بازگشت

بين عقيلة أهل الوحي و أهل الجاهلية


و هنا ينبغي أن لا نقلب صفحات التاريخ بشكل الذي يثير حفيظة بعضنا علي بعض بخصوص (نشوء الخلاف) علي الخلافة بالطريقة التي أتاحت لمعاوية نفسه في


النهاية أن يبرر علي جلوسه علي كرسي الخلافة، و يجعل من نفسه (منافسا) لعلي عليه السلام، بل و أن يطمع فيها حتي عبيدالله بن زياد بن أبيه بعد وفاة يزيد [1] .

اننا لابد أن نستعرض - عند التطرق الي هذه النقطة الحساسة المهمة - طبيعة العقلية القرشية التي استسلمت لسلطان الدين الجديد، بعد أن كان سلطانها هو المهيمن و المسيطر علي الساحة، و لا نحسبن أنها رأت في محمد صلي الله عليه و آله و سلم منافسا لها و هو ابنها، بل أنها ربما فكرت في كيفية الافادة منه و توظيف دينه الجديد لمصلحتها، و استثمار علاقتها به.. و هي التي اشتهرت بعقيلتها التجارية و حساباتها المالية الدقيقة، لكي توسع من نفوذها و تجارتها و كسبها! لكنها لمست اتجاها في هذا الدين يمكن أن يعصف بكل قيمها و كياناتها الجاهلية (العريقة)؛ رأت فيه تعرضا سافرا و قويا لنمط حياتها المتحجر و القائم علي عبادة الأصنام الحجرية و البشرية علي السواء، و لم تلمس من ابنها النبي القرشي أي استعداد للمساومة في أداء رسالته - و قد عرضت عليه الملك و الجاه و المال ليتخلي عنها، و ربما عن الجزء الذي يمس مصالحها - و لم تلمس منه أي تحيز الي جانب قيمها الموروثة، و هي عشيرة و قومه.

كان نبض الرسالة القوي لا يتماشي مع دمائهم الراكدة الثقيلة. ان نبضه الدافق المتحفز الحي سيعصف بدمائهم الخاملة الضعيفة و من هنا خافوا الموت، و خافوا أن يساويهم الضعفاء من الناس بعد أن حسبوا أن الدنيا لم تكن لتستقيم دونهم و دون مالهم و تجارتهم و قوامتهم علي البيت الحرام و سقاية الحجيج و غيرها من مظاهر العظمة و النفوذ و الجاه التي التمسوها لأنفسهم و أضافوها لرصيدهم في النسب القرشي العالي!...

ان العقيلة الجاهلية في الجزيرة العربية، التي نشأت نتيجة تراكمات شعورية و سلوكية امتدت لمئات السنين، رغم بعض الاشعاعات التي أطلت منها في بعض


الأحيان، و رغم بعض مظاهر السلوك الايجابي المتمثل بالكرم و الشجاعة و النجدة و الفروسية و غيرها... لم تكن تستطيع هضم الاسلام كله، بعد أن جاءه بنظرة و تصور جديدين للحياة، تنسفان كل التصورات السابقة و تضعانها في زوايا النسيان... مع أن طريقة الاسلام لترسيخ تصوراته الجديدة اعتمدت الصعود التدريجي بالانسان الي قيم الاسلام، و تعاملت مع الواقعية البشرية، و لم تكن فيها أية لمسة يرفضها العقل البشري أو لا ينسجم معها.

ان أول العقليات التي رفضت التصورات و القيم الجاهلية، جملة و تفصيلا، هي عقيلة الرسول صلي الله عليه و آله و سلم نفسه، حتي قبل أن تنزل عليه الرسالة، ثم بعد أن أنزلت عليه، و تيقنها و علمها بشكل ثابت و أكيد، جعل سلوكه و كل مظاهر حياته تنسجم معها و تكون تكملة لها... و لابد أنه يحتاج الي من يؤازره في هذا الأمر، و يملك نفس يقينه، أو يقينا ثابتا علي الأقل، مبنيا علي القناعة و التصديق التام به و برسالته ليكمل مسيرته اذا ما توفي و اختفي من الساحة.

و من هنا كان اعداده الخاص لمن أراد أن يتولي المسؤولية بعده، و من هنا أيضا كان التصاقه به منذ الطفولة و حتي وفاته صلي الله عليه و آله و سلم... (و لم يكن ذلك دون سبب أن تفتحت عينا علي علي دنيا محمد صلي الله عليه و آله و سلم، و كانت مهمة النبي صلي الله عليه و آله و سلم تشمل قيامه باعداد الجماعة المؤمنة الأولي المتيقنة المتحمسة لهذا الدين، لتكون طليعة الناس و رائدة، غير أن مستوياتها لابد أن تختلف طبقا للفروق الفردية بينها أولا، و للاعمار و المدد السابقة التي عاشتها في زمن الجاهلية قبل أن تدخل الاسلام، فهذه لها أثرها في تعزيز القيم الجاهلية و يكون من الصعب انتزاعها أو استئصالها الا بعد مرور مدة طويلة، كما أن الأمر بالنسبة للشيوخ و الكبار يكون أصعب منه بالنسبة لصغار السن و الشباب.

و مهما أردنا أن نقول عن طبيعة الصلة الوثيقة بين الرسول صلي الله عليه و آله و سلم و وصيه عليه السلام، فان أول سبب موضوعي لذلك يعود الي الانسجام بين طبيعتيهما و نستطيع الوصول الي ذلك بدراسة الشخصيتين الكريمتين دراسة موضوعية غير متحيزة، و بعرضهما علي القرآن الكريم، نجد أنهما شريكا القرآن حقا، و أن سلوكهما و عملهما، يشكل طريقا ممتدا متكاملا معه.

ان الدراسة الواعية المبنية علي أعلي الدرجات من الفهم و التعمق، و استعراض مختلف جوانب الشخصيتين الكريمتين، تبين لنا أن اختيار الوصي لم يكن عبثا، و لم يكن بدافع عن عاطفة قرابة حميمة أو رحم قريب، و الا فقد كان للنبي أقرباء عديدون،


ان لم يصلوا الي مستوي علي عليه السلام، فهم كانوا يتفوقون علي غيرهم، ممن جلس علي كرسي الخلافة فيما بعد بكل المواصفات و المؤهلات المطلوبة. فلماذا لم يختر أحدهم للمهمة التي اختار لها عليا و قربه منه، و أخذ علي عاتقه مهمة تربيته و اعداده ليكون نموذجا مشابها له و نسخة منه؟


پاورقي

[1] فقد ذکر الطبري أن عبيدالله بن زياد حين مات يزيد بن معاوية، قام خطيبا في أهل البصرة و حاول استمالتهم بقوله (فوالله لتجدن مهاجر والدي و مولدي فيکم، و داري... و ان أميرالمؤمنين يزيد بن معاوية قد توفي، و قد اختلف أهل الشام... و أنتم اليوم أکثر الناس عددا... فاختاروا لأنفسکم رجلا ترتضونه لدينکم و جماعتکم...)... ثم... (... بسط يده فبايعوه، ثم انصرفوا بعد البيعة و هم يقولون: لا يظن ابن مرجانة أنا نستقاد له في الجماعة و الفرقة، کذب و الله! ثم وثبوا عليه.) الطبري م 365 - 364 - 3.