بازگشت

ابحث عن معاوية برنامج مدروس للانحراف


علي أن خروج معاوية علي علي عليه السلام هي المسألة التي ينبغي أن تستعرض بالتفصيل و الوضوح المناسب و تعرض علي جماهير المسلمين بدقة و دون تحيز مسبق لأن بداية الانحراف الحقيقي المتعمد عن الاسلام قد بدأت مع معاوية، مع أن بعض الأخطاء و الانحرافات الأخري قد ظهرت قبله و خصوصا في عهد عثمان، و ربما حدث بعضها بدوافع غير مقصودة و غير متعمدة.

أمر معاوية يجب أن يدقق و يمحص جيدا، و الا فان هذه الحلقة المهمة من حلقات تاريخنا الاسلامي ستظل ضائعة، مع أنها تشير لبداية انفصال الحلقات الأخيرة عن الحلقات الأولي التي لم تشوه ذلك التشويه الكبير بالانحرافات و الأخطاء الكبيرة


المتعمدة و الخروج الفاضح عن الاسلام كما حدث أيام معاوية و بعدها. ان البحث عنها أساسي و مهم.

و لابد أن نحكم الرؤية الاسلامية المستمدة من كتاب الله و سنة رسوله صلي الله عليه و آله و سلم عند النظر الي هذه المسألة بالخصوص، كما هو شأننا عندما ننظر الي كافة المسائل الاسلامية الحساسة المتداولة و خصوصا تلك التي تحصل خلافات مستمرة بشأنها و لم تحسم من قبل العديدين لغياب التصور الاسلامي و الرؤية الاسلامية الصحيحة غير المتحيزة، و الواضحة.

و في مقدمة هذه القضايا قضية معاوية مع علي أو خلافه أو نزاعه معه كما يسميه البعض أو (الفتنة) التي حدثت (بينهما).

ان بعض المؤرخين - بمقتضي الأمانة العلمية - حاولوا نقل ما وصل الي أسماعهم من أحداث و روايات، و ما قرأوه عنها، و تركوا لنا مهمة فحصها و تمحيصها؛ فهذا الطبري، (شيخ المؤرخين العرب المسلمين) يورد لنا ملاحظة مهمة بهذا الخصوص (... فما يكن في كتابي هذا من خبر ذكرناه عن بعض الماضين مما يستنكره قارئه أو يستشنعه سامعه، من أجل أنه لم يعرف له وجها في الصحة، و لا معني في الحقيقة، فليعلم أنه لم يؤت ذلك من قبلنا، و انما أتي من قبل ناقليه الينا، و اننا انما أدينا ذلك علي نحو ما أدي الينا..) [1] .

الا أننا ينبغي أن لا نعتقد أن كل هؤلاء المؤرخين لزموا نفس النظرة الحيادية التي ربما كان عدد كبير منهم قد اتخذوها عند استعراض وقائع التاريخ و أحداثه المهمة. فلابد أن بعضهم قد انحاز الي جهة ما بفعل عوامل عديدة، و اختار ما يلائم ذوقه و ميوله، عند اختيار الوقائع و الحوادث التي يسجلها في (تاريخه). اننا نجد تفاوتا من حيث الطول و المساحة التي يستغرقها خبر ما عند استعراض نفس الحادثة في مختلف الكتب التاريخية، فربما يكرس بعض المؤرخين اهتمامهم لبعض الأحداث يرونها مهمة و جديرة بأن يستطردوا في رواية الكثير مما سمعوه عنها، و لا يكادون يتطرقون الي أحداث أخري ربما لا تقل عنها أهمية، بل ربما تزيد عليها في الأهمية، لكنهم لا يرون ذلك، و ربما لا يريدون أن يروا ذلك لأمر ما، قد يكون ناتجا


عن فهم المؤرخ الخاص أو طبيعة نظرته للأمور، و تحليله لها و امكانية تأثيرها سلبا أو ايجابا علي بعض ما يتبناه من المواقف المسبقة، و هذا مما يجانب الأمانة العلمية التي ينبغي أن يتصف بها هؤلاء المسجلون الأمناء للتاريخ.

و اذا كان الطبري قد بين لنا أنه قد سلك هذا المنهج من الأمانة - و حتي ذلك قد يكون أيضا خاضعا للتمحيص و النظر - فان آخرين لم يتحرجوا من التحيز الواضح، في التركيز علي الأخبار و الحوادث التي تخدم اتجاها معينا أو جهة معينة يميل اليها هذا المؤرخ، و يهمل الأخبار الأخري التي لا تتناسب مع ميوله و اتجاهاته، و في هذا ما فيه من حيف و غبن و ابتعاد عن الأمانة العلمية التي يتطلبها الخوض بأمثال هذه الأمور.

لقد بدأ اعداد الموسوعات التاريخية الكبيرة في بداية العصر العباسي، و نقلت الأخبار عن الرواة و القصاصين الذين أخذوها بدورهم ممن سبقوهم و الذين عاشوا في العصر الأموي و ظلت تتواتر و تتداول و ربما سجل لكثير منها في كتب متفرقة.

و ينبغي أن لا يغيب عن الظن أن اللمسات الأموية المتأثرة بالريشة الساحرة الموحية لمعاوية لم تكن تغيب عن الأقلام التي تناولت التاريخ الاسلامي، حتي فيما بعد. و مهما حاول الكثيرون من المؤرخين أن ينظفوا أقلامهم من مداد تلك الريشة الساحرة، فان أثارا عديدة ظلت علي تلك الأقلام بتأثير ذلك.

ان معاوية تدخل تدخلا مباشرا في توجيه القصاصين و المحدثين و رواة الأخبار، حيث كان يلتقي مع بعضهم بشكل مباشر، ضمن برنامجه العملي اليومي، لا ليستمع منهم فقط و انما يوجههم كما يشاء. و كان اطلاعه اليومي المستمر علي حوادث التاريخ الغريبة، و دهاؤه و قابلياته و خياله، يتيح له النجاح في هذا المضمار للتحكم في أكبر وسيلة اعلامية كانت متاحة في ذلك الوقت... و هي حلقات القصاصين و المحدثين، و توظيفها لتثبيت ركائز الحكم الأموي. (كان اذا صلي الفجر جلس للقاص حتي يفرغ من قصصه... و في الليل يستمر الي ثلث الليل في أخبار العرب و أيامها، و العجم و ملوكها و سياستها لرئيسها و سير ملوك الأمم و حروها و مكايدها و سياستها لرعيتها و غير ذلك من أخبار الأمم السابقة... ثم يقوم فيقعد فيحضر دفاتر فيها سير الملوك و أخبارها و الحروب و المكايد فيقرأ ذلك عليه غلمان له


مرتبون و قد وكلوا بحفظها و قراءتها فتمر بسمعه كل ليلة جملة من الأخبار و السير و الآثار و أنواع السياسات) [2] .

لقد استطاع معاوية من خلال عمليات مستمرة دؤوبة استمرت طيلة حكمه، أن يستفيد من أكبر التجارب البشرية المتاحة في مجال الحكم و السياسة، و التي كانت بطبيعتها جاهلية غريبة عن الاسلام، كما استطاع بما يمتلك من مقدرات فائقة في فن الحكم المبنية علي تجارب و خبرات تلك الأنظمة الجاهلية الغريبة، و بما يمتلك من قدرات في الدهاء و التحمل و الصبر و السكوت عن بعض الاهانات و التجاوزات علي شخصه - و في عملية التمهيد لخلافة يزيد من بعده و ربما لأبناء يزيد بعد ذلك - أن يقوم بأكبر عملية غسيل للأدمغة أجريت حتي اليوم، و ذلك بتوجيه أجهزة الاعلام المؤلف من جيش من المحدثين و القصاصين و رواة الأخبار و فقهاء الدولة و وعاظ السلاطين، و ذلك بأسلوب مركز متناسق دؤوب يومي مستمر مركزا في جانب من حملته الدعائية التي استهدفت. الغض من شأن علي و آل البيت عليهم السلام، علي أن (الخلاف) أو المعركة قائمة حول الخلافة بين بني عبد مناف، الذين كان ينتسب اليهم هو أيضا، مثلما ينتسب اليهم الرسول صلي الله عليه و آله و سلم و علي عليه السلام أيضا.

(محمد صلي الله عليه و آله و سلم بن عبدالله بن عبدالمطلب بن هاشم بن عبدمناف).

(علي بن أبي طالب بن عبدالمطلب بن هاشم بن عبدمناف).

(معاوية بن أبي سفيان بن أمية بن عبدشمس بن عبدمناف).

فمسألة الخلاف اذا مسألة خلاف عائلية بين بني الأعمام لا يحق لأحد غريب عنهم أن يتدخل فيها...! كما صورت من قبل بأنها مسألة تخص قريشا وحدهم و لا حق لأحد من غير قريش التدخل فيها.

كما حاول في مرحلة أخري تصوير (المعركة) و كأنها بين (أهل الحجاز) و (أهل الشام)، و (أهل العراق) و (أهل الشام)...

لقد كانت خطة ماكرة لابعاد جماهير المسلمين -الذين كانوا سيتحيزون الي صف علي و آله عليه السلام حتما - عن الصراع الذي أثاره، لقد أراد أن يقول أن لا شأن


لأي (غريب) عن العائلة بأمورها الخاصة، و لا يحق له التدخل بين أبناء الأعمام هؤلاء، فهم أهل، و ما معاوية الا ابن عم علي، و الحسين ابن عم يزيد، و ان الخلافة اذا ما أصبحت بيد هذا البيت من بني عبد مناف أو ذاك، فان هذا هو شأنهم وحدهم ينقلونها حيث شاءوا و هي أمر خاص بهم، و ان معاوية أو يزيد ربما فاقا أبابكر و عمر نفسيهما، بنسبهما السامي هذا و ربما ببعض الفضائل الأخري (التي ركز عليها بعض المؤرخين و المحدثين)، و اذا ما أراد أحد أن ينسب فضلا لأبي بكر و عمر دون معاوية، فما ذاك الا لأنهما قد سبقاه في الدخول في الاسلام، و معاوية قد دخله مؤخرا و انتهي الأمر و أصبح مسلما، و ماذا يريد الآخرون الذين قد يفكرون بالطعن فيه - أكثر من ذلك... ليبايعوه كما بايعوا أولئك، خليفة و أميرا للمؤمنين.


پاورقي

[1] تاريخ الطبري / تحقيق محمد أبوالفضل ابراهيم - دار المعارف 8 / 1 ط 4.

[2] مروج الذهب و معادن الجواهر - علي بن الحسين المسعودي - دار الکتب العلمية - بيروت شرح و تقديم د. مفيد محمد قميحة 1406 ه 1986 م ج 3 ص 38.