بازگشت

الماتم الحسينية


لقد كانت العشرة الاولي من شهر المحرم ولا تزال مأتما سنويا للأحزان والآلام عند الشيعة منذ مجزرة كربلاء التي كان علي رأس ضحاياها الحسين بن علي سبط الرسول وسيد شباب اهل الجنة في اليوم العاشر من المحرم سنة احدي وستين للهجرة فكان الشيعة ولا يزالون في مختلف انحاء دنيا الإسلام يجتمعون في مجالسهم وندواتهم يرددون مواقف اهل البيت وتضحياتهم في سبيل الحق والعدالة وكرامة الإنسان التي داستها أمية بأقدامها، وما حل بهم من أحفاد أمية وجلاديهم من القتل والسبي والتشريد والاستخفاف بجدهم الاعظم الذي بعثة الله رحمة للعالمين.

هذه الذكريات الغنية بالقيم والمثل العليا والتي تعلمنا كيف نعيش احرارا وكيف نموت في مملكة الجلادين سعداء منتصرين لو ادركنا اهداف تلك الثورة وأحسنا استغلالها هذه الذكريات قد اقترنت كما يبدو بعد الاحصاء الدقيق لتاريخها بتلك المجزرة الرهيبة التي ايقظت المسلمين علي اختلاف فئاتهم وانتماءاتهم ونزعاتهم، وأدركوا بعدها ان كرامة الاسلام والمسلمين قد اصبحت بسبب تخاذلهم تحت أقدام الأمويين وفراعنة العصور، فاستولي عليهم الخوف والندم لتقصيرهم في نصرته وتخاذلهم عن دعواتهم ففريق وجدوا ان التكفير عن تخاذلهم لا يكون الا بالثورة والثأر له من اولئك الطغاة وآخرون سيطر عليهم الخوف فخلدوا الي الهدوء ينتظرون الظروف المناسبة ولكن ذلك لم يكن ليمنعهم عن الاحتفال بذكراه كلما هلّ شهر المحرم من كل عام واستبدال جميع مظاهرهم بمظاهر الحزن والاسف وتريد الاحداث التي رافقت تلك المجزرة من تمثيل بالضحايا وأسر وسبي وما الي ذلك من الجرائم التي لم يعرف المسلمون لها نظير في تاريخ المعارك والعزوات قبل ذلك اليوم.

ومما يشير الي ان المآتم الحسينية يقترن تاريخها بتلك المجزرة ما جاء في تاريخ العراق في ظل العهد الاموي للدكتور علي الخرطبولي ان بيعة ابي العباس السفاح بدأت في الكوفة وشاء لها القدر ان تتم لابي العباس كأول خليفة من خلفاء تلك الاسرة في عيد الشيعة الاكبر وهو يوم عاشوراء العاشر من المحرم سنة 132 وفي نفس الوقت الذي كان الشيعة يحتفلون فيه بذكري الحسين بن علي (ع) [1] .

ومعلوم ان كلمة عيد الشيعة الاكبر يوم العاشر من المحرم تشير الي ان الشيعة كانوا معتادين من زمن بعيد علي الاحتفال بذكري الحسين (ع) في ذلك اليوم من كل عام وانه كان من اعظم المناسبات التي اعتادوا فيها ان يندبوا الحسين ويبكونه ويرددون مواقفه وتضحياته من اجل الحق والمبدأ والعدالة التي تمكن كل انسان من حقه وتحفظ له كرامته وحريته.

وكما اتخذ الشيعة وأهل البيت تلك الايام ايام حزن وأسف وبكاء علي ما جري للحسين وأسرته من قتل وأسر وسبي اتخذها غيرهم من الاعياد يتبادلون فيها التهاني والزيارات ويتباهون بكل مظاهر الفرح والسرور في ملابسهم وندواتهم ومآكلهم وما الي ذلك من مظاهر الفرح تحديا لشعور الشيعة واستخفافا بأهل بيت نبيهم الذين فرض الله ولاءهم علي كل من آمن بمحمد ورسالته.

وجاء في ص 202 من البداية والنهاية لابن كثير المجلد الثامن ان النواصب من اهل الشام لقد عاكسوا الرافضة والشيعة فكانوا في يوم عاشوراء يطبخون الحبوب ويغتسلون ويتطيبون ويلبسون افخر ثيابهم ويتخذون ذلك اليوم عيدا يصنعون فيه انواع الاطعمة ويظهرون الفرح والسرور فرحا بقتله لانه حاول ان يفرق كلمة المسلمين بعد اجتماعها علي حد تعبيره.

ولا يزال المسلمون في اهل السنة يعتبرون اول يوم من المحرم عيدا اسلاميا يتبادلون فيه التهاني والزيارات ويصرفون اكثر ساعاته في نوادي اللهو والطرب والحفلات ويسمونه بعيد الهجرة مع العلم بأن هجرة النبي من مكة الي المدينة كانت في السادس من ربيع الاول وفي الثاني عشر منه دخل المدينة ونزل ضيفاً علي ابي ايوب الانصاري.

ومهما كان الحال فلقد رافقت هذه الذكري في اوساط الشيعة مصرع الحسين (ع) وكان الائمة يحرصون علي تخليدها واستمرارها لتكون حافزا للاجيال علي مقاومة الظلم والطغيان والاستهانة بالحياة مع الظالمين تقودهم بمعانيها السامية الخيرة للتضحية والبذل بسخاء في سبيل المبدأ والعقيدة.

لقد دخل الامام علي بن الحسين زين العابدين الي المدينة بعد ان أطلق سراحه وسراح عماته وأخواته يزيد بن معاوية وهو يبكي أباه وأهله واخوته وظل لفترة طويلة من الزمن يبكيهم حتي عده الناس من البكائين، وكان عندما يساله سائل عن كثرة بكائه يقول: لا تلوموني فان يعقوب النبي فقد ولدا من اولاده فبكي عليه حتي ابيضت عيناه من الحزن وهو حي في دار الدنيا، وقد نظرت الي عشرين رجلا من اهل بيتي علي رمال كربلاء مجزرين كالاضاحي أفترون حزنهم يذهب من قبلي.

وروي الرواة عن الإمام الصادق (ع) انه قال ما وضع بين يدي جدي علي بن الحسين طعام الا وبكي بكاء شديدا وان احد مواليه قال له: جعلت فداك اني اخاف عليك ان تكون من الهالكين، فقال: انما اشكو ثبتي وحزني الي الله وأعلم من الله ما لا تعلمون اني لم اذكر مصارع بني فاطمة إلي وخنقتني العبرة.

وأحيانا كان الإمام السجاد يطلب المناسبة ويخلقها احيانا ليحدث الناس بما جري للحسين وأهل بيته فيذهب الي سوق القصابين في المدينة ليسألهم عما اذا كانوا يسقون الشاة قبل ذبحها وانه ليعلم انهم يفعلون ذلك لانه من السنن المأثورة ولكنه يريد ان يحدثهم عما جري لابيه ليبعث في نفوسهم النقمة علي الظلم والظالمين، فيقول لهم: لقد ذبح ابو عبدالله عطشانا كما تذبح الشاة فيجتمعون عليه ويبكون لبكائه، وكان اذا رأي غريباً دعاه إلي بيته لضيافته ثم يقول: لقد ذبح ابو عبدالله غريباً جائعاً، واستمر طيلة حياته حزيناً كئيباً، وهكذا كان غيره من الائمة يحرصون علي بقاء تلك الذكري حية في نفوس الاجيال خالدة خلود الدهر لانها لا تنفصل بمعانيها السامية عن اهداف الاسلام العليا ومقاصده الكريمة.

وقال الإمام الصادق (ع) لجماعة من اصحابه دخلوا عليه في اليوم العاشر: أتجتمعون وتتحدثون؟ فقالوا: نعم يا ابن رسول الله، فقال: أتذكرون ما صنع بجدي الحسين لقد ذبح والله كما يذبح الكبش وقتل معه عشرون شابا من اهله وبنيه واخوته ما لهم علي وجه الأرض من مثيل.

وروي عنه معاوية بن وهب وقد دخل عليه في اليوم العاشر من المحرم فرآه حزينا كاسف اللون وهو يدعو ويقول: الله يا من خصنا بالكرامة ارحم تلك الوجوه التي غيرتها الشمس وارحم تلك الخدود التي تقلبت علي قبر ابي عبدالله الحسين وارحم تلك الصرخة التي كانت لأجله، ومضي يقول في دعائه لزوار الحسين والباكين عليه كما جاء في رواية ابن وهب: اللهم ارحم تلك الأنفس والابدان حتي توفيهم علي الحوض يوم العطش الاكبر، ولما استغرب معاوية بن وهب ما رآه من بكاء الإمام ومن دعواته لزوار قبر ابي عبدالله والباكين عليه، قال له: يا ابن وهب ان من يدعو لزوار قبر الحسين والباكين لما اصابه في السماء اكثر ممن يدعون لهم في الأرض، ودعاء الاماء لزوار قبر الحسين يشير إلي ان الشيعة كانوا يتوافدون لزيارته من ذلك التاريخ.

ودخل جعفر بن عفان عليه فقال له: بلغني انك تقول الشعر في الحسين وتجيده فأنشدني من شعرك فيه، ثم قام وأجلس نساءه خلف الستر فلما قرأ عليه من شعره في الحسين جعل يبكي وارتفع الصراخ والعويل من داخل الدار حتي ازدحم الناس علي باب الدار مخافة ان يكون قد حدث فيها حادث فلما وقف الناس علي واقع الأمر تعالي الصراخ من كل جانب ثم قال له: لقد شهدت ملائكة الله المقربون قولك في الحسين وبكوا كما بكينا.

وكان جعفر بن عفان من شعراء اهل البيت، وله مواقف مع ابن ابي حفصة شاعر العباسيين الذي كان يتملق اليهم بانتقاص العلويين، وهجائهم ومن قصائده التي كان يتملق بها للعباسيين قوله في ابيات يخاطب لها العلويين:



خلو الطريق لمعشر عاداتهم

حـــطم المناكب كل يوم زحام



ارضوا بما قسم الاله لكم به

ودعـــوا وراثة كل اصيد حام



اني يكون وليــس ذلك بكائن

بنـــي البــنات وراثـة الاعمام



فرد عليه جعفر بن عفان بقوله:



لــــــم لا يـــكــون وان ذاك لكــــائن

لبـــــنـي البــــنــات وراثـة الاعمـام



للبنـــت نـصـــــــف كـامل مـن مالـه

والعــم متـــــروك بغــــيـر سهــــــام



مـا للطـــــليـــــق وللتــــراث وانمــا

صلي الطليق مخافة الصمصام [2] .



وكان الامام الرضا (ع) يجلس للعزاء في العشرة الاولي من شهر المحرم ولا يري ضاحكا قط، كما كانت مظاهر الحزن والاسف تستولي علي الائمة الاطهار وأصحابهم وتبدو ظاهرة في بيوتهم ومجالسهم ويقولون لمن يحضر مجالسهم من الخاصة والعامة: قولوا متي ما ذكرتم الحسن وأصحابه: يا ليتنا كنا معك فنفوز فوزاً عظيماً، انهم كانوا يريدون من اصحابهم وشيعتهم وجميع المسلمين ان يكونوا مع الحسين وأصحاب الحسين العاملين بمبادئ القرآن وسنن الانبياء والمصلحين العاملين لخير الانسان في كل زمان ومكان بأرواحهم وعزيمتهم وقلوبهم، وبقاء هذه الذكري خالدة خلود الانسان وأن يشحنوا النفوس بالنقمة علي الظالمين وفرانة العصور الذين يتحكمون بكرامة الانسان وخيرات الارض التي اوجدها الله لأهل الأرض لا للحاكمين والجلادين.

ويريدون منهم ان يكونوا في كل زمان ومكان ثورة عارمة علي من يحمل روح يزيد وجلاديه ولا يختلف عنهما الا بالإسم ويضحوا بأنفسهم من اجل الحق والعدل كما ضحي الحسين وأصحابه في ثورته علي يزيد زمانه، لقد ارادوا منهم ذلك صراحة تارة وتلميحا اخري كما يبدو ذلك من حثهم وترغيبهم علي زيارة الحسين وتحمل المشاق وان عظمت في سبيلها لتبقي مواقفه وتضحياته ماثلة لدي الاجيال تتخذ منها دروساً في الجهاد والتضحيات في سبيل العقيدة والمبدأ.

انهم كانوا يحثون ويرغبون في زيارته في اكثر من فصل من فصول السنة لان الزائر عندما يقف امام ضريحه الطاهر اذا كان مدركا لواقعه لابد وأن يتصور موقف الحسين وحيدا في مقابل تلك الحشود التي اجتمعت لقتاله غير هياب ولا وجل يدافع ويناضل عن شريعة جده وكرامة الانسان بعزيمة أثبت من الجبال الرواسي كما وصفها بعض شعراء الطف بقوله:



من تحتهم لو تزول الارض لا تنصبوا

علي الهوي هضبا ارسي من الهضب



هذه الخواطر التي تعترض زائر الحسين لا بد وأن تحدث في نفسه نقمة علي الظلم والظالمين وتدفعه علي الصمود في الشدائد والأهوال وتؤكد صلاته بأهل هذا البيت الذين يجسدون الإسلام فكراً وقولا وعملا، هذا بالإضافة الي ان الزائر يعاهد الله ورسله وملائكته بالمضي علي خطا الحسين وآبائه وأبنائه ومتابعتهم في القول والعمل ومواقفهم من الظالمين حينما يقف علي ضريحه ويخاطبه بقوله: وأشهد الله وملائكته ورسله اني سلم لمن سالمكم وحرب لمن حاربكم وولي لمن والاكم وعدو لمن عاداكم واني بكم مؤمن ولكم تابع في ذات نفسي وشرائع ديني وخواتيم عملي في منقلبي ومثواي.

ان هذا التأكيد من الائمة الاطهار علي زيارة الحسين (ع) والترغيب المغري بها في عدد من المواسم خلال كل عام لم يصدر منهم بالنسبة لزيارة غيره من الائمة ولا لزيارة من هو اعظم منه كجده المصطفي وأبيه المرتضي في حين ان كل واحد منهم كل يجسد الإسلام بجميع فصوله وخطوطه في اقواله وأفعاله وقد وهب حياته لله ولخير الناس اجمعين وهانت عنده الدنيا بكل ما فيها من متع ونعيم مغريات. ان ذلك لم يكن إلا لأن شهادة الحسين (ع) بما رافقها من الجرائم والفظائع تثير الاحاسيس وتحرك الضمائر الهامدة وتحث علي مقارعة الظلم والصبر في الشدائد والأهوال في سبيل المبدأ والعقيدة ولأجل ما رافقها من تلك الاحداث القاسية التي لم يسجل التاريخ لها نظيراً فقد اتخذها الائمة (ع) وسيلة لاثارة العواطف والهاب المشاعر وبعث الروح النضالية في نفوس الجماهير المسلمة لتكون مهيأة للثورة علي الظلمة والجبابرة في كل ارض وزمان وفي الوقت ذاته فان تلك المآتم والذكريات تكشف عن طبيعة القوي التي تناهض اهل البيت وتناصبهم العداء ومدي بعدها عن الإسلام، وتبين في الوقت ذاته ان جوهر الصراع بينهم وبين الحاكمين ليس ذاتيا ولا مصلحيا كما جرت العادة عليه في الصراعات بين الناس بل هو من اجل الإسلام وتعاليم الإسلام والجور الذي اصاب الناس.

لقد كان موقف الائمة (ع) من تلك المآتم والحث عليها والترغيب بها منذ قتل الحسين (ع) من جملة الدوافع التي جعلت الشيعة يلتزمون بها بدون انقطاع في كل بلد حلوا فيه بالرغم مما كانوا يتعرضون له من الحاكمين وأعداء اهل البيت من التنديد والتنكيل والسخرية ومع كل ما قام به الحاكمون من جور وارهاب فلم يفلحوا في كبح ذلك التيار الشيعي الجارف الذي بقي يتعاظم باستمرار مع الزمن وبقي في تصاعد مستمر حتي في عهد العباسيين الذين وصلوا الي الحكم علي حساب العلويين كما تؤكد ذلك عشرات الشواهد ومع ذلك فقد كانوا عليهم أشد من الأمويين وحاربوهم علي جميع الجبهات وتعرضوا في عهودهم لأسوأ انواع العسف والجور والتشريد.

فلقد قال المنصور العباسي عندما عزم علي قتل الإمام الصادق: قتلت من ولد فاطمة الفا او يزيدون وتركت إمامهم وسيدهم جعفر بن محمد كما جاء في شرح ميمية ابي فراس والادب في ظل التشيع [3] .

وترك لخليفته المهدي ميراثا من رؤوس العلويين كان قد وضعها في غرفة من غرف قصره ودفع مفاتيحا لزوجة خليفته ريطة وأوصاها بأن لا تفتحها إلا هي وزوجها بعد وفاته فأيقنت انها مملوءة من التحف والأموال، ولما توفي فتحها المهدي هو وزوجته ليلا فوجدها مملوءة من رؤوس العلويين بينها رؤوس شيوخ وأطفال وشبان وفي كل رأس رقعة باسمه ونسبه [4] .

وهو القائل لعمه عبد الصمد بن علي عندما لامه علي تسرعه في القتل والعقوبات ان بني مروان لم تبلي رممهم وآل ابي طالب لم تغمد سيوفهم ونحن بين قوم رأونا بالأمس سوقة واليوم خلفاء ولا نستطيع ان نبسط هيبتنا الا بنسيان العفو واستعمال العقوبة.

لقد وصل المنصور الي الحكم علي حساب آل ابي طالب كما ذكرنا وبعد ان استتبت له الأمور قتل منهم الفا او يزيدون ووضع السيف في رقابهم لا لشيء الا لانه يخاف منهم علي هيبته وسلطانه والخوف وحده يبرر له ويغره من الحاكمين قتل الملايين من البشر في كل عصر وزمان وفي الوقت ذاته يتغنون بالحرية والديمقراطية والسلام وما الي ذلك من الشعارات كما كان العباسيون والامويون يتسترون بالإسلام ورسالة الاسلام ويتقربون من الوعاظ وشيوخ السوء ليصنعوا لهم المبررات لجرائمهم.

وجاء في مناقب ابن شهر اشوب ان المنصور قال للإمام الصادق (ع): لاقتلنك ولأقتلن اهلك حتي لا ابقي علي الأرض منكم قامة سوط ولقد هم بقتله اكثر من مرة وكان يستعين عليه بالله وحده فأنجاه الله من شره.

ويدعي عبد الجواد الكليدار آل طعمة في كتابه تاريخ كربلاء أنه اول من تجرأ علي قبر الحسين وهدمه عندما رأي الشيعة يتوافدون الي زيارته ويرددون تلك المأساة الدامية التي حلت بأهل البيت.

وجاء في مروج الذهب للمسعودي انه جلس يوما مع المسيب بن زهرة وكان من أعوانه وجلاديه فذكر الحجاج بن يوسف ووفاءه للمروانيين في معرض التعريض والتنديد بأعوانه ففهم المسيب غايته فقال له المسيب: يا امير المؤمنين والله ان الحجاج لم يسبقنا الي امر من الأمور، ولم يخلق الله علي وجه الأرض احدا أحب الينا من نبينا محمد ابن عبدالله (ص) ومع ذلك فقد أمرتنا بقتل اولاده وعترته فأطعناك وقتلناهم فهل كان الحجاج أنصح لبني مروان منا لك، فسكت المنصور ولم يرد عليه.

وروي الرواة عن اساليب تعذيبه للعلويين انه كان يضع العلويين في الاسطوانات ويسمرهم في الحيطان وأحيانا يضعهم في سجن مظلم ويتركهم يموتون جوعا ويترك الموتي بين الاحياء فتقتلهم الروائح الكريهة ثم يهدم السجن علي الجميع كما جاء في تاريخ اليعقوبي. ولقد فر ابو القاسم الرسي بن ابراهيم بن طباطبا المعروف باسماعيل الديباج الي بلاد السند خوفا من المنصور وقال كما جاء عنه:



لم يروه مـا اراق البغي مـن دمـــنا

فـي كل ارض فلم يقصر مـن الطلب



وليس يشفي غليلا في حشاه سوي

ان لا يـري فـوقها ابــــنـا لـبنت نبي



وحكم المسلمين من بعده ولده المدي بنفس الروح اللئيمة الحاقدة علي العلويين وصلحاء المسلمين وخفت في عهده حدة القتل الجماعي للعلويين وشيعتهم ومطاردتهم ولكنه سخر جماعة من أعوانه ومرتزقته لانتحال صفة الزندقة لكل من يناوئه من العلويين وشيعتهم، وأصبح الاتهام بالزندقة من أيسر التهم التي تلصق بالابرياء كما جاء في التاريخ الاسلامي والحضارة الاسلامية.

وقال عبد الرحمن بدوي: ان الاتهام بالزندقة في ذلك العصر كان يسير جنبا الي جنب مع الانتساب الي مذهب الرافضة وفي ذلك يقول الطغرائي من جملة أبات له:



ومتي تولي آل احمد مسلم

قتــــلـوه ووصموه بـالالحاد



ولما جاء دور خليفته الهادي العباسي سلط علي العلويين جلاديه وجلاوزته فألحوا في طلبهم ومطاردتهم وقطع ارزاقهم وأعطياتهم وكتب الي سائر المقاطعات الاسلامية يهدد ويتوعد كل من يأويهم ويحسن اليهم وكانت معركة فخ التي قتل فيها اكثر من مائة وخمسين من رجال العلويين ونسائهم وأطفالهم بسبب ما لحقهم من الاضطهاد يومذاك وتولي قيادتها الحسين بن علي بن الحسن بن علي بن أبي طالب (ع)، وكان موسي الهادي قد استخلف علي المدينة اسحاق بن عيسي فأوعز اسحاق الي رجل من ولد عمر بن الخطاب يعرف بعبد العزيز بن عبدالله فحمل علي الطالبيين وأفرط في التحامل عليهم ومضايقتهم فاجتمع علي الحسين بن علي صاحب فخ جماعة من الشيعة فخرج بهم وكانت المعركة في القرب من مكة وفي المكان المعروف بفخ وقتل الحسين ومن معه من العلويين وشيعتهم وحملت رؤوسهم الي موسي الهادي، ولما بلغ العمري والي المدينة ما جري للحسين بن علي قائد معركة فخ امر بعده داره ودور الطالبيين وصادر اموالهم وممتلكاتهم.

وجاء في مقاتل الطالبيين للإصفهاني ان النبي (ص) مر بفخ فنزل وصلي ركعتين وقبل ان ينتهي منهما بكي وهو في صلاته فلما رآه المسلمون بكوا لبكائه ولما سألوه عن سبب بكائه قال: نزل عليّ جبريل لما صليت الركعة الاولي وقال: يا محمد ان رجلا من ولدك يقتل في هذ المكان وأجر الشهيد معه أجر شهيدي، فبكيت لما يجري علي ذريتي من بعدي [5] .

ولما جاء دور الرشيد الخليفة العباسي الخامس مثل أسوأ الادوار معهم وأقسم كما جاء في الاغاني طبع دار الكتب بالقاهرة علي استئصالهم وكل من يتشيع لهم وقال: حتام اصبر علي آل ابي طالب والله لأقتلنهم وأقتل شيعتهم أينما حلوا وأمر بأخراجهم من بغداد الي المدينة وأمر واليه عليها ان يأخذ الضمانات منهم ويتعهد بعضهم ببعض وعندما ارسل الجلودي لحرب محمد بن جعفر بن محمد أمره ان يغير علي دور آل ابي طالب ويسلب ما علي نسائهم من الثياب ولا يترك لكل واحدة منهن الا ثوبا واحدا يسترها.

ولم يكتب بذلك حتي هدم قبر الحسين وقطع السدرة الكبيرة التي كانث الي جانبه لا لشيء الا لان زوار قبر الحسين (ع) كانوا يستظلون تحتها من حرارة لشمس، وقد تولي له تنفيذ هذه المهمة موسي بن عيسي ابن موسي العباسي [6] .

وتوج موبقاته كلها بحبس الامام موسي بن جعفر (ع) وأخيراً بقتله بالسم بواسطة جلاديه وجلاوزته وفي عهده امتلأت سجونه من العلويين وشيعتهم وكل من يتهم بالتشيع لهم علي حد تعبير احمد امين في المجلد الثالث من ضحي الاسلام.

واشتهر المتوكل بعدائه الشديد للعلويين، فقد جاء في تاريخ ابن الاثير وهو يستعرض حوادث سنة 236 ان المتوكل العباسي كان شديد البغض والكراهة لعلي وآل علي واذا بلغه ان احدا يتولي عليا وآل علي صادر أمواله وقتله وأضاف الي ذلك انه كتب الي واليه في مصر يأمره باخراج آل ابي طالب منها وطردهم الي العراق وكانوا في مصر يرددون في مجالسهم ما صنعه الامويون مع الحسين وأسرته واصحابه ويبكون لما اصابهم فأخرجهم الوالي منها واستتر اكثر من كان فيها من شيعة اهل البيت، كما استعمل علي المدينة ومكة المكرمة عمر بن الفرج الرجحي فمنع من البر بآل ابي طالب كما منع العلويين من التعرض للناس والاتصال بأحد، ولم يبلغه عن احد بر علويا الا أنهكه عقوبة وأثقله عزما فساءت حالة العلويين واضطر نساؤهم الي التزام بيوتهن عاريات يتبادلن القميص المرقع في الصلاة الواحدة تلو الاخري ويجلسن عاريات علي منازلهن لكي يشترين ما يسد رمقهن من خبز الشعير بأثمان غزلهن.

لقد قضت مشيئة خليفة المسلمين العباسي في نسبه الاموي الحاقد في روحه ومشاعره ان تعتكف العلويات الطاهرات في بيوتهن عاريات يتبادلن القميص المرقع اذا حضرت اوقات الصلاة، ثم يجلسن علي مغازلهن عاريات ليشترين بأثمان غزلهن ما يسد رمقهن من الخبز، وأن تختال نساؤهم وجواريهم الفاجرات الراقصات بالحلي وحلل الحرير والديباج بين الغلمان والسكاري من حواشي الخليفة، ويجلسن علي موائد الطعام المؤلفة من جميع المأكولات والخمور وأهل البيت ونساؤهم وأطفالهم يتلوون من آلام الجوع أذلاء صاغرين، وكان يقرب اليه كل من يكره علياً امير المؤمنين كعلي بن الجهم وأمثاله ممن كانوا يشتمون عليا (ع) ونظرا لان أباه الجهم بن بدر كان من الموالين لعلي قال بعض شعراء الشيعة في علي بن الجهم:



لعمرك ليس الجهم بن بدر بشاعر

وهـذا عـــلـــي ابنـه يـدعي الشعرا



ولكن ابي قـد كـــــــان جـاراً لأمـه

فلــمـا ادعي الاشعار أوهمني امرا



يشير بهذين البيتين الي الحديث الشائع عن النبي (ص) انه قال لعلي (ع) بحضور جماعة من المهاجرين والانصار: يا علي لا ينغصك الا ابن حيض او زنا.

وكان ابن السكيت من كبار العلماء والادباء في زمانه وقد ألزمه المتوكل بتعليم ولديه المعتز والمؤيد، فقال له يوما: أيهما أحب اليك ابناي هذان او الحسن والحسين؟ فرد عليه ابن السكين بقوله: والله ان قنبرا خادم الحسن والحسين أحب الي منك ومن ولديك فأوعز المتوكل الي جلاديه من الاتراك ان يستخرجوا لسانه من قفاه ففعلوا به ذلك ومات من ساعته وكان يقول:



يصـــــاب الفــــتي مـن عثـرة بلسانه

وليس يصاب المرة من عثرة الرجل



فعـــــثرتـه فـي القــــول تذهب رأسه

وعــــثـرته في الرجل تبرأ علي مهل



لقد نسي رحمه الله هذين البيتين اللذين كان يرددهما وكأنه كان يعني نفسه بهما، لقد سيطر عليه الولاء لأهل البيت واستفزه استخفاف المتوكل بهم فأبت له نفسه الكبيرة ان يتقيه ويقول ما لا يؤمن به فذهب في قافلة الشهداء ولعله كان من أفاضلهم بمقتضي قول النبي (ص) أفضل الشهداء عمي الحمزة ورجل قال كلمة حق في وجه جائر فقتله.

لم يكتف المتوكل بالتنكيل بشيعة اهل البيت ومطاردتهم فأراد ان يمنعهم عن زيارة الحسين ففرض عليهم الضرائب وهددهم وتوعدهم بالقتل ومصادرة اموالهم وممتلكاتهم فلم يخضعوا لتهديده ولا لوعيده واستمرت وفود الشيعة علي كربلاء في تصاعد مسترم يكمنون بالنهار ويسيرون ليلا ولما لم يجد سبيلا لاستئصال هذه الظاهرة الشيعية اتخذ قار بهدم القبر وازالة معالمه ليضيع مكانه ولا يهتدون اليه ويأبي الله الا ان يتم نورة ولو كره المشركون.

لقد اراد معاوية من قبله ان لا يتحدث احد فضل علي وآثاره فكتب الي عماله في جميع المقاطعات الاسلامية برئت الذمة ممن يروي حديثا في فضل عليّ وآل علي وممن يذكرهم بخير، وكتب المتوكل الهاشمي وابن عم العلويين الي عماله برئت الذمة ممن يبر العلويين ويحسن الي احد منهم، وقتل معاوية الحسن بن علي والمئات من صلحاء المسلمين لانهم لم يعلنوا براءتهم من علي وآل علي، وكذلك فعل المتوكل وأسلافه من أحفاد هاشم وعبد المطلب، وقتل يزيد بن معاوية الحسن بن علي وعشرين شابا من أحفاد ابي طالب، وقال المنصور العباسي حفيد عبد المطلب: قتلت من ولد فاطمة الفا او يزيدون وترك لولده المهدي غرفة من غرف قصره مملوءة برؤوسهم ومع كل رأس رقعة باسمه ونسبه ليقتدي به خليفته من بعده [7] وهدم المتوكل قبر امير المؤمنين وقبر الحسين حتي لا يهتدي اليهما احد من الشيعة ويذهب لزيارتهما، ولكن طيب تراب القبر دل علي القبر.

فكان معاوية بمحاولته الفاشلة اخفاء فضائل امير المؤمنين كأنه يأخذ بضبعه الي السماء علي حد تعبير الشعبي وعبدالله بن عروة بن الزبير لولديهما، وكان المتوكل بمحاولاته لاخفاء قبر الحسين (ع) انه يجعله من الابراج التي تناطح السحاب وتثير أحقاد الحاكمين من حكام العصور.

ونعود بعد هذه اللمحات القصار عن مواقف العباسيين من العلويين الي الحديث عن مرقد الحسين لنعود إلي اعطاء صورة اوسع عن جور العباسيين بعد الفراغ من هذا الفصل الذي خصصناه للمآتم الحسينية وزيارة مرقده، وما دمنا بصدد الحديث من المآتم الحسينية وزيارة مرقد الحسين نعود لأبي الفرج الاصفهاني لنري ما فعله المتوكل بقبر الحسين ومع زائريه، فقد جاء في مقاتل الطالبيين ان المتوكل الهاشمي كان شديد الوطأة علي آل ابي طالب غليظاً علي جماعتهم وشديد الحقد والغيظ عليهم وكان وزيره عبيد الله بن يحيي بن خاقان يشاركه في سوء الرأي بهم فحسن له القبيح في معاملتهم وبلغ فيهم ما لم يبلغه احد من بني العباس قبله، وكان من سوء فعله ان كرب قبر الحسين وعفي آثاره ووضع علي سائر الطرق المؤدية اليه مسالح من جنده لا يجدون احدا في طريقه لزيارته الا قتلوه او انكهوه تعذيباً، ومضي يقول: لقد حدثني احمد بن الجعد الوشا وقد شاهد بنفسه ذلك فقال: كان السبب في حراثة قبر الحسين ان بعض المغنيات كانت تبعث بجواريها الي المتوكل قبل خلافته يغنين له اذا شرب، فلما تولي الخلافة بعث الي تلك المغنية فعرف انها كانت غائبة في زيارة الحسين (ع) ولما بلغها خبره اسرعت في الرجوع وبعثت اليه بجارية من جواريها كان يألفها فقال لها: اين كنتم؟ فقالت: لقد خرجت مولاتي الي الحج وأخرجتنا معها وكان ذلك في شعبان، فقال: والي اين حججتم ونحن في شعبان؟ فقالت: قصدنا قبر ابن عمك الحسين بن علي (ع)، فاستشاط غضبا وأمر بمولاتها فوضعها في سجنه وصادر أملاكها وبعث برجل من اصحابه يقال له (الديزج) وكان يهوديا الي مرقد الحسين وأمره بهدمه وأن يكرب محله ولا يترك له أثراً كما أمره بهدم كل ما حوله من الابنية، فمضي لذلك ونفذ جميع ما أمره به المتوكل فهدم ما حوله من البناء والبيوت التي كان اصحابها يستقبلون الزوار فيها وكرب نحوا من مائتين جريب حوله، فلما بلغ الي القبر لم يتقدم لهدمه احد ممن كانوا معه من جنود المتوكل وأنصاره فأحضر قوما من اليهود فهدموه ثم كربوه وأجروا الماء عليه وعلي ما حوله من الاراضي، وأوكل امر ملاحقة الزوار الي جنوده وجلاوزته فكل من وجدوه متوجها لزيارته اعتقلوه وأرسلوه اليه، وأضاف الي ذلك الاصفهاني في مقتله ان محمد بن الحسين الاشتاني قال:

لقد بعد عهدي بالزيارة في تلك الايام خوفا من السلطة الحاكمة، ثم عملت علي المخاطرة بنفسي فيها وساعدني رجل من العطارين علي ذلك فخرجنا زائرين نكمن النهار ونسير الليل حتي اتينا نواحي الغاضرية وخرجنا منها نصف الليل فسرنا بين مسلحتين حتي اتينا محل القبر وقد خفي علينا فجعلنا نشمه ونتحري جهته حتي اتيناه وقد قلع الصندوق الذي كان حواليه وأحرق وأجري الماء عليه فانخسف موضع اللبن وصار كالخندق فزرناه ثم انكببنا عليه فشممنا منه رائحة ما شممت مثلها في جميع انواع الطيب، فقلت للعطار الذي كان معي: أي رائحة هذه؟ فقال: لا والله ما شممت مثلها شيئا من العطر، فودعناه وجعلنا حول القبر علامات في عدة مواضع، فلما قتل المتوكل اجتمعنا مع جماعة من الطالبيين والشيعة حتي صرنا الي القبر فأخرجنا تلك العلامات وأعدناه الي ما كان عليه [8] .

وجاء في الامالي للشيخ الطوسي عن عبدالله بن دانية الطوري انه قال: حججت سنة 247 فلما انتهيت من اعمال الحج ورجعت الي العراق زرت امير المؤمنين علي بن ابي طالب علي حال خيفة من السلطان، ثم توجهت الي زيارة الحسين (ع) في كربلاء فاذا مرقده قد حرث وفجر فيه الماء وأرسلت الثيران والعوامل في الارض، فبعيني وبصري رأيت لاثيران تساق في الارض فتنساق لهم حتي اذا وصلت القبر حادث عنه يمينا وشمالا فتضرب بالعصي الضرب الشديد فلا ينفع ذلك ولا تطأ القبر بحال ابدا فلم أتمكن من الزيارة فتوجهت الي بغداد وأنا اقول:



تـالله ان كانــــــت أميــــة قـد أتت

قتــــــل ابـن بنت نبـــيهـا مظلومـا



فلقـــــــد اتـــــــاه بنـو ابيـه بمثلـه

هـذا لعــــــمـرك قبــــره مهـدومـاً



اسفوا علي ان لا يكونوا شاركوا

فـي قـــتــــلــــــه فتتبعـوه رميمــا



وقيل كما هو الشائع ان الابيات للشاعر البسامي ويجوز ان يكون عبدالله بن دانية قد استشهد بها بعد شيوعها.

وقال الطبري في المجلد التاسع وفي أحداث 236 ان عامل صاحب الشرطة نادي في الناحية التي فيها القبر من وجدناه عند قبر الحسين بعد ثلاثة ايام بعثنا به الي المطبق، فهرب الناس من حواليه [9] .

وقد أثر هذا الارهاب الي حد ما علي نشاط تحركات الشيعة نحو زيارة مراقد الائمة (ع) وبخاصة زيارة الحسين، بعد ان تعاظم أسلوب القمع والارهاب لبعض الوقت الي حد حمل الامام الثاني عشر محمد بن الحسن (ع) الي اصدار توجيه عام الي الشيعة ينهاهم فيه عن زيارة مرقد الإمامين موسي بن جعفر ومحمد الجواد في مقابر قريش وحرم الحسين في كربلاء كما جاء في أعلام الوري وغيبة الطوسي، ولكن اساليب القمع والارهاب لم تدم طويلا وكان لها ردة فعل واسعة في الاوساط الشيعية فما ان أحس الشيعة بالانفراج حتي اخذوا يتوافدون علي زيارة مرقد الحسين بكثافة وبصورة أشد تنوعا مما كانت عليه قبل أن يصدر الحاكمون أوامرهم بالمنع والتنكيل بالزائرين.

واعتقد الشيعة ان المرقد الشريف لم يتأثر ابدا بالماء وظل علي حاله والشيعة يتوافدون عليه في مواسم معدودة من كل عام، وبعد قرن من الزمن كتب ابن حوقل عن المشهد الذي بني فوق ضريح الحسين (ع) ووصفه بأنه غرفة واسعة تعلوها قبة لها باب من كل جهاتها الاربع، وفي عهد البويهيين هاجم البلدة المحيطة بضريح الحسين (ع) فريق من الأعراب جاءوا من عين التمر وضربوا المشهد وغيره من الاماكن المجاورة له فصب عليهم بنو بويه جام غضبهم وعاقبوهم بأقسي ما يكون من العقوبات وأعاد عضد الدولة بناء المرقد وما تهدم حوله الي ما كان عليه وبسط عليها الحماية فجعل الناس يتهافتون الي زيارته من كل مكان.

وفي ربيع الاول من سنة 407 هجرية، 1016 ميلادية، شب حريق في البناء فتهدمت القبة التي علي المرقد والاروقة واحترقت وأعاد بنائها الحسين بن الفضل وبني سورا حول كربلاء، ومن ذلك الوقت تشابه تاريخ النجف وكربلاء فاحترمهما الاتراك الذين احتلوا العراق، وزار ملك شاه سنة 479 المشهدين ووزع الصدقات والأموال علي أهالي البلدتين ونجتا من غزو المغول وتوالت زيارة أمراء الشيعة وحكامهم الي البلدتين ورعايتهما وخلال القرن السابع زار كربلاء الخان غازي احد حكام ايران وحمل معه الي المرقد الشريف بعض الهدايا الثمينة وشق ارغون من نهر الفرات الي البلدة قناة اصبحت تعرف فيما بعد بنهر الحسينية كما حافظ العثمانيون علي المشهدين في كربلاء والنجف وكانت الأوامر تصدر الي الولاة في بغداد بالمحافظة عليهما والعناية بهما [10] وبقي مرقد الحسين ومراقد الائمة (ع) كعبة تتوافد اليهما الملايين في كل عام من مختلف انحاء العالم للتبرك بهما والعبادة والتوسل الي الله سبحانه بقضاء حوائجهم بالرغم من جميع وسائل الارهاب والقمع التي استعملها الحاكمون للتنكيل بالوافدين علي مراقدهم وبقي اعداؤهم لعنة علي لسان الاجيال ومراقدهم محلا لتجمع النفايات في البلاد التي دفنوا فيها.

ومهما كان الحال فلقد انفرجت الازمة التي اجتاحت الشيعة بموت المتوكل العباسي الي حد ما واستيلاء ولده المتصر علي السلطة من بعده كما نص علي ذلك ابن الاثير وغيره من المؤرخين فلقد قال في معرض حديثه عن حوادث سنة 248 ان المنتصر أمر بزيارة قبر الحسين وعلي (ع) وآمن العلويين وأطلق سراحهم ورد عليهم فدكا وكان اول ما أحدثه ان عزل عن المدينة صالح بن علي الذي كان يتتبعهم بكل انواع الاذي والظلم والجور وعين مكانه علي بن الحسن بن اسماعيل بن العباس بن محمد، ولما دخل عليه ليودعه وهو في طريقه الي المدينة قال له: يا علي اني موجهك الي لحمي ودمي وساعدي فانظر كيف تكون للقوم وكيف تعاملني فيهم.

واسترم الشيعة أينما حلوا يحتفلون بذكري الحسين الاليمة ويرددون ما جري عليه وعلي اسرته وعائلته من القتل والسبي والتمثير وبكل مظاهر التشيع في العشرة الأولي من المحرم وغيرها من المناسبات سواء في ذلك البلاد التي غلب عليها التشيع كالعرق أو غيرها من المقاطعات التي كان الشيعة فيها يشكلون الاقلية بالنسبة الي غيرهم كما هو الحال في مصر يوم كانت في سلطة كافور الاخشيدي الذي كان كما يصفه بعض المؤرخين شديد التعصب علي اهل البيت وشيعتهم، ومع ذلك فقد اظهروا فيها من الصلابة والتماسك مع قلتهم بالنسبة لغيرهم ما فرض علي كافور ان يصانعهم ويتغاضي عما يقومون به في كل عام من مظاهر الحزن والجزع لما اصاب اهل البيت (ع).

ولم تنفرج الازمة في مصر انفراجا كاملا الا بعد ان تغلب عليها الفاطميون وحكمها المعز لدين الله الفاطمي فارتفعت معنويات الشيعة بوجودهم وهيأوا لهم جميع الاجواع المناسبة واشتركوا معهم في احياء تلك الذكري وبذلوا في سبيلها الأموال بسخاء لا مثير له، وكان ذلك منهم كما لا يبعد ردا علي حملات التشكيك في نسبهم التي شنها عليهم العباسيون وساهم فها كبار علماء السنة يومذاك.

وقال المقريزي في خططه: كان الفاطميون في يوم عاشوراء ينحرون الابل والبقر لإطعام الناس ويكثرون النوح والبكاء ويتظاهرون بكل مظاهر الحزن والاسف واستمروا علي ذلك حتي انقرضت دولتهم وجاء عهد الايوبيين الذين مثلوا أدوار الأمويين والعباسيين مع الشيعة، وأضاف المقريزي الي ذلك بروايته عن ابن ذولاق في سيرة المعز لدين الله انه في يوم عاشوراء من سنة 363 انصرف خلق من الشيعة الي قبري أم كلثوم ونفيسة ومعهم جماعة من فرسان المغاربة ورجالهم بالنياحة والبكاء علي الحسين ومن قتل معه من اسرته وبنيه وكسروا اواني السقائين.

وفي سنة 396 جري الامر علي ما كان يجري في كل عام من تعطيل الاسواق وخروج المنشدين الي جامع القاهرة ونزولهم مجتمعين بالنوح والبكاء والنشيد، واستطرد المقريزي في وصف ما كان عليه حال الفاطميين من قيامهم بمناسبة ذكري مصرع الحسين بمظاهر الحزن والاسف حكومة وشعبا، ومضي يقول: اذا كان يوم العاشر احتجب الخليفة عن الناس لمدة من الوقت فاذا ارتفع النهار ركب قاضي القضاة والشهود وغيروا زيهم ومضوا الي مشهد الحسين، فاذا دخلوا اخذوا ينشدون الشعر في رثاء اهل البيت (ع) الي ان تمضي عليهم ثلاث ساعات والنشيد متواصل وبعدها يستدعيهم الخليفة الي قصره فيدخل قاضي القضاة والداعي ومن معهما الي باب الذهب فيجدون الدهاليز قد فرشت بالحصر فيجلس القاضي والداعي الي جانب الخليفة ويجلس الباقون من سائر الطبقات في الاماكن التي أعدت لهم فيقرأ القراء شيئاً من القرآن، ثم ينشدون المراثي ويتقدمون بعد ذلك الي المائدة لتناول الطعام المؤلف من الاجبان والالبان والعسل وغير ذلك وبعد الفراغ يتوجه فريق من الناس والمنشدين ينوحون ويبكون في شوارع القاهرة وقد أغلقت المحلات والحوانيت وتعطلت جميع الأعمال في ذلك النهار حتي المساء الي غير ذلك من المظاهر التي كانت تعم المدن والقري في جميع انحاء مصر طيلة العهد الفاطمي وظلت هذه المظاهر تتصاعد وتشتد في مصر وغيرها من الاقطار الي ان جاء دور الايوبيين فحاربوا هذه المظاهر وتوعدوا الناس والشيعة بأقصي العقوبات اذا استمروا عليها واستبدوا مظاهر الحزن والاسي بمظاهر الفرح والسرور عند دخول شهر المحرم وأصبح اليوم العاشر منه من اعظم اعيادهم يتباهون فيه بالملابس الفاخرة وأنواع الطعام والحلوي والاواني الجديدة وما الي ذلك مما يعبر عن ارتياحهم واغتباطهم في ذلك اليوم ليرغموا بذلك أنوف الشيعة علي حد تعبير المقريزي في خططه.

وفي عهد البويهيين كان الشيعة والحكام يمثلون دور الفاطميين وجاء في تاريخ ابي الفداء خلال حديثه عن أحداث 352 ان معز الدولة كان في اليوم العاشر من المحرم يأمر بتعطيل الاسواق كما يأمر الناس ان يخرجوا بالنياحة والنساء ناشرات الشعور قد شققن ثيابهن ولطمن وجوههن، وأيد ذلك ابن كثير في بدايته وهو يتحدث عن البويهيين وما كانوا يصنعونه في بغداد في الأيام الأولي من شهر المحرم والعاشر منه في كل عام الي غير ذلك مما رواه الرواة والمؤرخون عن مواقف الشيعة وحكامهم من ذكري مجزرة الطف منذ حدوثها خلال القرون التي حكم الشيعة فيها بعض المناطق الاسلامية وغيرها من القرون التي كان الحكم فيها لاعداء الشيعة كالامويين والعباسيين والايوبيين والاتراك، وبالرغم من كل وسائل العنف التي مارسها الحاكمون ضد التشيع ومظاهره فقد بقيت المآتم الحسينية تقام ولم تتأثر بالاخطار ووسائل العنف من الحاكمين وأعداء اهل البيت الذين ادركوا ان المآتم الحسينية في واقعها ليست الا تعبيراً عن المعارضة لحكمهم الجائر وادانة صريحة لتجاوزاتهم واستغلالهم لخيرات الشعوب والمستضعفين في الارض، ولعل هذا المحتوي للمآتم الحسيني كان من اولي الدوافع لدعوة الائمة (ع) علي احياء هذه الذكري والالتزام بها مهما كانت النتائج والمضاعفات، كما كان لتلك المآتم التي كانت تعقد هنا وهناك حتي في أشد الادوار تعقيدا وقسوة آثار واضحة في حدوث تلك الانتفاضات الشيعية التي كانت ترفع شعارات الثورة الحسينية وتجعل منها منارا وشعار لبعث الروح النضالية والتضحية في سبيل الحق والعقيدة الي أبعد الحدود وفي الوقت ذاته فلقد كانت تلك الشعارات التي ترفع هنا وهناك كما يبدو من اقوي الدوافع علي تمكين الثورة الحسينية في عقول الناس وقلوبهم سواء في ذلك ما كان منها في العصر الاموي او العباسي، فانتفاضات الحسينيين في العصر العباسي ردا علي ما ارتكبه اولئك الطغاة من قتل وتشريد وأسر وتفنن في اساليب التعذيب، هذه الانتفاضات كانت روح كربلاء تحركها وتدفعها الي المضي في المقاومة مهما كلفها ذلك من التضحيات وما زالت الانتفاضات التي تحدث علي مرور الزمن هنا وهناك تستلهم من ثورة الحسين (ع) التي لم يحدث التاريخ عن ثورة اكثر منها عطاء وتصميما.

لقد واجهت هذه الذكري في تاريخها الطويل قمعا واضطهادا كانا يضطرانها الي الخمود والتستر كما شهدت انفراجات محدودة حينا وأحيانا انفراجات واسعة، ولكن أعمال القمع والاضطهادا لم تفلح في القضاء التام عليها بل بقيت تقام في مواعيدها وفي دو من التستر حتي في العصر الاموي، وفي عصري المنصور والمتوكل اللذين يعتبران من أشد العهود قسوة وظلما، وكانت عندما تتوفر لها الانفراجات الواسعة تنفجر كالبركان كما حدث لها في عهود الفاطميين والبويهيين في بغداد وجهاتها والحمدانيين في سوريا والموصل وعندما اصبح الحكم في بلاد وجهاتها والحمدانيين في سوريا والموصل وعندما اصبح لاحكم في بلاد الفرص وغيرها بيد الشيعة لان اساليب العنف والاضطهاد من الصعب ان تستأصل المبادئ والمعتقدات وحتي العادات بل تزيدها ترسيخا وصلابة، وعندما تتوفر لها الظروف والمناسبات تبرز بشكل اقوي وأشد مما كانت عليه وقديما قيل: لا شيء أجدي وأنفع للأفكار والمعتقدات من محاربتها.

ان الذين يحاربون الافكار والمعتقدات يساهمون في ترسيخها وحياتها من حيث لا يريدون، ولا شيء أدل علي ذلك من مواقف الامويين والعباسيين المسعورة بل وجميع الحاكمين من اهل البيت وفضائلهم وآثارهم، ومع كل ما بذلوه من جهود للقضاء عليها فقد بقيت من افضل الرموز الشامخة وأقدسها وظلوا في القمة بين عظماء التاريخ، وظهر من صحيح فضائلهم وآثارهم مأملا لخافقين وما زالت محاسنهم تحكي وآياتهم تروي، هذا بالإضافة الي ما اضافه عليها المحبون مما كان اهل البيت انفسهم يحاربونه ويرونه اساءة لهم ويقولون لعن الله من قال فينا ما لم نقله في انفسنا وكانوا في مجالسهم ومجتمعاتهم يلعنون اصحاب تلك المقالات ويتبرأون منهم ومن مقالاتهم، ويقولون لمن يجتمعون اليهم من اصحابهم وغيرهم: لعن الله من قال فينا ما لم نقله في انفسنا.

لقد كان لتلك المواقف الجائرة التي وقفها الحاكمون من المآتم الحسينية ومن زيارة الحسين وأبيه التي تعني فيما تعنيه الاجانة لاولئك الطواغيت والمعارضة المستترة لسياستهم الجائرة كان لها ردود فعل في الاوساط الشيعية جعلتهم يتصلبون في تمسكهم بتلك المآتم ويعتبرونها وسيلة للتنفيس عن عواطفهم الحزينة الغاضبة والكبت النفسي الذي كان الشيعي يعانيه من ضغط الحاكمين وقسوتهم.

ومهما كان الحال فلقد مرت تلك المآتم والذكريات منذ ان ولدت بعد مصرع الحسين (ع) وحتي عشرنا الحالي بأدوار كثيرة ولم تثبت علي صيغة واحدة في تلك العصور المتعاقبة، وكان من الطبيعي ان تتطور حسب متطلبات العصر وأن تخمد وتنطلق بين الحين والآخر حسب الظروف المحيطة بها.

لقد انطلقت بشكل لم يكن معروفا ومألوفا من قبل خلال الحكم الشيعي في مصر وبغداد وحلب وجهاتها وفي فترات متعاقبة من الزمن وعادت الي ما كانت عليه في العصر الذي سبق عصر الفاطميين بعد ان تقلص ظل حكام الشيعة في تلك المقاطعات وظلت تقام في مواعيدها في أجواء تتسم بالسرية والتكتم كما كانت عليه في تلك العصور المظلمة. وفي العصور المتأخرة تطورت بشكل أخرجها عما وجدت من اجله وعما كان الائمة (ع) قد رسموه لها لتبقي منطلقا ورمزا لمعارضة الحكم المستبد الظالم وأدخلت عليها بعض الزيادات التي تسيء اليها والي التشيع ويستغلها اعداء الشيعة للتنديد والتشويه والسخرية وهذه الزيادات لقد أدخلت عليها كما هو الراجح عن طريق الاقطار الشيعية بعد ان حكمها الشيعة وغلب علي اهلها التشيع كايران وأفغانستان وغيرهما من الاقطار التي تسربت اليها عادات الهنود القدامي كالضرب بالسلاسل الحديدية والسيوف وما الي ذلك من المظاهر التي لا يقرها الشرع ولا تحقق الاهداف التي كان الائمة يحرصون عليها من تلك الذكريات.

ولا يزال هذا النوع من المظاهر الدخيلة يمارس خلال الايام الاولي من شهر المحرم في العراق وايران، في حين ان الذين يضربون ظهورهم بالسلاسل الحديدية ورؤوسهم بالسيوف ليصبغوا أبدانهم بالدماء ليسوا من الملتزمين بالدين ويمارسون الكثير من المنكرات، وقد انتقلت هذه الظاهرة الشاذة عن طريق بعض الفئات الي بعض القري الشيعية من جنوب لبنان في مطلع النصف الثاني من القرن الهجري المنصرم ولا تزال حتي يومنا هذا مصدر لسخرية الاجانب الذين يقصدون تلك البلدة في اليوم العاشر من المحرم ويسمونه يوم جنون الشيعة، وبلا شك ان الائمة (ع) لا يرضون بهذه المظاهر ويتبرأون منها.

اما بقية القري الشيعية من جنوب لبنان فلا تزال تحتفظ بذكري مجزرة كربلاء في العشرة الاولي من شهر المحرم وفي بعض المناسبات الطارئة بين الحين والخري ولكن بالشكل المألوف الذي لا يتعدي قراءة أبيات في رثاء الحسين ومن قتل معه لبعض شعراء الطف باسلوب يستيثير العواطف وبعض الجوانب المثيرة من السية الحسينية التي تلهب المشاعر وتحض علي الظالمين وفي اليوم العاشر يتولي احد الحضور قراءة المصرع بكامله مع الاحتفاظ بمظاهر الحزن في الغالب.

وستبقي تلك المآتم مع الزمن تستمد اصالتها واستمرارها من مواقف الحسين وبطولاته الخالدة التي ضرب فيها اروع الامثلة في البذل والعطاء وعلم ابناء آدم كيف يعيشون احرارا ويموتون كراما في مملكة الجبابرة وفراعنة العصور لو ارادوا ان يعيشوا احرارا ويموتوا كراماً.


پاورقي

[1] انظر ص 226 من تاريخ العراق عن الاخبار الطوال للدينوري.

[2] انظر مقتل المقرم عن رجال الکشي ومعاهد التنصيص ص 119.

[3] ص 159 من الميمية وص 68 من الادب في ظل التشيع وتاريخ الطبري والنزاع والتخاصم للمقريزي.

[4] تاريخ الخلفاء للسيوطي.

[5] انظر مقاتل الطالبيين لابي الفرج ص 290 وما بعدها.

[6] تاريخ الشيعة للمظفر والکني والالقاب للشيخ عباس القمي والمناقب لابن شهر اشوب والکامل لابن الاثير.

[7] انظر الطبري والنزاع والتخاصم للمقريزي.

[8] انظر مقاتل الطالبيين لابي الفرج ص 395 و396.

[9] المطبق سجن تحت الأرض لا يري الشمس ولا الهواء غالباً وقلما ينجو احد ممن يدخلون اليه وهي سجن المحکومين بالإعدام.

[10] انظر ص 135 من کتاب الحسين وبطلة کربلاء للشيخ محمد جواد مغنية.