بازگشت

العصمة ضمانة


و لهذا السبب كانت عصمة الرسول صلي الله عليه و آله و سلم هي التي جعلت امامته و قيادته للأمة الاسلامية مضمونة العواقب في النصر الأكيد و الفوز الحاسم، لأنهم كانوا يقتبسون منه قناعة و ايمانا بالله لا يتزعزعان، فكأنهم يبصرون بعينيه و يسمعون ما يسمعه. و من هنا كان مسيرهم غير المتحفظ وراءه مدركين أنه لابد أن يقودهم الي الطريق السوي، و من هنا كانت استماتتهم في الدفاع عن دينهم، و هم قلة، و وقوفهم بوجه قوي الشر الملتحمة المتحدة المصرة علي ابادتهم و محوهم.

ان الروايات المتواترة الصحيحة - و رواتها الثقاة يعدون بالمئات - تؤكد رغبة رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم في أن يكون عليا وصيه و وزيره من بعده - كما رأينا في خطبة الغدير السابقة، و هي رغبة لا يمكن اعتبارها شخصية نابعة عن هوي خاص في أخيه و ابن عمه، بل لابد أن تكون موحاة من قبل الله و موصي بها منه سبحانه. لقد طلب منه صلي الله عليه و آله و سلم، و أقر بطلبه ذاك حقيقة واقعة و هي أنه عليه السلام من النبي صلي الله عليه و آله و سلم بمنزلة هارون النبي من موسي النبي - و كان هارون خليفة موسي علي قومه اذا غاب عنهم - الا أنه عليه السلام ليس بنبي، اذ أن الرسالة انقطعت، غير أن الامامة، كما يؤكد الرسول صلي الله عليه و آله و سلم لم تنقطع، أراد منه أن يكمل مشوار القيادة الطويل لهذه الأمة، و يأخذ علي عاتقه اخراجها منتصرة أمام كل التحديات التي تواجهها علي كل الساحات، ساحات النفس البشرية، و ساحة المنافسة علي المصالح و الامتيازات، ساحة الطواغيت التي تحكم العالم و تحيط بالجزيرة من أخطارها.


هذه الأحاديث و الروايات العديدة [1] لا غبار عليها، و لا اختلاف عليها عند جميع أبناء الأمة الاسلامية، أما كيف يتداولونها و كيف يفهمونها، فهنا سر (الخلاف) الكبير، و سر المسألة كلها، و هو الذي يجعلنا نتساءل عن سبب السكوت و التراخي عن هذه الأحاديث التي لا تحتمل التأويل، و عن سبب السكوت عن تأويل بعض نصوص القرآن الكريم أيضا، و هو أمر محير و مثير للعجب، اذ يمرون عليها مرورا عابرا و لا يتدبرون معانيها جيدا، و قد يفعلون بالقرآن الكريم ما فعلوه معها، فكأنهم بذلك التأويل الخاطي ء المعتمد، يقرأون قرآنا آخر، لم يملكوا أن يغيروا مبانيه و ألفاظه و عباراته فغيروا معانيه و مضامينه، و هذا أمر في غاية الخطورة، يستدعي أن تقوم الأمة كلها بوجه فاعليه و تردهم عن ذلك بمختلف الوسائل المناسبة.. (عن أبي سعيد قال: سمعت رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم يقول: «ان منكم من يقاتل علي تأويل القرآن، كما قاتلت علي تنزيله»... و شخص الي الامام علي بعينه، بقوله: «و لكنه خاصف النعل..» و كان قد أعطي عليا نعلا يخصفه) [2] و كان معاوية نفسه يتزعم أكبر حملة لتأويل القرآن و وضع الأحاديث و قد خاطبه الامام عليه السلام في احدي رسائله قائلا: (فعدوت علي طلب الدنيا بتأويل القرآن) [3] .


لقد استمعنا الي حديث الغدير، و هو من الأحاديث المشهورة المتواترة التي نصت علي امامة علي عليه السلام و الذي استمعت فيه جمهرة كبيرة من المسلمين لرسول الله صلي الله عليه و آله و سلم بعد منصرفه من حجة الوداع عائدا الي المدينة المنورة.

و قد كان الرسول الكريم صلي الله عليه و آله و سلم و هو ابن الجزيرة العربية و ابن قريش، و الذي يتمتع بأعلي درجة من الوعي و الادراك الصادق و رهافة الحس، يدرك أن اجتماع الفضل في بيته، النبوة و الامامة معا، سيثير فئات كبيرة من الناس، لم تزل بعد تنظر بمقاييس الجاهلية، و لعلها تنفس علي النبي الكريم و أخيه و صهره هذا الشرف الكبير، الذي لابد أن تضمحل و تتلاشي معه كل أمجادهم و شرفهم و فخرهم. ان هؤلاء - و ان انضموا الي الاسلام و أصبحوا تحت لوائه - لابد و أنهم ليسوا علي مستوي واحد من الفهم و الشعور بالمسؤولية، و ان كثيرين منهم ربما بعتبرون موقف النبي صلي الله عليه و آله و سلم بدعوة الناس الي اتخاذ علي عليه السلام اماما من بعده نابعا عن هوي شخصي، و أنهم ان لم يتسن لهم الاعراب عن رأيهم هذا صراحة و رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم فيهم، فربما أعربوا عنه فيما بعد، عند وفاة الرسول صلي الله عليه و آله و سلم، و الاسلام لا يزال في أول مراحله لم ينتشر في الجزيرة العربية كلها، و لم يتمكن من النفوس كلها، و المعركة لا تزال قائمة بينه و بين أعدائه المعلنين و في ذلك ما فيه من احتمال مرجح لردة كبيرة قد تقضي عليه قضاء نهائيا.

لقد تردد رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم في اعلان وصيته التي ستثير في أغلب الظن حفيظة الكثيرين و ربما سببت ضررا كبيرا للاسلام نفسه، هذه الرسالة التي كرس لها صلي الله عليه و آله و سلم كل لحظة من حياته و شعوره. و حينها جاءه التأكيد الالهي واضحا و حاسما، فالله أعلم بكل شي ء و بكل ما سيحدث، لقد أوحي اليه - سبحانه (يأيها الذين ءامنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم و يحبونه أذلة علي المؤمنين أعزة علي الكفرين) [4] (فلم يجد بدا من الامتثال بعد هذا الانذار الشديد، فخطب الناس عند منصرفه من حجة الوداع في غديرخم، فنادي، و جلهم يسمعون: «ألست أولي بالمؤمنين من أنفسهم؟» فقالوا: اللهم نعم. فقال: «من كنت مولاه فهذا علي مولاه، اللهم وال من والاه، و عاد من عاداه، و انصر من نصره، و اخذل من خذله» ثم أكد ذلك في مواطن أخري


تلويحا و تصريحا و اشارة و نصا، حتي أدي الوظيفة و بلغ عند الله المعذرة..) [5] و هكذا نزل قوله تعالي: (... أليوم أكملت لكم دينكم و أتممت عليكم نعمتي و رضيت لكم الاسلام دينا) [6] .

و بغض النظر عن النصوص الواردة، فان المتتبع لسيرة الامام عليه السلام، يري أن الصفات المطلوبة لقيادة الأمة علي نهج الاسلام، كانت متوفرة فيه بشكل لا يمكن لأحد منافسة فيه بأي حال من الأحوال. و لقد شهد له بذلك حتي من سبقه من الخلفاء، و حتي من جاء بعده، و منهم خصوم ألداء له و في مقدمتهم معاوية نفسه [7] (قال ابن حجر في صواعقه: أخرج أحمد أن رجلا سأل معاوية عن مسألة، فقال: سل عنها عليا فهو أعلم، قال: جوابك فيها أحب الي من جواب علي! قال: بئس ما قلت! لقد كرهت رجلا كان رسول الله يغره بالعلم غرا، و لقد قال له: «أنت مني بمنزلة هارون من موسي الا أنه لا نبي بعدي» و كان عمر اذا أشكل عليه شي ء أخذ منه، الي آخر كلامه) [8] .


پاورقي

[1] راجع (المراجعات - للامام عبدالحسين شرف‏الدين الموسوي، عليه رضوان الله، فقيه تقص دقيق لأهم هذه الروايات، مما يزيل کل شک و ارتياب من الأذهان التي ربما لم تطلع و لم تعلم بما قيل في حق علي و آله بيته عليهم‏السلام، في غمرة الحملة المنظمة و المقصودة لطمس حقهم في الولاية، و الاکتفاء بتناول بعض فضائلهم العامة التي يتساوون فيها مع الناس العاديين الآخرين من الصحابة و التابعين و غيرهم...لذر الرماد في العيون.

[2] البداية و النهاية 375 - 8 و انظر المراجعات، 210 - 209 قوله عليه‏السلام (ان منکم من يقاتل علي تأويل القرآن کما قاتلت علي تنزيله، فاستشرف لها القوم و فيهم أبوبکر و عمر. قال أبوبکر: أنا هو؟ قال لا. قال عمر: أنا هو؟ قال: لا. و لکن خاصف النعل يعني عليا. (أخرجه الحاکم ص 122 ج 3 من المستدرک و أخرجه الامام أحمد و البيهقي و سعيد بن منصور و أبونعيم و أبويعلي...) الخ.

و عن أبي‏ذر / اذ قال: «قال رسول‏الله صلي الله عليه و آله و سلم: والذي نفسي بيده ان فيکم لرجلا يقاتل الناس من بعدي علي تأويل القرآن کما قاتلت المشرکين علي تنزيله». فيما أخرجه الديلمي کما في ص 155 ج 6 من الکنز.

[3] نهج‏البلاغة: 627.

[4] المائدة: 67.

[5] أصل الشيعة و أصولها ص 108 و المراجعات ففيه توضيح کاف عن مسألة الوصية لا تدع مجالا لشک أو ارتياب.

[6] المائدة: 3.

[7] أثناء المقصد الخامس من المقاصد التي أوردها في الآية الرابعة عشر من الباب 11 ص 107. من الصواعق.

[8] حيث قال و أخرجه آخرون (قال) و لکن زاد بعضهم، قم لا أقام الله رجليک و محي اسمه من الديوان الي آخر ما نقله في ص 107 من صواعقه، مما يدل علي أن جماعة من المحدثين غير أحمد أخرجوا حديث المنزلة بالاسناد الي معاوية (المراجعات ص 165).