بازگشت

ذرائع معاوية اتهامات حذرة في البداية


و قد استثمر مواقفهم و حججهم نفسها ليعلن حربه الطويلة الظالمة علي الامام و يبرر خروجه عليه، و من المؤكد أنه كان أحد المشجعين و الموحين بالعديد من الأفكار و الاحتجاجات التي تزودوا بها منذ البداية، و قد رفع الراية التي أسقطوها، مطالبا بدم الخليفة المقتول، و قد كان يعلم أن الأمر لم يكن ليصل الي نتيجة حاسمة بهذا الشأن، و أنه سيكون مثار خلاف و جدل مستمرين و أنه - معاوية - غير مخول ما دام امام الأمة الشرعي يمارس سلطته و حكومته ليتخذ الاجراءات المناسبة في الوقت المناسب. لكن الأمر هنا يتعلق بالامام الشرعي نفسه، و معاوية يعلم قبل غيره أن احتجاجاته كانت مجرد ذريعة للخروج عليه. و كان معاوية محتاجا لاسباغ أحد أغطية الشرعية علي حركته المناوئة للامام، ذلك الغطاء الذي تخلي عنه الآخرون مكرهين، و الذي أسبغوه علي حركتهم الخارجة الأولي في معركة الجمل. و لابد لنا هنا من ملاحظة الخطوات الدقيقة الماكرة التي اتبعها معاوية مع أهل الشام و غيرهم بهذا السبيل.

و لم يكن يجرؤ صراحة في البداية علي اتهام الامام بشكل مباشر، و انما جعل من النقد الذي كان يوجهه عليه السلام لعثمان، و النصائح التي كان يزجيها له و مراجعته له باستمرار - منطلقا من مهمته الأساسية الشرعية كامام للأمة، و ان لم يستلم شؤون الزعامة الفعلية - لتقويم كل جوانب الحكومة الاسلامية القائمة كلما حاولت أن تنحرف أو تميل. و قد رأينا أن الامام لم يكن (يكيد) بالسر أو (يتربص) أو (يتآمر) علي من سبقه، و انما كان يعلن آراءه صراحة و بوضوح علي رؤوس الأشهاد. كان يريد أن تكون الحجة بالغة و واضحة لا للخليفة و حسب، و انما للأمة كلها. و كان ينطلق من نظرة الاسلام المستقيمة الصادقة التي طبعت سلوكه بطابعها الواضح المعروف... و كان معاوية يعتبر ذلك النقد و التوجيه من الامام عليه السلام محاولة لتصيد الأخطاء و عرضها أمام أنظار الأمة و تحريضا للآخرين للنيل من عثمان، مع أننا رأينا من هم المحرضون الفعليون و المتصيدون للأخطاء - لا لتقويمها و لكن للتشهير - و في مقدمتهم طلحة و الزبير و عائشة و عمرو بن العاص، الذين تباكوا بأجمعهم علي عثمان بعد أن مهدوا هم لقتله، و كانوا بذلك القتلة الحقيقيين الذين يجب أن يقتص منهم من يريد الأخذ بثأره.

و في البداية كان معاوية يمهد لاتهام الامام عليه السلام بحذر، و لم يشر اليه صراحة،


ففي رسالة منه الي محمد بن أبي بكر، يقول: (... ثم قام ثالثهما عثمان، فهدي بهديهما، فسار بسيرهما، فعتبه أنت و صاحبك - و يقصد به الامام عليه السلام - حتي طمع فيه الأقاصي من أهل المعاصي، فطلبتما له الغوائل و أظهرتما عداوتكما فيه حتي بلغتما فيه مناكما...) [1] ، ففي هذه الرسالة و غيرها من الرسائل، يشير معاوية اشارة حذرة الي أن النقد و اظهار عيوب الخليفة المقتول، هو الذي جرأ عليه الناس، و لو لم يكن ذلك لما تجرأ عليه أحد متناسيا أنه و الزمرة المقربة منه كانوا أحد أهم الأسباب لغضب الأمة علي عثمان، كما رأينا من قبل.

و قد أشار ابن عباس اشارة ذكية الي هذا الموضوع في رسالة جوابية الي يزيد علي رسالة كان قد بعث بها اليه يهدده و يطلب منه الدعوة و نصرته علي ابن الزبير، (... و لكن أباك تربص به، و ابطأ عنه بنصره، و حبس من قبله عنه، حين استصرخه و استغاث به. ثم بعث الرجال اليه معذرا حين علم أنهم لا يدركونه حتي يهلك...) [2] .


پاورقي

[1] مروج الذهب ص 15.

[2] أنساب الأشراف - البلاذري، القدس 1938 ج 4، ق 2 - 19.