بازگشت

الخلافة كالنبوة مهمة الهية


لقد بدا لنا واضحا، ان دور الامامة يندمج مع دور النبوة في مرحلة نزول الرسالة، ثم يستمر بعد وفاة الرسول، فمهمات الامام هي كمهمات الرسول، و كل الدلائل التي وصلتنا كانت تدل علي نوعية المهمات الدقيقة و الكبيرة التي كان النبي يعد لها الامام و الوصي من بعده، و طبيعة التربية و العلاقة الوثيقة الدائمية بينهما، بحيث تتيح له فرصة التلقي المستمر عنه. و كما كان الشعور العالي بالمسؤولية يسيطر علي كل كيان النبي و كل مشاعره و أحاسيسه، عمل صلي الله عليه و آله و سلم علي أن يكون الأمر كذلك مع وصيه عليه السلام، و قد رأينا فعلا، كيف كان نفس هذا الشعور بالمسؤولية يستولي علي كل كيان الامام، فلا يري أمامه الا الله و الاسلام الذي أراد سبحانه من الجميع أن


يتحملوا مسؤولية نشره و توضيحه، و وضعه علي طريق البشر منهجا حياتيا متكاملا نفيلا بحل كل اشكالاتها و عقدها.

و كانت المؤهلات العلمية و القيادية التي تمتع بها الامام عليه السلام، قد جعلت منه مدرسة لعلماء الاسلام، فأي علم من علوم الاسلام لم يكن هو مؤسسه و باعثه؟

كما كان بصفاته الشخصية الفريدة - محط أنظار الأمة كلها، هذا أمر مؤكد و واقع و الا فهل كان أحد يستطيع أن يؤدي مهمة القيادة - بشكل الذي أداها به الامام عليه السلام دون هذا الشعور بالمسؤولية الذي تمتع به، و دون هذا الزخم الهائل من العلم و المعرفة، و هذه الشحنة العظيمة من الايمان و الوعي بحقائق الاسلام و مبادئه و قيمه التي حملها؟

هذه المهمة الضخمة التي كان علي الامام أن يستمر بها بعد اختفاء النبي من الساحة، هي التي تستدعي أن يكون متمتعا بهذه الصفات القيادية البارزة، خصوصا و ان معركة الاسلام مع أعدائه لم تنقطع، و لم يكن محتملا لها أن تنقطع، ما دامت قوي الشر و الظلام و المصالح و الشهوات تستولي علي مساحات كبيرة من العالم.

و ما دام الامام هو الذي ينبغي أن يقود المعركة، فلابد لدور الامامة أن يستمر طالما ظلت هذه المعركة قائمة بين الاسلام و خصومه.

فهذه الصلة الربانية التي تمثلت بالنبوة أولا ثم بالامامة، يجسدها الأنبياء و أوصياؤهم، و مع أن أوصياء بعض الأنبياء السابقين، كانوا أنبياء بدورهم، الا أن النبوة في الاسلام، اختص بها الرسول الكريم صلي الله عليه و آله و سلم وحده، و لا مجال لأي أدعاء أو افتراء، بأن الوحي قد نزل علي غيره، و الا فهي ادعاءات باطلة يهدف منها تشويه سمعة أولئك الذين قبل انه نزل عليهم لاغير!!

و لم يرد الله - سبحانه - لعلمية الخلافة أن تكون عشوائية، و مبنية علي تصورات الانسان وحده، لم يكن يريدها من خلق هذا الانسان، و انما أرادها أن تكون مبنية علي ارادته و تصميمه هو، و هكذا بعث بسلسلة الرسل (البشر)، يحملون رسالته و منهجه الذي أراده علي هذه الأرض، لتنظيم عملية الاستخلاف. و من هنا كان ثبات الرسل، و اصرارهم علي تبليغ رسالات ربهم، مهما كانت الصعوبات و المشاكل فعلمهم علم يقيني لا لبس فيه و لا غموض، و هكذا صمدوا أمام كل الهجمات الشرسة لأعدائهم، و لم يتراجعوا و لم ينكلوا... و هكذا كانوا من أصلب الثوار علي


الساحة البشرية التي لم يصمد فيها كل الثوار الآخرين. فعصمة الأنبياء كانت بمشيئة الالهية جعلت منهم لا يرون أمامهم الا الذي بعثهم برسالته و الا طريقه و منهجه.

و لابد لمن يتولون مسؤولية قيادة نفس المعارك التي يخوضها هؤلاء الرسل، و يؤدون نفس الأدوار التي أدوها، أن يملكوا نفس الشعور العالي بالمسؤولية الذي امتلكوه، و لابد أن يكونوا علي درجة من العصمة تقيهم السقوط في زحمة المشاعر و التصرفات الانسانية المتضاربة، و لا يرون أمامهم الا المثل الأعلي الذي رآه أولئك الرسل، المثل الأعلي العالي الذي لا ينبع عن التصورات البشرية الأرضية المجردة، المثل الذي ينفصل عن هذه التصورات و يتفوق عليها بقدرته و واقعيته، و الذي تجلي وحيه للأنبياء كحقيقة واقعة مرئية واضحة، لا يرون أمامهم الا الله، و لا يتجهون الا اليه وحده، و لا يتعرفون الا بوحيه، و ان كان هذا الوحي لم ينزل علي الوصي، لكنه قد أتيحت له فرصة الاتصال بالنبي المرسل اتصالا واعيا واسعا لا يتاح لأي بشر عادي، و تزوده بكل ما زود هذا النبي من تسديد الهي يقيه العصمة و يمنعه من السقوط و الانحراف، و بقدر من العلم الالهي يجعله يدرك الأمور و ينظر اليها بمستوي عال من الادراك و الوعي لا يتسني للانسان العادي الذي تغمره همومه العادية اليومية و الذي لا تشكل (التطلعات) أو (التوجهات) الالهية، الا بعض تلك الهموم أو الهواجس اليومية العادية، و قد ينسي في غمرة الصراع علي الصالح و ربما علي الحياة، تلك التطلعات أو التوجهات، و قد تكون مجرد أمور دينية متلقاة، قد يقوم هو برسم بعض أشكالها وفق مصالحه و ظروف حياته، و يبرر كل خروج أو انحراف عنها بمبررات عديدة لا تمت الي الاسلام بأية صلة.

أما (المعصوم) فلا يري أمامه سوي الله و سوي الاسلام! سوي الشعور العالي بالمسؤولية الذي يتملكه و القيادة التي أوكلت اليه و الطريق الذي رسم له، كما أن له من الوعي و الفهم و المعرفة، ما يتيح له انتهاج الطريق الذي رسم له بدقة تامة، و عدم الخروج عنها مهما كانت الظروف و الأحوال، و مهما كانت الضغوط و الاغراءات التي قد يتعرض لها. و من هذا المنطق، و من هذا الفهم لشخصية المعصوم ينبغي لنا فهم كلمات الامام علي عليه السلام لنجد أنها لم تكن من باب زوج المديح لذاته - و ما كان بحاجة لذلك و قد مدحه و زكاه الله و رسوله - و لكنها كانت من باب التعريف بنفسه، و لم ير بأسا من القيام بهذا التعريف طالما أنه كان لا يخرج عن نطاق الحقيقة، و طالما كان ذلك ضروريا لنا، لنعرف مع من نتعامل و عمن نتكلم.


(.. و اني لعلي بينة من ربي و منهاج نبيي و اني لعلي الطريق الواضح ألقطه لقطا...) [1] .

(.. اني للمحق الذي يتبع و ان الكتاب لمعي ما فارقته مذ صحبته) [2] .

(.. اني معي لبصيرتي، ما لبست و لا لبس علي) [3] .

(.. انما مثلي بينكم مثل السراج في الظلمة يستضي ء به من ولجها) [4] .

(.. فلأنا بطرق السماء أعلم مني بطرق الأرض) [5] .

(.. و أنا من رسول الله كالصنو من الصنو و الذراع من العضد) [6] .

(.. ما شككت في الحق مذ أريته) [7] .

(.. اني ما رأيت شيئا الا و رأيت الله معه، و قبله، و بعده، و فيه...).

(قل الله ثم ذرهم) [8] .

(ما كذبت و لا كذبت و لا ضللت و لا ضل بي) [9] .

ان هذه الحقائق تتيح لنا أن نفهم سلوك المعصوم، و عدم استعداده للمساومة و الانحراف، و ربما رأي بعضنا، بتصوراتهم الأرضية المتدنية، أن لا بأس علي المعصوم من بعض (التنازلات) و (المناورات)، ثم يحقق بعد ذلك ما يريد بعد أن يتمكن، و قد فكر بعضنا بذلك، و حاول أن ينظر و يفلسف الأمور و يفسرها، و يتمني لو كان حاضرا بنفسه مع الامام ليشير) عليه ببعض آرائه بخصوص العديد من الأمور التي عرضت له.



پاورقي

[1] نهج‏البلاغة: 241.

[2] المصدر نفسه: 286.

[3] المصدر نفسه: 307.

[4] المصدر نفسه: 409.

[5] المصدر نفسه: 411.

[6] المصدر نفسه: 589.

[7] المصدر نفسه: 699.

[8] الأنعام: 91.

[9] نهج‏البلاغة: 700.