بازگشت

بطلة كربلاء زينب بنت علي


لقد تحدث الناس عن البطولات والأبطال من النساء والرجال المعروفين بالجرأة والشجاعة ومقارعة الفرسان في المعارك التي كانت المرأة تقف فيها إلي جانب الرجل وتؤدي دورها الكامل بنفس الروح والعزيمة التي كان الأبطال يخوضون المعارك فيها، وبلا شك فان اهل البيت (ع) يأتون في الطليعة بين أبطال التاريخ، وان زينب ابنة علي وفاطمة تأتي في الطليعة بعد ابيها واخوتها كما يشهد لها تاريخها الحافل بكل انواع الطهر والفضيلة والجرأة والصبر في الشدائد.

وليس بغريب علي تلك الذات العملاقة التي التقت فيها الأنوار الثلاثة: نور محمد وعلي وفاطمة ومن تلك الأنوار تكونت شخصيتها ان تجسد بمواقفها خصائص النبوة والامامة وأمها الزهراء التي امتازت بفضلها علي نساء العالمين.

ان اللسان ليعجز وان اللغة علي سعة مفرداتها لتضيق عن وصفها وعن التعبير عما ينطوي عليه الإنسان من الشعور نحو المرأة الكبيرة والقدوة العظيمة ابنة علي والزهراء التي عز نظيرها بين نساء العرب والمسلمين بعد أمها البتول سيدة نساء التي ابتسمت للموت حين بشرها به الرسول الامين في الساعات الاخيرة من حياته وقال لها: انت اول اهل بيتي لحوقا بي.

ان الالمام بحياة بطلة كربلاء في عهود الطفولة والصبا والامومة وكيف نشأت طفلة وشابة برعاية امها الزهراء وأبيها الوصي وفي بيت زوج كريم من كرام أحفاد ابي طالب، وبعد ان اصبحت أما لأسرة غذتها بتعاليم الإسلام وأخلاق امها وأبيها يضطرنا الي التطويل الذي يعرض القاريء للملل في الغالب، وفي الوقت ذاته فان الحديث عن بطولاتها التي لا تزال حديث الاجيال والتي تجلت في رحلتها مع اخيها تاركة بيتها تحث الخطا خلفه في رحلته الي الشهادة لتعلم الرجال والنساء كيف يموتون في مملكة الجلادين يضع بين يدي القراء صورة كريمة عن ذلك الغرس الطيب وعن مراحل نموه حتي بلغ الي هذا المستوي من النضوج والقدرة علي الثبات والصمود في وجه تلك الإحداث التي لا يقوي علي تحملها احد من الناس.

ومهما كان الحال فلعلنا بعد هذا الفصل نتوقف لإعطاء فكرة كافية عن ذلك الغرس الطيب وكيف نما وتكامل نموه حتي بلغ أشده ونهض بأعباء المسؤولية العظمي وأدي دوره الكامل عندما وقعت تلك المأساة الكبري التي حلت بالعلويين والطالبيين رجالاً ونساء علي تراب كربلاء، وكيف استطاعت ان تتحمل تلك الصدمة وتقوم بدورها الكامل بالحكمة والصبر الجميل ذلك الدور الذي يمثل اسمي درجات البطولة وأغناها بالقيم والمثل العليا، لعلنا بعد هذه اللمحات عن مواقفها في كربلاء تتحدث في فضل مستقل عن مراحل حياتها التي أهلتها لتلك المواقف التي لا تزال حديث الاجيال.

لقد ثبتت في ذلك الموقف كالطود الشامخ تاركة علي تراب كربلاء آثار مسيرتها ومواقفها بين تلك الضحايا التي لا تزال حديث الاجيال ومثلا كريما لكل ثائر علي الظالم والجور وللمرأة التي تعترضها الخطوب والشدائد خلال مسيرتها في هذه الحياة.

لقد كان عويل النساء وصراخ الصبية وضجيج المنطقة كلها بالبكاء والنياحة كفيلا بأن يهد اقوي الاعصاب ويخرس أفصح الالسنة والخطباء ويقعد بأكبر الرجال ولو لم يكن يتصل بتلك الضحايا بنسب او سبب، فكيف بمن رأي ما حل بأهله وبنيه واخوته وأبناء اخوته وعمومته وأحس بثقل المسؤولية وجسامتها، ولكن ابنة علي ذلك الطود الاشم الذي كان أثبت من الجبال الرواسي في الشدائد كانت تجسد مواقف ابيها في كل موقف تتزلزل فيه أقدام الابطال وبقيت ليلة العاشر من المحرم ساهرة العين تجول بين خيام اخوتها وأصحابهم وتنتقل من خيمة الي خيمة وهم يستعدون لمقابلة ثلاثين الف مقاتل قد اجتمعوا لقتال اخيها وبنيه وأنصاره ورأت اخاها العباس جالساً بين اخوته وأحفاد ابي طالب وهو يقول لهم: اذا كان الصباح علينا ان تتقدم للمعركة قبل ان يتقدم اليها الانصار لان الحمل الثقيل لا ينهض به إلا اهله.

وفي طريقها الي خيام الانصار سمعت حبيب بن مظاهر يوصيهم بأن يتقدموا إلي المعركة حتي لا يرون هاشمياً مضرجاً بدمه، وسمعت الانصار يقولون: ستجدنا كما تريد وتحسب يا ابن مظاهر، فانطلقت نحو خيمة اخيها الحسين (ع) وهي تبتسم وقد غمرها السرور وطفا منه علي وجهها اثر رد عليه لمحة من بهائه وصفائه ومضت تريد اخاها الحسين لتخبره بما رأت وسمعت من اخوتها والأنصار وما هي إلا خطوات حتي رأته مقبلاً فابتسمت له وتلقاها مرحباً وقال لها: منذ ان خرجنا من المدينة ما رأيتك مبتسمة ولا ضاحكة فما الذي رأيت، فقصت عليه ما سمعته من الهاشميين وأنصارهم وظلت الععقيلة ليلتها تلك ساهرة العين تنتقل من خيمة الي خيمة ومن خباء الي خباء بين النساء والأطفال واخواتها حتي إذا اقبلت ضحوة النهار وسقط اكثر انصار اخيها ومن معه من بنيه واخوته وابناء عمه علي ثري الطف، ورجع الحسين للوداع الاخير وزينب علي جانبه كالمذهولة قال لها: مهلا اخيه لاتشقي علي جيبا ولا تخمشي علي وجها ولا تشمتي بناء الاعداء، وأوصاها بالنساء والاطفال، فقالت له: طب نفسا وقر عينا فانك ستجدني كما تحب ان شاء الله.

ولما سقط عن جواده صريعا اسرعت علي مصرعه وصاحت تستغيث بجدها وأبيها وأوشكت الصرخة ان تنطلق من حشاها اللاهب عندما رأت رأسه مفصولا عن بدنه والسيوف والسهام قد عبثت بجسمه وقلبه ورأت اخوتها وبنيها وأبناء عمومتها من حوله كالاضاحي ومعها قافلة من النساء والاطفال وأمامها صفوف الاعداء تملأ صحراء كربلاء فرفعت يديها في تلك اللحظات الحاسمة نحو السماء لتند عن فمها عبقة من فيض النبوة والخلود تناجي ربها وتتضرع اليه قائلة: اللهم تقبل منا هذا القربان.

وهكذا كان علي العقيلة ان تنفذ وصية اخيها وتثبت في وجه تلك الاهوال وأن تحمل قلبا كقلب ابيها في غمار جولاته وتقف كالطود الشامخ في وجه اولئك الذين وقفوا إلي جانب يزيد بن ميسون وجلاديه الممعنين في انتهاك الحرمات والمقدسات والذين باعوا ضمائرهم لاولئك الطغاة الجناة بأبخس الاثمان.

ويقطع الحادي الطريق من كربلاء إلي الكوفة والسبايا علي اقتاب الجمال تتقدمهم رؤوس سبعين من الانصار وعشرين من أحفاد ابي طالب بينهم رأس الحسين سيد شباب اهل الجنة، وما ان أطل موكب السبايا والرؤوس ودنت طلائعه من مداخل الكوفة حتي ازدحم الناس في الطرقات ومن علي المشارف والنساء علي سطوح المنازل ولم يكن نبأ مصرع الحسين قد انتشر في جميع اوساط الكوفيين وأشرفت امرأة من علي سطح بيتها فرأت نساء كالعاريات لولا أسمال من الثياب تقنعن بها فظنت المرأة انهن من سبايا الروم او الديلم وأرادت ان تستوثق لنفسها من الظن فطالما كانت تري مواكب من سبايا الروم والترك تمر بالكوفة لم تر مثل ما رأت علي هذا الموكب من الحزن واللوعة، ولم تر قبل اليوم اسري مع تلك المواكب من الصبيان يشدون بالحبال علي اقتاب الجمال كما رأت في هذا الموكب فأدنت المرأة رأسها من احدي السبايا وقالت لها: من أي الاساري انتن؟ فردت عليها والالم يقطع أحشاءها: نحن اساري آل بيت محمد رسول الله.

وما كادت المرأة تسمع قولها حتي خرجت مولولة معولة وكادت ان تسقط من علي سطحها من هول الصدمة والتفتت إلي النساء اللواتي علي سطوحهن وقالت: انهن نساء اهل البيت، فتعالي الصياح عند ذلك من كل جانب حتي ارتجت الكوفة بأهلها ولفت نواحيها صرخات متتالية كأنها العواصف في أرجائها والتف النسوة بالموكب يقذفن عليه الارز والمقانع ليتسترن بها بنات علي وفاطمة عن أعين الناس وغصت الطرقات بالنساء والرجال يبكون ويندبون فالتفتت ابنة علي وفاطمة اليهم ببصرها النافذ وقالت:

يا اهل الكوفة يا اهل الغدر والختل والمكر أتبكون فلا رفأت الدمعة ولا هدأت الرنة انما مثلكم كمثل التي نقضت غزلها من بعد قوة انكاثاً وهل فيكم إلا الصلف وملق الاماء وغمز الاعداء الا ساء ما قدمت لكم انفسكم ان سخط الله عليكم وفي العذاب انتم خالدون فابكوا كثيراً واضحكوا قليلاً فلقد ذهبتم بعارها وشنارها بعد ان قتلتم سليل خاتم النبوة ومعدن الرسالة وسيد شباب اهل الجنة.

ويسير الموكب متخطياً تلك الحشود من الرجال والنساء إلي قصر الامارة ليضمها مجلس ابن مرجانة فتجلس متنكرة مطرقة يحف بها موكب النسوة في ذلك المجلس الذميم وهو ينظر اليها ببسمة الشامت المنتصر ويسأل من هذه المتنكرة فلا ترد عليه احتقاراص وازدراء لشأنه، وأعاد السؤال ثانيا وثالثاً فأجابته بعض امائها: هذه زينب ابنة علي، فانطلق عند ذلك بكلمات تنم عن لؤمة وحقده وخسته قائلا: الحمد لله الذي فضحكم وأكذب أحدوثتكم، فردت عليه غير هيابة لسلطانه ولا لجبروته قائلة: الحمد لله الذي اكرمنا بنبيه وطهرنا من الرجس انما يفتضح الفاسق ويكذب الفاجر وهو غيرنا ثكلتك امك يا بن مرجانة.

فقال لها وقد استبد به الحقد والغضب: كيف رأيت صنع الله بأخيك وأهل بيتك؟ قالت: ما رأيت إلا جميلاً، اولئك قوم كتب الله عليهم القتل فبرزوا إلي مضاجعهم وسيجمع الله بينك وبينهم وتختصمون عنده وستعلم لمن الفلج ثكلتك امك يا بن مرجانة.

ويأبي له حقده وصلفه الا ان يتناول قضيباً كان الي جانبه ليضربها به، ولكن عمرو بن حريث احد جلاوزته نظر الي الوجوه قد تغيرت علي ابن مرجانة وايقن ان عملاً من هذا النوع سيلهب المشاعر لاسيما وان النفوس قد اصبحت مشحونة بالحقد والكراهية ومهيأة للإنفجار بين الحين والآخر لما حل بالحسين وبنيه وأصحابه فحال بين ابن مرجانة وما اراد فرمي القضيب من يده وعاد يخاطبها بلغة الشامت الحاقد ويقول لها: لقد شفي الله قلبي من طاغيتك الحسين والعتاة المردة من اهل بيتك، فبكت عند ذلك وقالت: لعمري لقد قتلت كهلي وقطعت فرعي واجتثثت اصلي فان يكن في ذلك شفاؤك فقد اشتفيت.

ثم يأتيه البريد بكتاب يزيد يأمره ان يحمل السبايا والرؤوس والاطفال الي قصر الخضراء في دمشق عاصمة الجلادين، ويسير الحداة بموكب السبايا الي حيث ابن ميسون في اعتساف وارهاق في الليل والنهار ليقطع موكب الرؤوس والسبايا مسافة ثلاثين يوما في عشرة ايام، ويضم العقيلة مجلس يزيد ورأس الحسين بن علي والزهراء بين يديه ينكث ثناياه بمخصرته ويتمثل بقول القائل:



ليـــت اشياخي بـــبـدر شهـدوا

جزع الخزرج من وقع الاسل



لأهـــلــوا واستهـــــلـوا فـرحاً

ثـم قـــــالوا يـا يــــزيد لا تشل



لـعــــــبـت هــــاشم بالملك فلا

خبـر جـاء ولا وحــــي نـــــزل



لست من خـــندق ان لـم أنتقم

مـن بــنـي احمد ما كان فعـــل



وكان علي زينب وقد رأته بتلك الحالة فرحا مسروراً يتمثل بهذه الابيات التي تعبر عن حقده وتعصبه لجاهلية جده وأبيه ووثنيتهما ويعبث بثنايا ابي عبدالله الحسين بمخصرته ان تتكلم بين تلك الحشود المجتمعة في مجلسه لتحرق دنيا سروره وفرحه بكلماتها التي كانت أشد وقعا عليه من الصواعق والتضع الكثيرين ممن كانوا يجهلون مكانة الاسي ولا يعرفون عنهم شيئا في جو تلك الاحداث وافتتحت كلامها بعد حمد الله بقولها: أظننت يا يزيد حيث اخذت علينا أقطار الارض وآفاق السماء وأصبحنا نساق كما تساق الاساري ان بنا علي الله هوانا وبك عليه كرامة، ومضت في حديثها وأبصار تلك الحشود المحيطة بيزيد شاخصة اليها تذكرهم بمنطق ابيها ومواقفه بين المعسكرين في صفين حينما كان يخاطب معاوية وحزبه ويناشدهم الرجوع عن غيهم وضلالهم الي حظيرة الاسلام وعدالته السمحاء.

ومضت تقول: أمن العدل يا ابن الطلقاء تخديرك اماءك وحرائرك وسوقك بنات رسول الله سبايا قد هتكت ستورهن وأبديت وجوههن تحدو اليهن الاعداء من بلد الي بلد ويستشرفهن اهل المناهل والمعاقل يتصفح وجوههن القريب والبعيد والدني والشريف وتتمني حضور آباءك قائلا:



ليـــت اشياخي بـــبـدر شهـدوا

جزع الخزرج من وقع الاسل



لأهـــلــوا واستهـــــلـوا فـرحاً

ثـم قـــــالوا يـا يــــزيد لا تشل



منحنيا علي ثنايا ابي عبدالله سيد شباب اهل الجنة تنكثها بمخصرتك وستردن وشيكا موردهم وتودن انك شللت وبكمت ولم تكن قلت ما قلت وفعلت ما فعلت، ومضت في خطابها توجه اليه اسوأ انواع التحقير والتقريع حتي سيطرت علي المجلس بمنطقها وأسلوبها الرائع، وراح الناس يتهامسون ويتلاومون وبكي بعضهم لهول المصاب وجسامته.

واستطردت العقيلة تقول: ولئن جرت علي الدواهي مخاطبتك اني لأستصغر قدرك توبيخك، ألا فالعجب العجب لقتل حزب الله النجباء بحزب الشيطان الطلقاء.

لقد دخلت زينب ابنة علي وفاطمة الي عاصمة الجلادين برسالتها رافعة صوتها الي كل من لهم عهد مع اهل هذا البيت وكل من آمنوا برسالة محمد في عصر وجيل وأرض ووراءها قافلة من الاسري وصفوف العداء من امامها تملأ الافق وتسد طريقها وكانت مسؤوليتها التاريخية الكبري هي اكمال الرسالة واتمام المسيرة ولسانا لمن قطعت ألسنتهم سيوف الجلادين ودخلت مدينة الجريمة عاصمة القهر والبطش والتنكيل بالابرياء وهناك رفعت صوتها المدوي في أعماق التاريخ لتقول لابن ميسون مستخفة به بكل ما في الاستخفاف والاحتقار من معني.