أهل بيته. لم يخف عليهم خوف الجزع من الموت الحريص علي الحياة، فهو يعلم أنهم مثله علي الطريق القويم و أن مصيرهم اذا ما توفوا سيكون نفس مصير رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم. غير أن خوفه كان علي الأمة نفسها أن تتمزق و تتفرق و تتبعثر و تبتعد عن الاسلام، و قد لا تعود اليه أبدا و لا تكون بنفس المسافة التي كانت منه في حياة رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم اذا لم تكن معتصمة بقيادة واعية تتحمل أكبر قدر من الشعور بالمسؤولية الذي لا يحمله الا أولئك الذين أعدوا اعدادا خاصا، وفق النظرة الالهية - لشغل المنصب الالهي الخطير و تخليص الأمة من شوائب الشرك و الجاهلية و أمراضها و سلبياتها.

و هكذا عبر أميرالمؤمنين عليه السلام عن حرصه علي استمرار الامامة في أبنائه و بقائهم أحياء بين أبناء الأمة و في أحضانها. و قد برر بذلك سكوته عن المطالبة بحقه في الخلافة، اذا كان من شأن النزاع في هذه المسألة أن يتسبب في استئصال آل البيت و قتلهم. و ذلك يعني أن يحارب أبناء الأمة بعضهم بعضا، و يعني الاقدام المباشر علي خرق الاسلام و الانحراف المعلن عنه دون حساب لوجود أية قيادة يمكن أن تستقطب الأمة و توجهها و تعيدها الي الصواب.

و قد أعرب عليه السلام عن خشيته من حدوث ذلك و اختفاء آل البيت من الساحة التي ينبغي أن يكون ظهورهم عليها واضحا و مؤثرا.

«فنظرت و اذا ليس لي معين الا أهل بيتي، فضننت بهم عن الموت، و أغضيت علي القذي و شربت علي الشجي و صبرت علي أخذ الكظم و علي أمر من طعم العلقم». [4] .


«املكوا عني هذا الغلام لا يهدني، فانني أنفس بهذين [يعني الحسن و الحسين] علي الموت لئلا ينقطع بهما نسل رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم قالها لما رأي الحسن عليه السلام يتسرع الي الحرب في بعض أيام صفين.

«فنظرت فاذا ليس لي رافد و لا ذاب و لا مساعد الا أهل بيتي فضننت بهم عن المنية فاغضيت علي القذي و جرعت ريقي علي الشجي و صبرت علي كظم الغيظ علي أمر من العلقم و آلم للقلب من حر الشفار». [5] .

فخوفه عليهم، ليس خوف الذي يتوزع قلبه و يذهب شؤونا حذر الموت، و انما خوف المتفاني المحب لله و لرسوله صلي الله عليه و آله و سلم و دينه الحق، و خوف الحريص علي أمته ان لا تتفرق أو تتمزق أو ترتد أو تنحرف بعد أن ذاقت نعمة الايمان و دخلت في رحاب الله و رحمته و دينهم القويم.


پاورقي

[1] العقد الفريد 111 - 5.

[2] الامامة و السياسة - ابن‏قتيبة - القاهرة، مطبعة النيل 1904 ص 275.

[3] کشف الغمة في معرفة الأئمة - الاربلي - النجف 1970 ج 2 ص 155 و أعلام الوري بأعلام الهدي - أبوعلي الطبرسي النجفي ط 1970 - 3 ص 1 و بحارالأنوار - للمجلسي محمد باقر - ط - دار الکتب الاسلامية - طهران ج 42 ص 250.

[4] نهح‏البلاغة 465 - 121.

[5] المصدر السابق 480 راجع في ذلک کل کتب الحديث و التواريخ المعروفة کصحيحي مسلم و البخاري و تاريخ الطبري و العقد الفريد و تاريخ الخلفاء للسيوطي 175 و ما بعدها و کتاب کشف الغمة في معرفة الأئمة - أبوالحسن الاربلي - النجف 1384 ه و ذخائر العقبي / المحب الطبري - دار الکتب العراقية 1967 م و أعلام الوري بأعلام الهدي - الطبري ط 3 النجف 1970 و الفصول المهمة لابن الصباغ المالکي ط 3 النجف 1962 و الارشاد للشيخ المفيد ط 72 / 2 النجف... و قد أوردنا أسماء بعض المصادر في الهوامش التي وثقنا بها بعض المعلومات و الأخبار الواردة بحق الامام عليه‏السلام و والده و أخيه عليه‏السلام.. و قد ورد ذکر مناقبه و سجاياه و أخباره في عشرات من الکتب الأخري المعنية بالحديث و التاريخ الاسلامي مما لا يسع ذکره في هذا المجال المحدود هنا.