بازگشت

انسياق مع تضليلات معاوية


و لنستعرض وجها محددا للمسألة، لا نخلط فيه أوراق معاوية مع أوراق أبي بكر و عمر و عثمان، كما أراد هو نفسه و سعي اليه كاحدي التبريرات التي حاول أن يستند عليها لاثبات (أحقيته) في الخلافة دون علي، واضعا نفسه في ركب من سبقوه رغم الجميع، كما يفعل البعض الآن حينما تنطلي عليهم حيلة معاوية الماكرة جدا فيضعوه في ركب الخلفاء السابقين، فمعاوية ليس بالانسان الساذج الذي يقدم علي مصارعة علي دون أن يعد للأمر عدته، و يشهر السلاح المناسب من المكر و الدهاء و السياسة!

و لا نريد لهذه المسألة أن تأخذ حيزا كبيرا من هذا الكتاب، مع أننا لا نريد اهمالها لأن لها مساسا كبيرا بهذه الدراسة، و لأنها مسألة كبيرة، و التفرغ لها، و دراستها، علي أساس علمي موضوعي بعيد عن التحيز و العاطفة المجردة و التصورات المسبقة، أمر يستدعي قيام عدد من المتخصصين المعنيين لهذه المهمة التي يبدون أنها لم تنته لحد الآن و ربما تستمر لبعض الوقت علي طريقة الجدل البيزنطي الذي لا يؤدي الي نتيجة بأي حال من الأحوال.

فالبحث اذا يتخذ وجهتين في هذا المجال، و هو مجال (التنافس) علي خلافة المسلمين بعد وفاة رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم.

الوجهة الأولي: (المنافسة) بين أبي بكر و عمر و عثمان من جهة و بين علي من جهة أخري.

الوجهة الثانية: (المنافسة) بين معاوية و علي بعد ذلك.

و لكل من هاتين الوجهتين خصوصياتها و أسبابها و دوافعها. و لا يجب بأي حال من الأحوال - و من باب الأمانة التاريخية علي الأقل - دمجهما كمرحلة واحدة تتخذ نفس الاتجاه و لها نفس الأسباب و الدوافع، و الا كان ذلك جناية كبيرة علي الحقائق و الوقائع التاريخية و علي من تشملهم هذه الدراسة جميعا.

ان معاوية عمل علي اظهار كل (خلاف) معه و كل (منافسة) و كأنه خلاف و منافسة مع من سبقوه و أنه كان (مظلوما) و (مغبونا) كما كان من سبقوه أيضا. و أوحي بطريقة ماكرة بأنه يسير بسيرة الشيخين و أنه الي صفهما، محاولا استغلال هذه (المنزلة) التي وضع فيها نفسه بدهاء شديد خصوصا و أنه يعلم أنهما يتمتعان بمنزلة واسعة لدي فئات عديدة من المسلمين، و أراد بذلك أن يستميل هؤلاء و يحصل علي نفس المنزلة التي حصلا عليها الشيخان، و يضمن أن ينحاز اليه من انحاز اليهما ضد علي عليه السلام.

و هذا ما نجح فيه الي حد كبير؛ لقد أراد معاوية تصوير علي عليه السلام و كأنه محتج دائمي و رافض لكل (خليفة) (يجمع عليه المسلمون - ابتداء من أبي بكر و حتي معاوية نفسه، و ان الدافع الي ذلك (الحسد و البغي). و أراد التصوير المسألة لتبدو - حينما تمتد في المستقبل - و كأنها (حسد و بغي) من (أولاد و أحفاد) من حرم الخلافة، لأولاد من أصبح (خليفة) و أصبحوا هم (خلفاء) بعده.

و لا نحسبن أن معاوية و قد مهد لحكم يزيد، و ذلل له رقاب العرب علي حد تعبيره، كان سيغفل عن بعض التفاصيل المحتملة مثل رفض الحسين عليه السلام و غيره له، و قد بدا و كأنه كان يحتمل هذه المسائل علي ضوء معرفته بالحسين عليه السلام و يزيد علي السواء. و قد أخبرتنا وقائع التاريخ - كما سنري فيما بعد - أنه أعد للأمر عدته حتي بعد وفاته، و أوصي مولاه أن يظهر عهدا مكتوبا لعبيد الله بن زياد علي ولاية الكوفة اذا ما سار الحسين اليها.

كما أراد معاوية أن يتصور عليا كانسان خيالي غير واقعي أو (مثالي)، بمعني ابتعاده عن القيم (البشرية) العادية و المتدنية، و أن ما يطمح اليه لا يدخل ضمن الأمور


التي يمكن تحقيقها، و أنه قليل الحيلة و الدهاء، و أراد توظيف القيم المتدنية - بمختلف الحجج و الذرائع - ليحارب بها (القيم المثالية) التي دعا لها الامام، و هي علي أي حال قيم الاسلام نفسها، و هي ليست (مثالية) الا لأنها قيم عليا أراد الاسلام رفع جميع الناس اليها، و لم يرد لها أن تهبط الي المستوي البهيمي المنحط، لتأخذ بيد البشرية منذ البداية الي الطريق الالهي المعد من قبل الخالق القدير اعدادا متقنا منسجما بشكل تام مع الطبيعة البشرية السوية.

و سنتطرق - ان شاء الله - الي بعض الخطوات و الأساليب التي لجأ اليها معاوية بهذا الخصوص، و واظب عليها بجد و حماس للوصول الي غايته النهائية، و هي اخضاع الأمة كلها و جعلها تمتثل له امتثالا تاما، و جعل نفسه في مصاف أبي بكر و عمر و عثمان - مع أنه اعترف في بعض المناسبات بأنه لا يمكن أن يصل حتي الي مستوي عثمان... [1] و اظهار نفسه كمنافس مساو لعلي عليه السلام، بل و متفوقا عليه في بعض الأمور مثل السياسة و الدهاء، و تحميله مسؤولية قتل عثمان و السكوت عن قتلته، مع أن معاوية نفسه، كان أحد الذين مهدوا لقتل عثمان و كان أحد الأسباب التي مهدت لقتله - كما سنري بشكل لا يدعو للشك أبدا - فيما بعد.

و هذه مسألة تنطوي علي كثير من المكر، و علي الجميع أن ينتبهوا اليها، فمعاوية - علي أي حال، ليس كأبي بكر و عمر، و حتي ليس كعثمان - كما اعترف هو بذلك أنه معاوية فقط، مزيج خاص من عبقرية مدمرة انتهازية، لا تري الا مصالحها و لا تري سوي هذه الدنيا أمامها، و ليس في عمله ما يدل علي أنه يحسب حسابا لله أو للآخرة و المعاد و يوم الجزاء. ان توجهه أرضي بحت، لا يهتم بأية قيم سماوية أو دين قويم، حتي و لو كان هو الاسلام نفسه، الذي اتخذه ذريعة و غطاء يجمل و يزين به عرشه المزركش بشعارات الشرعية و الجماعة و وحدة الأمة.

و قد يهول هذا الكلام بعض الناس، و قد يعتبرونه قذفا بحق شخصية (اسلامية) واجهت الروم و وقفت بوجوههم...! و عملت علي توسيع (الفتوحات الاسلامية)، و حاربت الخوارج، و أرست دعائم الدولة العربية.


أما ما قامت به هذه (الشخصية) فعلا و ماذا كانت الدوافع لبعض اجراءاتها و تصرفاتها، فهذا الذي يعطيه هؤلاء أهمية ثانوية، و نري نحن ضرورة توضيحه. فهذه مباحث عديدة ليس من اليسير الاجابة عن التساؤلات التي قد ترد بشأنها، في صفحات معدودات. فهل نحن نتكلم عن وحدة عربية بمفهوم حزب قومي مثلا لنقول ان معاوية قد انتصر للعرب و عزز الوحدة العربية، أم أننا نتكلم عن (زعيم) للدولة الاسلامية الوحيدة في العالم؟

و علي أي حال، ان العودة الي هذه النقاط ستتيح لنا التحدث عنها باسهاب و وضوح، غير أننا سنتحدث بايجاز - كما قلنا - عن الأمر الأول الذي لم يكن معاوية طرفا مباشرا فيه، و هي مسألة الخلاف بين علي عليه السلام و من سبقوه علي لخلافة.


پاورقي

[1] فقد روي أن معاوية قال ليزيد (کيف تراک فاعلا ان وليت؟ قال: کنت و الله يا ابه عاملا فيهم عمل عمر بن الخطاب. فقال معاوية: سبحان الله يا بني. و الله لقد جهدت علي سيرة عثمان بن عفان فما أطقتها. فکيف بک و سيرة عمر؟) البداية و النهاية 233 - 8.