بازگشت

لماذا تقيم عزاء الحسين


إذا جرّد المعترض لسانه علي مفخرة الشيعة، وإمامهم الحسين، فماذا يمنعه ويكف لسانه عن الإعتراض عليهم أنفسهم، في إقامة عزاء إمامهم جيلاً بعد جيل، حتي مضت علي ذلك قرون كثيرة وأجيال متتابعة، ومصيبته عندهم لا تزال حيّة، بل هي مع الأجيال غضة طرية، نعم وربك.



بنفسي من لا زال غضاً مصائبه

كما لم يزل غضاً مدي الدهر مصحفُ [1] .



وفجايعُ الأيام تبقي مُدَّةً

وتزولُ وهي الي القيامةِ باقيه [2] .



يقول المعترض إنها بدعة، فنقول له ما أبدع هذه البدعة وما أروعها، ويقول إنها توجب إضراراً بالمال والجسد، فنقول له نحن نعدُّ هذه الأضرار منافع، فماذا يضرُّك أنت.

والقول الفصل في الجواب أن هذا موضوع آخر ساقنا اليه الإستطراد، وقد افرد لأجله تأليف الكتب ولكنّا نتبرّع لك في الجواب بما يحتمله موضوع كتابنا في وجوه:

الأول: إننا نروي الشي ء الكثير عن حامل رسالة السماء الخالدة جدّه رسول اللَّه إنه كان يحثُّ علي زيارته والبكاء عليه جيلاً بعد جيل، بعد أن يخبر بقتله قبل وقوعه، ويشمه ويقبّله في مواضع سهام القوم وسيوفهم، وهو أحد دلائل النبوّة، وتشترك في ذلك كتب الفريقين، وسيأتي ذكر بعضها في آخر البحث.

الثاني: قوله تعالي «وما جعل عليكم في الدين من حرج» [3] ونحوه، وقول النبي صلي الله عليه وآله «لا ضرر ولا ضرار في الإسلام» إنما ترفع به الأحكام الأولية التي لم


تبن أول الأمر علي الضرر والحرج وإنفاق المال، كالجهاد والصوم والحج ونحوها فلا يرفعها العسر والحرج والضرر، وذلك واضح لمن تأمل في أحكام الشريعة.

الثالث: إننا نروي الكثير عن ائمتنا قبل غيبة ثاني عشرهم انهم كانوا يحثون شيعتهم علي ذلك، [4] وكانوا في طليعة المطبقين أعمالهم علي أقوالهم، وأفعالهم علي أوامرهم، لأن الأقوال بغير الأفعال تعدُّ جزافاً، فاية غضاضة علي الشيعة في امتثال أوامر ائمتهم، وأي اعتراض عليهم في اقتدائهم بأفعال هداتهم وقادتهم، ولا أري المعترض يجد فرقاً بين القرنين وما زاد عليهما، فإن الحكم بين هذين الخطين واحد، لعدم ما يدل علي تحديده في اقصرهما أمداً، أما إذا زعم المعترض أن الخلفاء من آل محمد مبدعون، والأئمة الذين جعلهم اللَّه يهدون بأمره، قبل شيعتهم ضالون فما أحسن هذه البدعة، وما أرشد هذا الضلال إنا واللَّه نحيا ونموت علي طريقتهم، ونحشر وننشر علي هداهم، لا نبغي عليهم بدلاً، ولا نريد الي غيرهم حولاً.




أبا حسنٍ إن كان حُبكَ مُدخلي

جحيماً فإن الفوزَ عندي جحيمها [5] .



الرابع: لقد ورد من الأخبار الكثيرة المتواترة في الحث علي زيارة الحسين [6] ، وقد روي بعض ذلك الجمهور عن النبي صلي الله عليه وآله في بيت عائشة اُم المؤمنين إذ أخبرها بقتل الحسين عليه السلام، وكان إذ ذاك طفلاً رضيعاً، وذكر لها أن مَن زاره بعد قتله فله حجّة من حججه صلي الله عليه وآله، -فعجبت اُم المؤمنين، قائلة حجة من حججك، قال نعم بل حجتان فأعادت استفهامها التعجبي، وزاد الرسول في النصاب حجة اخري من حججه، فكلّما زاد الرسول حجة، حتي بلغت السبعين [7] فانقطعت عن الإستفهام، لأن السبعين من غايات الكثرة في عرف العرب، وقد ورد في غير هذا الخبر ما لا يتحمله عقل المعترض، فلنعرض عن ذكره لنقيله ونريح فكره منه.

والآن ماذا يروم المعترض؟، أيقترح علينا أن نزور الحسين عليه السلام بغير بكاء منّا عليه، ولقد جاء بكاؤه في كثير من اخبار زيارته مقروناً بها، وأن الملائكة تناديه «أيها الباكي لو علمت ما لك من الأجر لكان فرحك أعظم من حزنك» [8] وإذا كان البكاء علي الحسين عليه السلام جائزاً عند زيارته في حضرته، فإن المعترض يقول بعدم الفصل بين هذا البكاء وغيره في أي زمان من الأزمنة وفي أي مكان من بقاع الأرض.

نقول وبهذا الخبر وغيره وبهذه الأدلة وأمثالها نردُّ كل متحفز للأعتراض علينا بزيارة الحسين، حيث يدعي بدعيّتها، أو ما شاكل هذه الدعوي الزائفة من أدلّة هي


أوهن من بيت العنكبوت.

الخامس: لا زالت الأمم الحيّة تقدس عظمائها من علماء وشعراء، وتحتفل لهم الإحتفالات المئوية والألفية، كاحتفال العرب إحتفالاً الفياً لأبي العلاء المعري، وايران للشاعر الفردوسي، وغير هاتين من الاُمتين مما يطول بتعدادها الإملاء، فماذا يكون إذا قدست الأمة الإسلامية، بطل نهضتها حفيد نبيها الحسين عليه السلام.

ولعل المعترض يزعم أن ليست أفعال هذه الاُمم ادلةً شرعية، لتخرجها من البدعية، قلنا نعم، ولكن إن أقام المعترض دليلاً علي التحريم فإن ما ذكرناه من الأدلة ترجح من جانب دليل الحليّة، بل المشروعية علي دليله دليل التحريم، فيبقي دليل إصالة الحلية بلا معارض، ونكون تابعين لسيرة العقلاء والأمم الراقيّة الحيّة، إذا ضعفت أدلتنا عن حجيّة المشروعية، ولن تضعف أبداً «ولا يأتونك بمثل إلا جئناك بالحق وأحسن تفسيراً» [9] .

السادس: يقول الحسين عليه السلام «أنا قتيل العبرة» [10] وقد فهمنا أنها العبرة بكسر العين دون فتحها، لأن مضمونها مذكور في الفقرة الثانية، فيكون تأكيداً لما في الفقرة الأولي والتأسيس خير من التأكيد.

نقول فإذا كان الحسين قتل لأجل العبرة، وأن تأخذ اُمّة جدّه من نهضته دروساً نافعةً تصحبها الي اليوم الأخير، يوم يقوم الناس لرب العالمين، فكيف تستطيع الأمّة من كسب العبرة من نهضته، ما لم تكررها علي ذاكرتها، وتجددها لئلا يخلقها مرُّ العصور وتعاقب الملوين، فإن الإذن في الشي ء إذن في لوازمه، بل الأمر بالواجب أمر بمقدمته شرعاً وعرفاً وعادةً وعقلاً، ولعل المعترض يقول أيّة عبرة في نهضة الحسين ولكنّا نقول له أما مرّ عليك الكثير منها في تضاعيف الكتاب من


ردّ الحسين عادية بني اُمية عن دين الإسلام والنواميس العربية، ومن عدم إعطائه من نفسه الدنية، واستخذائه [11] للضيم فدون ذلك ارتكاب المنيّة، ومن تعليمه العلماء من الاُمة ألا يقارّوا علي كظة [12] ظالم ولا سغب مظلوم، ومن صبره علي الحوادث وعدم اكتراثه بالنوازل، ففل حدودها بدرع صبره السابغة «وكل ماضٍ بدرع الصبر مفلول».

وليس في الإعادة إفادة، وما سيتجددُ بتكرار ذكري نهضته من أسرارها اكثر، وما خفي علينا أشدَّ وأعظم، وكل مَن سار علي الدرب وصل واللَّه يهدي مَن يشاء الي سواء السبيل.

السابع: يقول الحسين عليه السلام، في هذا الحديث «ما ذُكرتُ عند مؤمن ولا مؤمنة إلا بكيا لمُصابي» [13] فقد جعل أرواحنا فداه البكاء عليه عند ذكر مصابه علامة للإيمان في هذه الفقرة الثانية، فأشبه الحديث الوارد عن جدّه في أبيه «يا علي حُبُك إيمان وبغضك كفر» [14] .

أجل فإن المؤمن يرث الحزن علي الحسين من قبل الأبوين الأب العنصري وهو آدم، فقد تلقي كلمات من ربه وهي أسماء الخمسة الأشباح محمد صلي الله عليه وآله وعلي عليه السلام وفاطمة عليها السلام والحسن عليه السلام والحسين عليه السلام، وذلك بعد معصية وهبوطه الي الأرض، وقد كان رأها مكتوبة علي ساق العرش، منذ أن كان في الجنة [15] ، فكان إذا ذكر الأربعة تسلّي بهم وانشرح صدره، وإذا ذكر الخامس هاجت بلابل حزنه وسالت الدموع علي خدّيه، فنقل الي جبرئيل ذلك، وسأله عن سبب هذا الحزن


وهذا البكاء، فأخبره أن هذا الخامس يقتل في تفصيل طويل [16] ، وسأل اللَّه آدم أن يحوّل أنوارهم من صُلبه الي أصابع كفّه، لينظر إليها بعيني رأسه، ويشاهدها طيلة حياته، فيأنس بها ويبتهج وتنبسط نفسه، فصار نور الحسين عليه السلام في ابهام كفه، فكان إذا نظر الي اصابعه الأربع فرح وانشرح صدره، وإذا نظر الي ابهامه حزن وتجددت لوعته، ومن هنا يؤمر من غلب عليه الضحك بالنظر الي إبهام يده اليمني.

الثاني: الأبوان الروحيان محمد وعلي، كما يقول صلي الله عليه وآله في الحديث المتواتر عنه «يا علي أنا وأنت أبوا هذه الأمة» [17] والمؤمن ينتسب لآدم حقاً فيرثه لأنه ليس في سلسلة نسبه اليه زنا، لأن الزاني يفسد النسل ويهلكه الي يوم القيامة، وإذا لم يكن في سلسلة نسبه فساد ورث الإيمان من محمد وعلي أبوي هذه الأمة وورث معه عنهما الحزن علي فلذة كبدهما الحسين، فاستَحق أن يُخاطب من قبل الصادق عليه السلام انتم الطيبون ونساؤكم الطيبات يشير الي آية «والطيبات للطيبين والطيبون للطيبات» [18] واستحق أن يخلع عليه الحسين هذه الخلعة السنية «ما ذكرت عند مؤمن ولا مؤمنة إلا بكيا لمصابي».

الثامن: رأي الصادق عليه السلام - وهو رئيس مذهب الشيعة - أن التشيع إنما قامت دعائمه وثبتت أركانه وانتشر طائراً صيته في جميع أنحاء المعمورة بقتل جدّه الحسين، ومن هنا قيل للإسلام علوي، وللتشيع حسيني، وللمذهب جعفري، فكان لزاماً عليه أن يُحيي في جميع أجيال تابعيه ذكري جدّه الحسين عليه السلام، وأن يجعلها دائماً نصب أعينهم ومل ء آذانهم، وهجيراهم [19] الذي عليه يحيون وعليه يميتون، كل ذالك قياماً ببعض الواجب، وعرفاناً للجميل،


وجزاءً للإحسان بالإحسان وتحقيقاً لكون علّة الحدوث هي علّة البقاء، فإن عرض مظلومية الحسين لو لم تَحيَ مع الأجيال، وذهبت مع أمس الدابر لذهبت بمفعولها، وانطمست بآثارها، وقد ذكرنا كثيراً أن الآثار تتبع الأشياء بوجودها الخارجي دون الذهني.

التاسع: «دع ما إدعته النصاري في نبيّهم» [20] .



إذ جعلوه ربّهم أو جزءً لربهم، ودع احتفالاتهم العظيمة لعيد ميلاده وغيره ودع اليهود وأعيادها المتعددة، ودع غيرهما من الملليين، وصوّب النظر وصعّده في المسلمين، تجدهم يقدّسون يوم ميلاد نبيهم الأعظم، ويحتفلون به إحتفالاً منقطع النظير، في كل سنة وفي كل صقعٍ من الأصقاع علي إختلاف نحلهم ونزعاتهم وألسنتهم ولهجاتهم.

ثم نقول فما هو الفارق بين الفرح والحزن، وقد جاء عن ائمتنا «شيعتنا خلقوا من فاضل طينتنا يفرحون لفرحنا، ويحزنون لحزننا» [21] وها نحن لا نختص الحسين بهذا الأمر بل نفرح بعيد ميلاد الرسول ونحزن أعمق الحزن يوم وفاته، أما زيادة حزننا علي الحسين طول السنة دون جدّه وأبيه وآلهما، فإنما ذلك لعظم مصيبته علي جميع المصائب يا معشر المسلمين، ولماذا لا تعذروننا وأنتم تروننا نترك مصايبنا الخاصة بنا وندس بها في أوّل صدمتها مصيبة الحسين، ثم تنكص تلك المصايب علي عقيبها، وتجري مصيبة الحسين الي امد لا يعلم مداه إلا اللَّه رب العالمين، أليس في ذلك برهان واضح وسلطان مبين أن اللَّه حافظ هذه المصيبة في كل جيل، وفي كل صقع لأمر هو بالغه كما حفظ دينه الإسلام وكتابه القرآن.




بنفسي مَن لا زالَ غضاً مصابه

كما لم يزل غضاً مدي الدهرِ مصحفُ [22] .



أنست رزيتكم رزايانا التي

سَلَفت وهوّنت الرزايا الآتية [23] .



العاشر: أن الشيعة ترجوا وتتوخي من إقامة عزاء الحسين فوائد كلها معقولة، وأكثرها مجرّبةً، والوجدان فضلاً عن البرهان قائم عليها، واليك بعضها لأن موضوع البحث لا يتحملها كلها، وما لا يدرك كلّه لا يترك كله:

الأولي: أن الكثير من خدّام الماتم العزائية - ومنهم الذاكرون - يعيشون بفضل الحسين عشية راضيةً هنيّةً «واحبُّ عباد اللَّه أنفعهم لعباد اللَّه».

الثانية: أن الفقراء والمساكين ينتفعون في مجالس العزاء كثيراً، وربما اعدي بعض الحاضرين كرم الحسين، فجاد علي بعض الفقراء، حتي جعله في مصافِّ الأغنياء «وخير الصدقة ما أكسبت غنيً» [24] .

الثالثة: ينتفع الاُدباء من شعراء ومؤلفين ووعاظ ونحوهم، فإن تعزية الحسين لو لم تكن سوقاً رائجة لم تنفق بها بضايعهم، وإذا لم يشترها منهم أحد وكسدت في أيديهم، فلماذا يصنعونها وهم يعلمون أنهم لا يبيعونها.

الرابعة: من المحقق أن تعزية الحسين مدرسة سيّارة، حيث تنشر فيها الآداب وتلقي بها الخُطب العصماء، والإشعار الرائقة في جميع اللغات، فهي مهد الحضارة ومعهد الآداب، ومنبر الوعظ والإرشاد، ومجمع النصايح، وملتقي العلوم الحاضرة الحديثة والقديمة الكريمة، وما لا يحصي من هذا القبيل.

الخامسة: إقامة عزاء الحسين لا تكون إلا بالإجتماع، وهل تدري ما هي فوائد الإجتماع فإن الإنسان مدني بالطبع، واليد الواحدة لا تصفق، وعيشة الوحدة والإنفراد عيشة الوحوش، إلا لمن يريد تهذيب نفسه وتصفيتها من الرذائل


وتكميلها بالتكفير، وهم الأوحدي النادر من الناس أما النوّع الإنساني والسواد الأعظم منه فإن الإجتماع هو دواؤهم الناجع، وسلاحهم الذي يكافحون به أدواء مجتمعهم، ومن ثم قيل «المجالس كالمدارس» (بل إنها هي لا في كاف تشبيه) أتحسبني مبالغاً في فوائد الإجتماع، فهل كنت في غفلة عن اهتمام الشرع والعقلاء فيه، فانظر كيف شرع مجتمعاً يتكرر يومياً لصلاة الجماعة، ولم يكفه ذلك حتي توسّع فيه، فجعله اسبوعياً لصلاة الجمعة، ليتفاوض فيه الناس عمّا جري في اسبوعهم، وليدرسوا حوادثهم فيه درساً كاملاً، ينفعهم في مستقبلهم وارتقي به الأمر، فعقد لهم نادياً سنوياً في صلاة العيد، وحتّم عليهم حضور هذين المجتمعين من بُعد فرسخين، ولم يرخص عن عدم حضورهما إلا لمن ليس له قابلية الإستعداد، لتلقي الدروس النافعة وتلقينها الغائبين عن مجلس الخطاب، كاهل العاهات من الأعمي والمريض والأعرج، والهِم والأنثي، وقد جاء أن المرأة لا عقل لها، واتسع نطاق الإسلام، وترامت أطرافه، وكادت تبلغ منتهي الخف والحافر، فاحتاجوا الي مجمع عظيم، كأعظم ما يتصوره العقل وتجري به العادة، فشرّع لهم الحج «وأذّن في الناس بالحج يأتوك رجالاً وعلي كل ضامرٍ يأتين من كل فجٍ عميق ليشهدوا منافع لهم....» [25] صدق اللَّه تعالي فما أكثر هذه المنافع التي يشهدونها، ويرجعون بها الي بلدانهم الشاسعة، وأقطارهم النائية، وفجاجهم العميقة، وقد ندب الشارع اتباعه لإستقبال الحاج ومصافحتهم، كل ذلك تنشيطاً لهممهم، وتثقيفاً لعزائمهم، وإستلهاماً لما رأي الحاج في هذه المجامع العظيمة والإجتماعات الضخمة المهمة، فالي الوئام والإخاء والمصافحة والمعانقة، ومبادلة الود والعواطف، أيها المسلمون، والي ما اندبتكم الشريعة، أيها الشيعة، والي ما دعتكم اليه ائمتكم، وحضّتكم عليه هُداتكم، أيها الإخوان، وإذا أردتم


تحقيق هذا وأضعاف هذا، فالإجتماع الإجتماع الإجتماع لإقامة عزاء سيد الشهداء.

السادسة: يري الشيعة أن في إقامة عزاء الحسين نماء أسباب المعاش وخصب وسعة الأرزاق، وهناء حياتهم بوفور معدّاتها، ويرون بقطعها اضدادها، وليس هذا إعتقاداً فارغاً من الحقيقة لتقول «كل حزبٍ بما لديهم فرحون» [26] فهؤلاء عُبّاد البقر في الهند، وهم يعبدون الأصنام، ويقدّسون البقر ويقيمون عزاء الحسين، وهم لا يعتقدون بجدّ الحسين، ولا بربّ الحسين أفتراهم يرجون ثواباً اُخروياً، كلا ثم كلا، ولكنهم جرّبوا في إقامة عزائه خصب سعة أرزاقهم وبركة معدّات معايشهم، وجرّبوا بقطعها البلاء المنصب عليهم بما لم يألفوه، فقدّسوا الحسين بإقامة عزائه، وإن لم يدينوا بدينه ولم يعرفوه.

السابعة: يري الشيعة لأئمتهم خصوصاً الحسين فضائل كثيرة ومعجزات عظيمة وفيرة، تنذر لبلوغ اكثرها النذور فتوفي، وتشاهد أكثرها في المجالس العزائية كشفاء المرضي ومعافاة أرباب العاهات والمؤوفين، وأعظمها ما ينقل لنا متواتراً اولئك الكفرة يمشون جائين ذاهبين في العزاء علي النيران الموقدة من أخشاب أشجار الهند الصلبة، فلا تحرقهم ولا تؤثر عليهم شيئاً، حتي تنطفي ء تحت أرجلهم، وهم يندبون الحسين ندبة أحرُّ جويً من تلك النيران الملتهبة، أم تري أن حرارة نيران الخشب تندك بلواعج أحزان القلب، إذن فلا بهر ولا عجب.

الثامنة: أن الشيعة بإقامة عزاء الحسين يحققون ما ذكره نبيهم الأعظم فقد وعد بهم عن ظهر الغيب انهم سيقيمون عزاءه جيلاً بعد جيل، وهدأ بذلك روع بضعته الزهراء حتي اطمأن بالها وسكن خاطرها، وتسلّت عن ذبح ولدها بعض التسلية، كما أن الشيعة إذ تحقق لنبيهم وبضعته مناها يرجون ما وعدوهما من شفاعتهما


الكبري، ويتلعون أعناقهم لتلقي عارفتهم واستقبالهم يوم الفزع الأكبر «يوم يفرُ المرء من أخيه واُمه وأبيه» [27] ، «وفصيلته التي تؤويه» [28] ويسرني كثيراً - بل يحزنني عظيماً - أن أتيامن بختم الكتاب بالرواية التي تشتمل علي هذه الوعود الكريمة والبشارات العظيمة، في تلك المراجعة التي جرت في عهد طفولة الحسين بين النبي وبضعته، والحوار الذي دار حول مصيبته وإقامة عزائه، بين المصطفي وثمرة قلبه وقرة عينه الحوراء الزهراء عليها السلام، وذلك حين دخل الحسن وأخوه الحسين يوماً علي النبي صلي الله عليه وآله فشمَّ الحسن عليه السلام في فمه وشمَّ الحسن في نحره، فقام الحسين واقبل الي اُمه، فقال لها يا اماه شمّي فمي، هل تجدين فيه رائحة يكرهها جدّي رسول اللَّه» فشمته في فمه، فإذا هو أطيب من المسك، ثم جاءت به الي أبيها، فقالت له أبَه لم كسرت قلب ولدي الحسين عليه السلام فقال صلي الله عليه وآله ممَّ، قالت تشمُّ أخاه في فمه، وتشمه في نحره، فلمّا سمع صلي الله عليه وآله بكي وقال بنيّة أما ولدي الحسن، فإني شممته في فمه لأنه يسقي السمّ فيموت مسموماً، وأما الحسين فإني شممته في نحره، لأنه يذبح من الوريد الي الوريد، فلما سمعت فاطمة بكت بكاءً شديداً، وقالت أبَه متي يكون ذلك، فقال لها بُنية في زمان خالٍ مني مني ومنكِ ومن أبيه وأخيه، فاشتدَّ بكاؤها، ثم قالت أبَه إذن فمن يبكي عليه، ومن يلتزم بإقامة العزاء عليه، فقال لها بُنيّة فاطمة إن نساء اُمتي يبكون علي نساء أهل بيتي، ورجالهم يبكون علي ولدي الحسين وأهل بيته، ويجددون عليه العزاء جيلاً بعد جيل، فإذا كان يوم القيامة أنت تشفعين للنساء وأنا أشفع للرجال، وكل مَن بكي علي ولدك الحسين عليه السلام أخذنا بيده وأدخلناه الجنة [29] .

علي إننا يا مولاي أبا عبد اللَّه، يا سيدي يا بن رسول اللَّه إنما نبكيك لعظيم


مصيبتك علينا وننوحك لحرقة رزيتنا - اي واللَّه -.



تَبكيكَ عَيني لا لأجلِ مَثوبةٍ

لكنّما عَيني لأجلِك باكية



تَبتلُ مِنكم كَربلا بِدمٍ وَلا

تَبتلُ مِني بالدُموعِ الجارية [30] .




پاورقي

[1] للمغفور له الشيخ عبد الحسين الاعسم المتوفي سنة 1247 هجرية.

[2] من قصيدة مرت الاشارة اليها.

[3] سورة الحج / 78.

[4] نعم حثَّ الائمة الاطهار سلام اللَّه عليهم شيعتهم ومحبيهم علي إقامة مجالس العزاء والبکاء علي سيد الشهداء وزيارة قبره الشريف عبر العديد من النصوص الشريفة الواردة عنهم عليهم السلام.

قال الامام الصادق (ع) للفضيل يا فضيل تجلسون وتتحدثون قال نعم جعلت فداک، قال إن تلک المجالس احبها فاحيوا امرنا يا فضيل فرحم اللَّه من احيا امرنا - ثم ذکر له فضل البکاء - فقال يا فضيل من ذکرنا او ذُکرنا عنده فخرج من عينيه مثل جناح الذباب غفر اللَّه ذنوبه ولو کانت اکثر من زبد البحر....

انظر بحار الانوار ج 44 ص 282.

وقال عليه السلام لرجل من اصحابه يقال له هارون بن خارجة مبيّناً له فضل‏زيارة الحسين: يا هارون من اتي قبر الحسين زائراً له عارفاً بحقه يريد به وجه اللَّه والدار الاخرة غفر اللَّه ما تقدم من ذنبه وما تأخر....

انظر کامل الزيارات لابن قولويه ص 273.

الي غير ذلک من الروايات الشريفة التي ندب الائمة من خلالها شيعتهم علي تعظيم شعائر الحسين بن علي عليهما السلام.

[5] للحافظ رجب البرسي رحمه اللَّه.

[6] بوسعک أخي القاري‏ء أن ترجع الي کتاب (کامل الزيارات) لتقف علي الکم الهائل من الاخبار الصحيحة والروايات المعتبرة التي تضمنت حثَّ القادة العظام عليهم السلام علي زيارة نصير الحق الحسين بن علي عليه السلام وما يترتب علي ذلک من أجرٍ جزيل وثوابٍ خطير.

[7] مناقب آل ابي طالب ج 4 ص 128.

[8] العوالم للشيخ عبد اللَّه البحراني ج 17 ص 534.

[9] سورة الفرقان / 33.

[10] کامل الزيارات ص 215.

[11] اتضاعه وانقياده / المؤلف.

[12] الکظة: امتلاء البطن، والسغب: شدة الجوع والمراد بهما شدّة الظلم / المؤلف.

[13] کامل الزيارات ص 216.

[14] انظر الرياض النضرة ج 2 ص 213.

[15] انظر تفسير (مجمع البيان) ج 1 ص 200.

[16] العوالم ج 17 ص 104، والايقاد ص 59.

[17] أمالي الشيخ الصدوق ص 755.

[18] سورة النور / 26.

[19] الهجيري والأهجورة والأهجيري والهجرتاء والاهجيراء: الدأب والشأن / المؤلف.

[20] هذا صدر بيت وأما عجزه فهو «واحکم بما شئت مدحاً فيه واحتکم».

والبيت من قصيدة عصماء للبوصيري يمدح بها النبي صلي اللَّه عليه وآله وسلم مطلعها:



أمن تذکر جيرانٍ بذي سلم

مزجت دمعاً جري من مقلة بدمِ.

[21] امالي الشيخ الطوسي ص 299.

[22] کلاهما للشاعر المحلق المغفور له الشيخ عبد الحسين الاعسم المتوفي سنة 1247 هجرية.

[23] کلاهما للشاعر المحلق المغفور له الشيخ عبد الحسين الاعسم المتوفي سنة 1247 هجرية.

[24] لئالي‏ء الاخبار ج 3 ص 101.

[25] سورة الحج / 28 - 27.

[26] سورة الروم / 32.

[27] سورة عبس / 35 - 34.

[28] سورة المعارج / 13.

[29] تظلم الزهراء ص 48.

[30] من قصيدة اشرنا اليها اکثر من مرة فيما تقدم.