بازگشت

لماذا لم يعلن اميرالمؤمنين الحرب علي من سبقه


لقد أدرك الامام عليه السلام موقف قريش منه و عرفه حق المعرفة. و قد رأينا كيف كان ينظر اليها و كيف كانت تنظر اليه. فقد أذل كبرياءها و جاهليتها و عصبيتها بسيفه و جعلها تنحني أمام الاسلام. و علم أن الأمر أصبح أمر منافسة علي زخرف و زبرج و مناصب و سلطان، و عرف أن المعركة ستكون بعد غياب رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم، معركة شرسة؛ معركة وجود، و أنه ان قاتل دون حقه فان قريشا ستتحد و تقتله، و ستقتل بسبب ذلك الأمة كلها و ستتفرق و تتوزع، و سيؤول أمرها الي أن تترك الاسلام صراحة و لما تكد تتعرف عليه و تقبل أن تحكمه في حياتها و وجودها.

و هنا يبرز حرصه علي أمرين: وجوده و آل بيته أحياء، رغم الحيف الذي يلحقهم و رغم تجريدهم من المركز القيادي الفعلي للأمة، و وجود الأمة نفسها حية قوية متآلفة و متماسكة. و بضمان هذين الأمرين، يضمن بقاء هذا الدين و استمراره و ديمومته. و هو الشي ء الذي له الأولوية المطلقة بنظر الامام و الذي يحرص عليه أشد الحرص.

فلماذا سكت اذا (و هادن) و (صالح) الخلفاء قبله، مع أنه كان يعلم أنه صاحب الحق، و كان يعلن ذلك و لا يتكتمه أو يخفيه؟.. لماذا سكت شابا و أشهر سيفه شيخا..؟ أكانت طموحاته طموح شاب ملك رأي الأمر يخرج من بين يديه؟.

لقد كان في مقتبل حياته يفور غيرة و حماسة علي الاسلام و لا يكاد أحد يصمد أمام سيفه و ساعده. و لو كان حماسه لأجل مصلحته الشخصية لجعل الصراع يتخذ فعلا أبعادا دموية و لا نساق الي الاغراءات و المحاولات التي أرادت جره الي حلبة الصراع، غير أنه رأي أنه اذا ما انساق الي ذلك فسيكون الاسلام هو الخاسر الوحيد، و أنه سيخسر عن الساحة بمثل السرعة التي امتد و انتشر فيها.

و لعل أبرز مظهر لقوته و بطولته هو سكوته عن حقه المغتصب، و ربما فاق ذلك قوته البدنية و الذهنية المشهورة، فهو لم يكن يريد أن يظل حيا لأنه كان يرهب


الموت، فهذا ما لا يمكن لأحد أن يدعيه.. بل لأنه كان يتوقع الانحراف، و يعلم أنه المؤهل الأول لتقويمه و ايقافه، و اذا ما اختفي من الساحة بوفاته أو قعوده و اتخاذه موقفا سلبيا خالصا، فان الانحراف سيشع منذ البداية، و لن يعود أحد يشعر بوجود شاهد أو مراقب واع يستطيع التقويم و التوجيه، و لن تتاح للمسلمين فرصة التقاط أنفاسهم، و هم يرون اتساع الخرق أمامهم و لا يستطيعون ايقاف ذلك.

كان الامام بشهادة الجميع هو المؤهل الوحيد للتصدي و الوقوف أمام كل المعضلات التي واجهت سابقيه و معالجتها بنفس التصور و الفهم الذي حمله رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم نفسه.

و قد رأينا ما قاله منافسوه أنفسهم فيه.

ورد الامام علي أولئك الذين اتهموه بالخوف من التصدي لمنافسيه علي الخلافة و الذين اتهموه بالحرص عليها رغبة فيها لنفسه و علي أنها مكسب شخصي له قائلا: (فان أقل يقولوا حرص علي الملك، و ان أسكت يقولوا جزع من الموت. هيهات بعد اللتيا و التي. والله لابن أبي طالب آنس بالموت من الطفل بثدي أمه، بل اندمجت علي علم مكنون لو بحت به لا ضطربتم اضطراب الأرشية في الطوي البعيدة) [1] .

و قال في مناسبة أخري، و قد حاول بعضهم تحذيره من الظهور في ازار ورداء خلال احدي المعارك مع معاوية و أهل الشام: (أبالموت تخوفوني؟ فوالله ما أبالي أسقطت علي الموت أم سقط علي). [2] .

و بغض النظر عن قوله عليه السلام مع أنه القول الفصل و الجواب الصحيح، و قد علم الجميع من هو، و حتي أولئك الذين يكنوه له الكره و يضمرون له العداوة و السوء لم يستطيعوا أن يقولوا أنه كان يخاف من الموت في أي وقت من أوقات حياته صبيا أو شابا أو شيخا. لقد كان يقبل علي الموت غير متحفظ و لا متحرز من أعدائه الأقوياء المدججين بالسلاح و الحديد. و كان يقاتل و هو شيخ قد جاوز الستين بنفس قوة و حماس شباب العشرين. و لم يستطع أحد أن يصمد أمامه رغم كثرة هؤلاء الذين شاء


لهم سوء طالعهم الوقوف قبالته و ربما تجتاوزوا الألوف العديدة، حصدهم بسيفه. كان نصير الاسلام بحق، بشهادة أخيه و ابن عمه و قائده رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم نفسه.

لم تكن فيه خصلة من خصال أعدائه، لا الطمع في الملك أو المال و لا الخوف من الموت، فما عسي أن يكون مصير من يتفاني في حب الله غير القرب منه..؟ غير أن الذي يريد أن يخاصم و يجادل و يحارب، ما عساه أن يقول غير ما قاله أعداء الامام عليه السلام، و ما عسي أن يكون رد الامام غير ما سمعناه و خبرناه فعلا عنه؟.

ان شعوره بالمسؤولية يبلغ من القوة أنه يتحد مع شعور الرسول المعصوم صلي الله عليه و آله و سلم، فهو ربيبه و نفسه و نسخة منه، و هو يسمع ما يسمع و يري ما يري، غير أنه ليس بنبي، كما أخبره الرسول صلي الله عليه و آله و سلم الذي كانت النبوة محصورة فيه، يقود الأمة الي الاسلام و يجعلها تنهل من مائه العذب الصافي و تحلق في أجوائه. و كانت مهمته صلي الله عليه و آله و سلم مهمة الامامة لهذه الأمة أيضا، يقودها و يقف أمامها دائما، و يجعل من سلوكه و أقواله و ما يقره سنة لها تتطابق مع كتاب الله العزيز. و من أقدر من الرسول صلي الله عليه و آله و سلم علي توضيح الاسلام للأمة، و هو الذي اؤتمن من الله علي هذه الرسالة و اختصه بها.

و اذا كانت مهمة الرسالة قد انتهت بعد وفاة الرسول صلي الله عليه و آله و سلم، فان مهمة الامامة لابد أن تستمر، حتي بعد غيابه و وفاته صلي الله عليه و آله و سلم. لأن اعداد الأمة لم ينته بعد و لا بد من وقت طويل لتربيتها و اعدادها.. و قد يتطلب الأمر أجيالا عديدة، و هذا يتطلب وجود أئمة يكملون المسيرة النبوية الأولي، و يتطلب بشرا معدين اعدادا خاصا من رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم نفسه، يتصفون بما اتصف به من صفات و سجايا نادرة، ليسوا بخلاء و لا جاهليت و لا جفاة و لا خائفين و لا مرتشين و لا معطلين للسنن. بل يتمتعون بأقصي قدر من الصفات النادرة المضادة لتلك.

و لكي يقيموا السنن، لا بد أن يتمتعوا بأكبر قدر من فهم هذه السنن؛ فهم الاسلام برمته، و فهم أحكامه و مبادئه و تشريعاته و امتلاك تصور واضح و كامل عنه، و لا بد أن يكونوا علي قناعة تامة به، لا تساورهم أدني ريبة بصلاحيته و قدرته علي قيادة الحياة دائما و الاستجابة لمتغيراتها و متطلباتها.

و لم يشر الامام عليه السلام علي نفسه كمؤهل وحيد لاكمال المسيرة و مسؤولية القيادة و امامة المسلمين، بل أشار الي أهل بيته و أولهم ابناه الحسن و الحسين عليهم السلام


بنفس القوة و الوضوح الذي أشار بهما رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم اليهم، و قد كان يريد أن يعدهم لقيادة الأمة من بعده.


پاورقي

[1] نفس المصدر 94 -92.

[2] العقد الفريد 94 - 1.