بازگشت

لمحات عن حياة العقيلة قبل معركة كربلا


بعد هذه اللمحات عن مواقفها من معركة كربلاء وما تلاها من الاحداث الجسام التي صمدت فيها العقيلة كالطود الشامخ وضعضعت كبرياء اولئك الجلادين وقلبت الدنيا علي رؤوسهم، وقبل الحديث عن مرقدها اري من الوفاء لحقها العظيم عليّ وعلي كل من آمن برسالة جدها وأبيها وأخويها التي كانت تجسدها في جميع مواقفها من الطغاة والحاكمين ان نشير ولو بصورة موجزة عن المراحل التي مرت بها في صباها وشبابها وأمومتها تلك المراحل التي أهلتها وأعدتها لان تكون في عداد العظماء من أبطال التاريخ ومن طلائعهم بعد ابيها واخوتها.

لقد كانت ولادتها في مطلع جمادي الاولي من السنة الخامسة لهجرة جدها من مكة إلي المدينة كما جاء في بعض المرويات، وجاء في بعضها ان ولادتها كانت في مطلع شعبان من السنة السادسة بعد أخويها الحسن والحسين (ع)، ولما ولدت جاءت بها امها الزهراء الي ابيها وقالت له: سمها يا ابا الحسن، فقال: ما كنت لأسبق جدها رسول الله في تسميتها وكان غائباً عن المدينة يومذاك، ولما رجع من سفره سأله امير المؤمنين عن اسمها، فقال علي حد تعبير الراوي: ما كنت لأسبق خالقها في اسمها، فهبط عليه الأمين جبرائيل وقال له: ان الله قد اختار لها اسم زينب، وأخبره كما يدعي الراوي بما يجري عليها من المصائب فبكي النبي (ص) وقال: من بكي لمصاب هذه كان كمن بكي لمصاب أخويها الحسن والحسين.

وكانت تكني كما يدعي الشيخ فرج القطيفي في كتابه المرقد الزينبي بأم كلثوم وأم الحسن، وتلقب بالصديقة الصغري وعقيلة بني هاشم علي لسان جماعة وعلي لسان آخرين عقيلة الطالبيين الي غير ذلك من الصفات الفاضلة التي تغلب علي الاسم احيانا.

لقد ولدت الحوراء زينب في بيت لا شيء فيه من متع الدنيا ولهوها وزخرفها ورأت النور في ذلك البيت الطاهر الذي ضم أباها سيد الوصيين وأمها سيدة نساء العالمين وأخويها ريحاتني رسول رب العالمين.

ولدت في بيت كان النبي لا يشغله عنه شاغل ولا ينساه في ليله ونهاره وكلما دخله يقبّل من فيه من أحفاده ويشمهما ويبتسم لهما وينعم فيه بالسكينة والاطمئنان، في ذلك البيت ولدت الحوراء ورضعت من ثدي الطهر والفضيلة بضعة الرسول الاعظم ودرجت مع اخويها سيدي شباب اهل الجنة وأخذت العلم عن ابيها باب مدينة العلم ورأت جدها الرسول ممثلا في امها فاطمة بجميع صفاته ومزاياه، وحينما فقدت امها في السنة السادسة من عمرها قالت: يا أبتاه يا رسول الله الان فقدناك فقداً لالقاء بعده، وهي تعني بذلك انها بفقد امها التي كانت تجسد أباها قد فقدت جدها ايضاً.

لقد انعكست صفات الزهراء سيدة نساء العالمين ومزاياها في نفس ابنتها عقيلة بني هاشم وظهرت واضحة جلية في زهدها وعبادتها وصبها في الشدائد، وقال من تحدث عنها من الرواة: انها لم تدخر شيئاً من يومها لغدها وتمضي عامة لياليها بالتهجد وتلاوة القرآن، وحتي في ليلة الحادي عشر من المحرم وهي تتلوي من آلام تلك المجزرة الرهيبة واخوتها صرعي مجزرين كالاضاحي لم تدع صلاة الليل وتلاوة القرآن، وقد تحدثنا عن صبرها وشجاعتها وبعض مواقفها الخالدة التي كانت ولا تزال من اغني المواقف البطولية بالقيم والمثل العليا في تاريخ الابطال.

لقد بقيت زينب ابنة علي مع امها ست سنوات وفي هذه المرحلة من طفولتها كانت تري امها الزهراء تقوم للصلاة والعبادة حتي ينقضي الشطر الاكبر من الليل وتبيت طاوية وتطعم ما عندها الايتام والمساكين وتلبس الثياب الخلقة البالية وتكسو الفقراء جديد الملابس، ورآها سلمان الفارسي مرة فبكي وقال: ان قيصر وكسري بناتهما في السندس والحرير وابنة محمد رسول الله في تلك الثياب البالية.

وبلا شك في ان تلك الصور التي كانت تشاهدها العقيلة وهي في هذا السن من طفولتها قد انعكست في نفسها ورافقتها حتي النفس الاخير من حياتها لان مشاهدات الاطفال وما يحيط بها في المراحل الاولي من حياتهم وما يمر عليهم في سن الطفولة تترك آثاراً في نفوسهم ترافقهم في الغالب ما داموا بين الاحياء.

ويؤكد علماء النفس ان الطفل في السنة الثالثة من عمره تبدأ مرحلة التوافق بينه وبين بيئته ومرحلة التمييز بين الالفاظ والمعاني، وان نموه العقلي في هذه المرحلة يتجه به إلي كشف ما يحيط به مما يري ويسمع وهذا الكشف يترك آثاراً تعمل عملها في نفس الطفل ترافقه إلي اخر يوم من حياته.

هذا بالإضافة إلي ان السيدة زينب سلام الله عليها بعد وفاة امها الزهراء عاشت برعاية ابيها امير المؤمنين الذي كان يجسد جدها الرسول من جميع نواحيه بين أخويها الحسن والحسين (ع) وتولت حضانتهم امرأة من كرام النساء وأفاضلهن وهي امامة بنت زينب بنت رسول الله وكان قد تزوجها امير المؤمنين (ع) بعد وفاة الصديقة الزهراء (ع) بوصية منها، وجاء في وصيتها له كما ترويها جميع الآثار، وأوصيك يا ابن العم ان تتزوج بعد وفاتي من امامة ابنة اختي فانها ستكون لولدي مثلي، وبالفعل فلقد كانت امامة كما كانت ترجوه منها خالتها من ناحية عطفها ورعايتها لأولادها بالإضافة إلي ما كانوا ينعمون به من رعاية ابيهم الذي كان يلقنهم من اسرار الكون وغوامضه، وظلت العقيلة في رعاية ذلك البيت الكريم بيت النبوة والإمامة إلي ان تجاوزت سن الطفولة الي مطلع الصبا والشباب، ونساء المسلمين يومذاك كان من عادتهن ان يخرجن ليلا لزيارة قبر النبي وأداء فريضة العشاء إلي جواره كما كان يفعل الرجال ثم يرجعن الي بيوتهن وملامح السرور والبهجة بادية علي وجوههن وأرادت العقيلة ان تخرج لزيارة قبر جدها والصلاة إلي جواره كما يفعل النساء، ولكن والدها لم يشأ لها ان تخرج كما يخرج غيرها من النساء والمسجد مملوء بالزائرين والمصلين من الرجال فكان يخرج معها بعد ان يعود الزائرون الي بيوتهم ويخرج الحسن والحسين عن يمينها وشمالها ويتقدمهم هو ليخمد ضوء القناديل اذا وجد في مرقد جدها احد من الرجال، وذات ليلة ارادت ان تخرج في اول الليل مع الزائرات اللواتي كن يخرجن لأداء الصلاة فخرج يتقدمها ليخفت ضوء المصابيح، وفجأة أحس المصلون من الرجال والنساء ان ضوء المصابيح اخذ يخفت واحداً بعد واحد خفوتا ظاهراً وعلي عجل وظل يضيق ويضعف حتي شمل المسجد كله ضوء مختنق ولم تبق من الضوء الا ومضات ضئيلة توشك ان تنطفيء فيعم الظلام المسجد والحرم من كل جوانبهما فتطلعت العيون الأشعث بن قيس الكندي كما جاء في بعض المرويات، ففي بعض الأيام الغاضبة لتتعرف من هو الذي أضعف تلك المصابيح واحداً بعد واحد ولم يترك منها سوي ومضات ضئيلة لا تجديهم شيئاً، ولما عرفوه تركوه يفعل ما يشاء لانه لا يفعل غير الصواب، وراحت العيون تتطلع لتعرف الاسباب التي حملته علي ذلك فرأت أشباحاً ثلاثة قد تقدمت نحو قبر النبي (ص) وما ان وصلوا اليه حتي وقفوا إلي جانبه لفترة طويلة في خشوع وتضرع ثم رجع الثلاثة عن القبر الشريف يمسحون دموعهم وانصرفوا باتجاه باب الحرم راجعين الي بيت ابيهم الكريم، وتقدم امير المؤمنين (ع) نحو المصابيح يفك خناقها ويعلي أضوائها، وكان الثلاثة الذين تقدموا نحو الحرم في ستر ذلك الضوء الخامد اولاده الحسن والحسين وبينهما ابنته زينب ارادت ان تزور قبر جدها في الوقت الذي يجتمع فيه الزائرون فتقدمها ليخمد الضياء ومضت اليه بين أخويها حتي لا يري شخصها احد من الناس.

وبقيت العقيلة في ذلك البيت الكريم في رعاية ابيها وأخويها وخالتها امامة وزودة ابيها أسماء بنت عميس التي لم تكن بأقل عطفا وحنوا علي اولاد فاطمة من امهما والتي احتضنتها لتكون زوجة لولدها عبدالله بن جعفر بعد سنوات قليلات.