بازگشت

يهلك في رجلان


لا شك أن غبشا أو ضبابا قد أحاط بجو المسألة كلها؛ مسألة استخلاف أبي بكر و عمر بعد رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم دون علي، ثم استخلاف عثمان بعد ذلك من قبل مجلس للشوري رشح أعضاءه عمر، فمما لا شك فيه أن التاريخ لم يقص علينا الا الذي سمعه و سجله، أو الذي أريد اسماعه أو تسجيله بعد ذلك! اما ما لم يسمعه، و دار خلف الكواليس بعيدا عن سمعه و بصره - و هي أمور لابد أن تحصل؛ اذ لا يمكن أن يفصح كل انسان عن نواياه و دوافعه دائما بشكل علني، فلم يكن التاريخ معنيا بتسجيلها، اذ أنها أمور لا يعلمها الا أصحابها، و يعلمها الله وحده. و اذا فان مسائل الجزم بخصوص النوايا و الأفعال، لا يمكن أن تجعلنا نأخذ بها علي أساس التصور المجرد لحسن الظن أو سوء الظن بمن قام بها استنادا الي مواقف مسبقة متبناة، و متأثرة بمواقف قديمة للآباء و الأجداد، هذه هي المسألة ببساطة.

و هي مسألة دعا الامام علي عليه السلام نفسه الي عدم تبنيها أو الأخذ بها، و التحيز بدون وجه حق، و دون تدبر و تأمل:

(يهلك في رجلان: محب مفرط و باهت مفتر) [1] .

(هلك في رجلان: محب غال و مبغض قال) [2] .

(... و سيهلك في صنفان: محب مفرط يذهب به الحق الي غير الحق، و مبغض مفرط يذهب به البغض الي غير الحق.. و خير الناس في حالا النمط الأوسط فالزموه...) [3] .


و قد روي عن الشعبي أنه قال (كان علي بن أبي طالب عليه السلام في هذه الأمة مثل المسيح بن مريم في بني اسرائيل: أحبه قوم فكفروا في حبه، و أبغضه قوم فكفروا في بغضه) [4] .

فالموقفان المتطرفان المتناقضان، لا يخدمان حتي القضية التي يدعيان تبنيها و الانحياز اليها و هي قضية الاسلام.

ان الانحياز لعلي عليه السلام هكذا دون معرفته و دون فهم سيرته و مواقفه، أو الانحياز ضده، دون معرفة السبب الذي يدعو لذلك، لهو في الحالتين تجن صارخ عليه، انه عليه السلام يدعونا جميعا الي فهمه، و فهم موافقه و سيرته و موقعه الحقيقي من رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم، و أسباب احتلاله هذا الموقع. و حينذاك سيدرك الجميع أن سيرته لم تختلف عن سيرة الرسول الكريم، بل هي مشابهة و مكملة لها، هي سيرة الاسلام نفسه.

ان هذه المعرفة لا تنال بالتمني و بمجرد الرغبة في ذلك، بل لابد من البحث و الدرس و الاطلاع، و هو أمر لابد أن نأخذ أنفسنا عليه، ما دمنا طلابا للحقيقة أما تبني مواقف الآباء الذين هم شيعة لعلي يحبونه و يوالونه - و لابد أن العديدين منهم قد درسوا جوانب كثيرة من حياته و سيرته، أو أنهم كانوا من الذين نصبوا له العداوة، و ربما لم يعرفوا الا القليل عنه، و ربما القليل المشوه المزور، فهذا أمر نلمسه في واقعنا، ونري أنه هو الذي يعمل علي تشتيت أمرنا و افتراقنا و تثبيت سوء النوايا فيما بيننا... و الأمر نفسه ينبغي أن يكون مع كل شخصية اسلامية برزت علي ساحة الأحداث. لابد من دراسة و بحث دقيقين عن المواقف و الأعمال و التصرفات، و لابد من البحث عن الخلفيات التي كمنت خلفها، فبدون ذلك لا يمكن أن نلتقي، و سيبقي فراقنا دائميا، و ستبقي معارك الجدل، و ربما السيف، بيننا سجالا و أوارها مشتعلا، و ستظل الأمور و المواقف غير محسومة و غامضة و ضبابية، و سيجد من يريد تأجيج الخلاف و تعميقه مجالا رحبا، لا للنيل ممن يتبنون مختلف المذاهب


و المواقف، بل و النيل من الاسلام و كل المسلمين أنفسهم، و الأمثلة أمامنا أكثر من أن تعد أو تحصي. و قد شكلت احدي مشاكلنا الدائمية (المستعصية).

ان الخاسر الوحيد هم المسلمون، و انهم في عصر المواجهة هذا الذي يتقنع العدو فيه بأقنعة العلم و الموضوعية و الحداثة و التطور، و كأن هذه الأمور هي الغريبة فعلا عن الاسلام، و كأنها تتقاطع و تتعارض مع قيمه و تطلعاته الدائمية لقيادة الحياة و حل مشكلاتها و تناقضاتها المفتعلة. انهم في عصر المواجهة هذا الذي تتصارع فيه المصالح و القيم، و الذي يسفر فيه الأعداء عن وجههم القبيح و نواياهم المدمرة، بحاجة الي توجه موحد، أساسه الاسلام و كتابه العظيم، دون التحسس الدائم (بالعقد القديمة) و (الخلافات العقائدية...!) بخصوص بعض الأفكار و بعض مسائل التاريخ التي لم يتم الحوار فيها بجديد، ان لم يكن بتصور مسبق، أخذ طابع التعصب المذهبي البغيض رغم وضوح العديد من الأمور و الشواهد.


پاورقي

[1] نهج‏البلاغة ص 765 و 684.

[2] المصدر السابق.

[3] المصدر السابق: 296.

[4] العقد الفريد. ابن عبد ربه الأندلسي. مکتبة الرياض الحديثة / دار الفکر / تحقيق محمد سعيد العريان. ج 5 ص 59. و قد أخرج الحاکم ص 122 ج 3 من المستدرک عن رسول‏الله صلي الله عليه و آله و سلم (يا علي ان فيک من عيسي مثلا أبغضته اليهود حتي بهتوا أمه، و أحبه النصاري حتي أنزلوا بالمنزلة التي ليس لها) المراجعات: 208.