بازگشت

في عاصمة الامويين






انظُر الي ظفر النبي محمدٍ

بقُريش بعد الطردِ والتكذيبِ



تَزدد يقيناً أن خيرَ الخلقِ إن

يظفر تناهي الفوز للمغلوبِ



ثم لقد ظفر النبي خير خلق اللَّه بقريش، بعد أن كذّبوه وعذّبوه ومن آمن معه أنواع العذاب، ولا ذنب له إلا أن دعاهم ليعبدوا اللَّه وحده، ولينقذهم من هوة الضلالة وحماة الرذيلة، ولم يكفهم أن طردوه عن مسقط رأسه ومنزل الوحي مكة المكرمة، حتي غزوه في عقر داره وقتلوا الكثير من أنصاره واطايب اُرومته كعمة الحمزة [1] ، ثم أظفره اللَّه بهم، فدخل مكة في عشرة آلاف فارس [2] مدججين بالحديد، يقدمهم سعد بن عبادة الخزرجي [3] ، وبيده الراية العظمي هاتفاً بما توحي اليه طبيعة الحال وتملي عليه مناسبات الظروف:

«اليوم يوم الملحمة، اليوم تسبي الحرمة، أذلَّ اللَّه قريشاً» [4] .

فانخلعت قلوبهم خوفاً وهلعاً وارتعدت فرائصهم رعباً وفرقاً، فرفعوا أمره الي النبي الأعظم، فامر بدفع الراية الي شريكه في وتره ومشاطره في أمره علي ابن أبي طالب عليه السلام، فعرف مغزي ما أراد الرسول صلي الله عليه وآله، ونادي بعكس ذلك النداء:


«اليوم يوم المرحمة، اليوم تصان الحرمة، أعزَّ اللَّه قريشاً» [5] .

ثم دخل المسجد الحرام والأحداث والخطوب فيما بينهم وبينه كلها تهددهم بخطر الثأر وتنذرهم بالقتل فتقطعت أمامهم خيوط الرجاء، وضاقت لديهم رقعة الأمل فما راعهم إلا وهو يهب لهم حياةً جديدة ويعفو عنهم عفواً عاماً، بكلمته التي ضرب بها المثل الأعلي للصفح بعد المقدرة «إذهبوا، فأنتم الطلقاء» [6] وإن تعجب فعجبٌ فعله مع أبي سفيان قائد جيش اُحد والأحزاب وكل زحف كان حاضراً فيه، حيث قد جعل داره في المرتبة الثانية من المسجد الحرام في الأمن، إذ جعله ينادي بملأ من قريش بملي ء فيه «من دخل المسجد الحرام فهو آمن، ومن دخل دار أبي سفيان فهو آمن» [7] ودار ابي سفيان قعيدتها هند بنت عتبة التي شقّت بطن الحمزة وأخرجت كبده من جوفه، فلاكتها ولم تسُغها، وفعلت غير ذلك ما فعلت مما يندي منه جبين الإنسانية، فقد حاز أبو سفيان في هذا الأمان أعظم فوز وأجلَّ مكرُمة لم يحظ بها طيلة عمره، كما مرَّ في الرباعية الآنفة «تناهي الفوز للمغلوب».

ولكن هلم معي فاعجب، وما عشت أراك الدهر عجباً، حيث ظفر يزيد حفيد أبي سفيان (لع) بعائلة الحسين حفيد محمد هذا «فهل تدرون ما كان الجزاء» وهل علمت بما إذا كافاه عن حُسن صنيعه، أم هل تراه يشير إليه في الحديث المتواتر عنه «إتقِ شرَّ مَن أحسنت إليه» [8] فقد أحدث في عاصمته الشام عيداً سماه عيد


الظفر، وأمر أن يخرج الناس أفواجاً وبيدهم الطبول والمزامير، يتلقّون بها اساري الخارجي المجهول، وهكذا فعلوا، إذ الناس علي دين ملوكهم، وأذِن للناس إذناً عامّاً في مجلسه الذي عقده للتفرج عليهم والشماتة بهم [9] ، وأخذ بعد ذلك يتفنن بالتنكيل بهم وإفشاءه الشماتة فيهم، وإيصال الأذي إليهم، كما يوحي اليه كفره وإلحاده، ويملي عليه بغضه لدين الإسلام ونبي الإسلام، وهو في كل ذلك يريد قتلهم وأن لا يبقي لأهل هذا البيت علي وجه الأرض شعرةٌ واحدة لأنهم الشجا المعترض في حلقه والقذي الذي يجول في عينيه، حتي آن لزينب بنت أمير المؤمنين أن تعيد دور اُمها فاطمة الزهراء سيدة نساء العالمين، وتصب عليه سياط زواجرها وتصكّه بقوارع تأنيبها وقوارص توبيخها، فنزلت عليه خُطبتها نزول الصاعقة المحرقة، حيث أبدت بعد حمد اللَّه والصلاة علي جدّها رسول اللَّه، بهذه الآية التي اقتبستها من كتاب اللَّه «ثم كان عاقبة الذين اسآؤا السوء أن كذبوا بآيات اللَّه وكانوا بها يستهزئون» [10] ثم قالت «أظننت يا يزيد حيث أخذت علينا أقطار الأرض وافاق السماء، فأصبحنا نساق كما تساق الإماء أن بنا علي اللَّه هواناً، وبك عليه كرامة، وأن ذلك لعظم خطرك عنده، فشمخت بأنفك، ونظرت في عطفك، جذلان مسروراً، حين رأيت الدنيا لك مستوسقةً، والأمور متسقةً، وحين صفا لك ملكنا وسلطاننا، فمهلاً مهلاً، لا تطيش جهلاً، أنسيت قول اللَّه تعالي «ولا يحسبنَّ الذين كفروا إنما نملي لهم خير لأنفسهم إنما نملي لهم ليزدادوا إثماً ولهم عذاب مهين» [11] أمن العدل يا ابن الطلقاء تخديرك حرائرك وإماءك وسوقك بنات رسول اللَّه سبايا، قد هتكت ستورهن وأبديت وجوههن،


تحدو بهن الأعداء من بلد الي بلد ويستشرفهن أهل المناهل والمناقل، ويتصفّح وجوههن القريب والبعيد والدني والشريف، ليس معهن من رجالهن ولي ولا من حماتهن حمي، وكيف يرتجي مراقبة ابن من لفظ فوه أكباد الأزكياء، ونبت لحمه بدماء الشهداء، وكيف يستبطأ في بغضنا أهل البيت من نظر إلينا بالشنف [12] والشنئان والإحن والأضغان، ثم تقول غير متأثم ولا مستعظم:



لأهلّوا واستهلّوا فرحاً

ثم قالوا يا يزيدُ لا تَشل



منحنياً علي ثنايا أبي عبد اللَّه سيد شباب أهل الجنة تنكتها بمخصرتك، وكيف لا تقول ذلك وقد نكأت القرحة، واستأصلت الشأفة بإراقتك دماء ذرية محمدصلي الله عليه وآله، ونجوم الأرض من آل عبد المطلب، وتهتف بأشياخك، زعمت أنك تناديهم، فلتردنَّ وشيكاً موردهم، ولتودنَّ أنك شللت وبكمت، ولم تكن قلت ما قلت، وفعلت ما فعلت - الي أن قالت - ولئن جرّت عليَّ الدواهي مخاطبتك، إني لأستصغر قدرك، وأستعظم تقريعك، واستكبر توبيخك، لكن العيون عبري والصدور حرّي [13] ....«.

إن هذه الكلمات الحارَّة الي الكثير من اضعافها وأمثالها وما هو أشدُّ منها لو صبَّت علي سوقة من الناس مغلوب لذاب وانماث فؤاده كما ينماث الملح في الماء فضلاً عن ملك ظافر يعقد لظفره محفلاً يزخر بمختلف الطبقات ليتم سروره واُنسه، ويزهي أمامهم كما يزهي الطاووس بألوان ريشه، ويختال بينهم كما يختال الغراب، لكن يزيد غليظ جلدة الوجه، وهو من أبرز مصاديق الحديث «شر الناس البذي ء الوقّاح، الذي لا يبالي بما قال وما قيل له» [14] .

وعلي كل فإنا نستنبط من حوادث مجالس يزيد اُموراً كثيرةً:


الأول: أن زينب وابن أخيها قد ذكرا توبيخ يزيد، أضعاف ما نُقل الينا، واختلاف نسخ خطبتها هذا الإختلاف العظيم يفصح عن ذلك، وأن لهما معه خطباً متعددة.

الثاني: لم يختص زين العابدين وعمته بتوبيخ يزيد وتقريعه، فإن صغير أهل البيت جمرة لا تداس، وكبيرهم بغيره لا يقاس، وقد فتح لهم الباب علي مصراعيه وكبيرهم زينب وابن أخيها السجاد.

الثالث: لقد رجع يزيد الظافر العزيز مغلوباً ذليلاً أمام اُساراه الذين أراد الفخر والإستطالة عليهم، فما حدثنا التاريخ بآسرٍ عاد مغلوباً لأسيره ذليلاً بين يديه كما وقع ليزيد واُساراه، وأيم اللَّه لقد كان بنو اُمية مغلوبين في فتح مكة أعزَّ منهم غالبين يوم الطف «وللَّه العزّة ولرسوله وللمؤمنين» [15] فقد نادي أبو سفيان يوم فتح مكة في شعابها وأحيائها - كامر الرسول - «من دخل المسجد الحرام فهو آمن، ومن دخل دار أبي سفيان فهو آمن» وعاد يزيد بعد الطف وبعد ذلك التأنيب الذي لاقاه بملأ من الناس يدخل داره ويخلو بنفسه ويندبُ حظّه التعيس ويلطم علي رأسه قائلاً «مالي وما للحسين بن علي بن أبي طالب».

الرابع: أخذ يزيد - كما سماه ابوه - يزيد علي التوبيخ عتواً واستكباراً، وعلي كثرة العِبر ضلالاً عن الرشد وتمادياً في البغي والطغيان إرادة الإنتصار لنفسه، والثأر لها وقد أدرك ما وقع في المجلس السابق في محفله اللاحق، غير أن كيد الشيطان كان ضعيفاً، فما اسرع أن تعود جولة باطله مغلوبة أمام صولة الحق، مهزومة لقوة سلاحه اقبح هزيمة، ومندحرةً لشدة بأسه اعظم اندحار - نعم وجلال اللَّه -.



إذا لم يكن عونٌ من اللَّهِ للفتي

فأكثرُ ما يجني عليه إجتهاده




الخامس: استشار يزيد أهل الشام في اُساراه بعدما عُرِفوا لديهم، وأهل الشام قد اشرب معاوية في قلوبهم بغض علي بن أبي طالب وبنيه، بما روي لهم سمرة بن جندب وأضرابه، وبما قرر معاوية في أذهانهم أنه قتل عثمان، وعلي أثر هذا التقرير وقعت ملحمة صفين، فقتل فيها الكثرة العظيمة من رجالاتهم، فكان طبيعياً أن يقولوا له «لا تتخذ من كلب السوء جُرواً» ليقول له الباقر علي صغر سنّه [16] إذ ذاك «جلساء أخيك فرعون خيرٌ من جلسائك، لأنهم أبناء رشدةٍ، وجلساؤك ليسوا بابناءِ رشدةٍ» [17] فوقعت مشورة أهل الشام موقع القبول من قلب يزيد، وصادفت هويً في نفسه، وتلقاها مرتاحاً لها كما يتلقي الفؤاد المحرور بارد الماء النقيع، وإن كانوا لم يأتوه برأي مبتكر، بل لابد لجليس السلطان أن يتكلم بهوي السلطان، فإن يزيد - كما استنبطنا من مجموع سيرته، وصرّحنا به كثيراً - كان إبادة اهل هذا البيت عن جديد الأرض هدفه الوحيد وضالته المنشودة وغرضه الذي لا يري في الوجود سواه، لأنه بالقضاء علي ذرية محمد يقضي علي دين محمد، وفي خطبة زينب الآنفة الذكر دلالة واضحة علي ما قلناه وبرهان ساطع، إذ نقول له «فكد كيدك، واسع سعيك وناصب جهدك، فواللَّه لا تمحو ذكرنا، ولا تميت وحينا، ولا تدرك أمدنا»، صدق اللَّه ورسوله وصدقت ابنة رسوله، يريد ابن معاوية يزيد - بسعيه وجهده - أن يمحو ذكر محمد، ويميت وحي محمد ودين محمد، بإبادته لذرية محمد ويريد اللَّه أن يظهره «علي الدين كلّه ولو كره المشركون» [18] فجعل اللَّه زينب من أبرز الأسباب الظاهرة لحفظ دينه وخلوده في الوجود بحفظ سدنته «مهابط وحي اللَّه خزان علمه» [19] حيث أسند لها ذلك شقيق عظمتها أخوها


الحسين، وزوّدها بوصيته لها بالثبات، ودعائه لها أن يربط اللَّه علي قلبها بالصبر، ووفر لديها معدّات الكفاح بل جهّزها بأسلحة الظفر بالعدو والأنتصار عليه حيث عرّف بها زين العابدين أنها ابنة علي سيد البلغاء وسليلة فاطمة التي احتكرت بلاغات النساء في خطبتها العصماء [20] ، وقد ورثت من هذين الأبوين قوة العارضة والبيان، وفصاحة المنطق ومضاء اللسان، كشقيقها الحسين خطيب الطف الذي شهد له عدوّه ابن سعد بعد ما تدفق بيانه خطباً منسجمةً «تدفّق الماء في الأمثال والحِكم» فقال لأصحابه «ويلكم كلّموه فإنه ابن ابيه، واللَّه لو وقف فيكم هكذا يوماً جديداً لما انقطع ولما حُصر» [21] وبعد فإذا عجزت قوّتها البشرية فقد ادخر لها الحسين ما يكفيها لمهمتها من القوّة الإلهية، من استجابة الدعاء، فكم دعت اللَّه علي مَن تحرش برأس الحسين، أو لأحد عياله، فحقق اللَّه لها أملها، واستجاب دعاءها [22] ، وإذا تدلّي العذاب علي القوم الظالمين، بدعاء فضّة أمَة فاطمة، فما بالك بدعاء زينب بنت فاطمة التي تدلّي العذاب وتقلّعت الحيطان [23] أن همّت برفع قناعها وانشدت بلسان حالها.




خلّوا ابن عمّي أو لأكشف بالدُّعا

رأسي وأشكو للإله شجوني [24] .



فمن دعت عليه زينب فاهلكه اللَّه، اللخمي، الذي طلب من يزيد سكينة يتيمة الحسين عليه السلام، لتكون خادمةً له، وكان عارفاً بها، فأراد أن يستخدمها تنكيلاً بأهل البيت وامتهاناً لهم، لأنه من القوم الذين غرس معاوية في قلوبهم بغض أهل البيت، فأخذه اللَّه أخذ عزيز مقتدر استجابةً لدعاء زينب وأهلكه من وقته وساعته [25] ، وجاء الشامي الآخر المسكين المخدوع بأكاذيب يزيد وزخارفه فطلب من يزيد يتيمة الحسين فاطمة الصغري وقال له يا أمير هَب لي هذه الجارية [26] من هذه الغنيمة لتكون خادمةً لي في منزلي فلاذت اليتيمة بعمّتها زينب عليها السلام [27] الكهف الذي أمرهم الحسين عليه السلام أن يعتصموا به كلما نزلت بهم إحدي الملمّات، قائلةً «عمّة اُتمت علي صغر سني واُستَخدم» [28] تريد أما تكفيني مصيبة واحدة هي مصيبة اليتم وكفي بها ذلة وسوء حال، حتي تقرن اليها مصيبة انفصالي عنكم انفصال الغصن من دوحته ثم استخدم مُهانةً في بيوت الشامتين، فهدّأت روعها عمتها زينب، وبشرتها أنه ما جعل اللَّه ذلك له ولا لأميره الأعظم منه، فانفتفخت أوداج يزيد (لع) غيضاً وغضباً، لأنه اتخذهم مغنماً يهب منه لمن يشاء ويقسمه حيث أراد، وقد رآي زينب تلحد في سلطانه وتغضُّ في مجلسه من قدره، فقال ذلك لي ولو شئت لفعلت [29] ، قالت له «إلا أن تخرج من ملتنا وتدين بغير ديننا» [30] فاحتدمت وقدة غضبه وتسلّح بالسبّ والشتم، وهما سلاح البذي ء المخذول قائلاً لها «أياي


تستقبلين بهذا الخطاب إنما خرج من الدين ابوك وأخوك» [31] قطع اللَّه لسانه أيظن زينب من أهل الشام، تؤمن بكل ما تسمع من يزيد أو سمرة بن جندب، كلا فقد ردّت كيده في نحره بلسان أمضي من شفرة السيف الصقيل، وابلغ أثراً من وخز السنان الرُّديني «بدين جدّي وأبي وأخي اهتديت إن كنت مسلماً» [32] فجاءت بكلمة إن وهي للشك إيذاناً بأن إظهاره للإسلام هو مثار للشك، وفعله وقوله هذا يصرح عن حقيقة أمره وصريح كفره، وما لبث المسكين المخدوع الذي طلب من يزيد أن تكون الطفلة خادمة له في منزله أن أسلم وجهه للَّه وتبرأ من يزيد ولعنه، فقتله [33] يزيد، وظنَّ أن في قتله ثاراً من زينب وأهل البيت، وكم قتل هو وجنوده من الاحبار والرهبان وغيرهم من المستبصرين أمثال هذا، ستراً للحقيقة وكتماناً لأفعالهم الشنيعة «وليس لما قد أظهر اللَّه كاتم».



يحاولُ أن يُخفي علي الناس أمره

ضلالاً ومَن ذا يسترُ الشمسَ باليدِ



ضاق يزيد ذرعاً باُساراه، وبطلت في قتلهم أو التنكيل بهم حِيله، وحاق به - دونهم - مكره - «ولا يحيق المكر السي ء إلا بأهله» [34] أراد أن يجعلهم خوراج مجهولين، فصاروا أنبه شأناً من الشمس في خُطبة زين العابدين، وحاول أن يؤكد في الأذهان أنهم أعداء الإسلام والدين الذين أوجب سبّهم والبراءة منهم نبي المسلمين، كما حقق ذلك عندهم معاوية (لع) خال المؤمنين، فصرّح المخض عن زبده، وكشفت الرغوة عن الصريح، وإذا هم الشعار للإسلام دون الدثار، وإذا هم أركانه ودعائمه التي قام عليها بناؤه بعد جدّهم المختار، وكان طبيعياً أن يعود ذلك البغض في نفوسهم حباً، وينقلب سبّهم وشتمهم ذكراً حسناً وثناءً جميلاً، وتجبّر ابن


ميسون [35] وأراد أن يري مبلغ قوته، فأمر بقتل زين العابدين جهراً، فناداه لسان حال مجتمعه «يا يزيد ردَّ الغلام وإلا فإنك مقتول».

وأمر بقتله سراً فضربت جلوازه اليد الغيبية من الهواء [36] ، وأوقعه اللَّه في البئر التي حفرها له، وأراد أن يتخذهم مغنماً يقسمهم علي أهل الشام، فوجدهم مغرماً، ورآي السلامة منهم غنيمة، كما توعدته زينب، أما فصاحته وفصاحة خطبائه فقد عادت أول جيوشه المهزومة أمام فصاحة عِدل القران وورثة محمد الذي اُوتي جوامع الكلم وفصل الخطاب.

وانتج له تفكيره الطويل، وكفره باللَّه العظيم، وخروجه عن الإنسانية، وعدم مبالاته بما يقول وما يقال فيه، أن يتخلص من هذه الحيرة ويخرح من هذا المأزق الضيق الحرج، بأن يحيط اُساراه بهالة من المخاطر ودائرة من المخاوف ويجعلهم في مجتمع السيول من التهديد والتوعيد، لعله ينجح في واحد منها إن أخفق من مجموعها، فوضعهم في دار خربة، لا تكنّهم عن حر ولا برد، حتي تقشرت من شدة الحر فيها ولهيب الشمس وجوه الفاطميات [37] ، وكانت متداعية الجدران، فهم


يراقبونها ويترصدونها في كل وقت خوف أن تسقط عليهم جُدُرُها فتقتلهم جميعاً بأسرع من ردّ البصر، ووكل فيهم من يهزأ من خوفهم أن تسقط الجُدر عليهم، ويزيد غدا يخرجهم ويأمر بقتلهم علي بكرة أبيهم، والوقوع في الخطر أهون من الخوف منه والحذر، وأخذ حُثالة الناس والسفهاء من النساء والصبيان يتفرجون عليهم في الخربة ويشمتون بهم، والشماتة أعظم المصائب وعنها خار صبر أيوب ولان أمامها عوده الصليب نعم.



كُل المصائبِ قَد تمرُّ علي الفتي

فتهونُ غير شماتةِ الأعداءِ [38] .



وبينا هو يستشف برق الأمل ويتسنم ريح النجاح، إذ سمع الصيحة تتصل من الخربة بداره، وتتناوب دويّها الأجواء، وما ألذَّ تلك البشارة لديه، وما أحسن وقعها في نفسه، وعندما عرف سبب هذه الصيحة إن طفلة للحسين [39] رأت أباها في الطيف، فانتبهت وهي تُلحُّ علي عمّتها ولا تقبل عذراً ولا تهدأ - كما كانت سابقاً - بوعد دون رؤيته بشخصه في الوقت الحاضر، فبشر نفسه بالفوز برغبته والنجاح باُمنيته، وقال الآن وقعوا في شرك الموت وتوغّلوا في حبالة الردي، الآن أزف لمعاوية البُشري وهو في عساكر الموتي، فإنه لا بد أن يكون سمع بمثل حادثة المتنبي مع جدته إذ غاب عنها مدةً طويلة، ثم رجع وكتب لها من بغداد - وهي في الكوفة - يبشرها برجوعه، فماتت بمجرد رؤية كتابه، حيث اصطرع في قلبها الشوق لرؤيته، والحزن لطول غيبته، والفرح بوصول نبأ عودته [40] .



فما بالك


بهؤلاء الأسري الذين أكل الشوق للحسين قلوبهم، وذهب الحزن علي مصابه بنفوسهم، وطال فراقهم له وغيبته عنهم، وإذا هم برأسه المقطوع يقع في متوسطهم، فهل هناك سلاح أعظم من هذا السلاح لقتلهم، وهل من مظنّة لسلامتهم أو مطمع لبقائهم في الحياة بعد رؤيتهم له بتلك الحالة ووقوعه بين أيديهم، وما علم عدو اللَّه أن اللَّه منذ قدّر عليهم هذه الفوادح خلع عليهم سرابيل من الصبر تقيهم بأسه، وتفل حدود حيله ومكره بل تردُّ كيده في نحره، لأنه لا يكلف نفساً إلا وسعها، وهم وإن كانوا في شوقهم للحسين وعميق حزنهم عليه كأسنان المشط، ولكن الدوحة العظيمة لا بد أن تكون أصلب عوداً، وأثبت جذوراً لمقاومة الرياح والعواصف، والروائع الخضرة اضعف جلداً وأرق جلوداً، وأوهي قويً وأوهن كبوداً، فما إن رأت الطفلة رأس أبيها القطيع - وقد كانت فارقته الآن في منظره المبهج ومنطقه الحلو الفصيح - حتي انحنت عليه حاضنةً له بكلتا يديها، تضع عليه القُبل الحارّة، وتشبع نهمة وجدها من لثمه المتتابع شاكية له ما لاقت ولاقي أهل بيتها من قاتليه اللئام نادبةً له اشجي ندبة، راثيةً له أحرّ الرثاء، وهي تقاطع كلماتها التي تخرج معها شظايا فؤادها بقولها «أبتاه يا أبتاه» [41] ساعد اللَّه قلوب أهل البيت (ع) علي رؤية هذا المنظر الشجي، وللَّه صبرهم لسماع هذا الرثاء الذي لو وعاه الصخر الأصم لذاب، ولو صُبَّ علي البحار لسُجرت نيراناً، وأخذ صوتها يذوب قليلاً قليلاً، ونبرات رثائها وشكاتها تتضاءل رويداً رويداً، حتي عادت انفاساً متصاعدة، وزفرات مترددة، ثم اصمتت فعادت، وهي صوت خافت وطرف باهت، يا ليت شعر أهل البيت ما هذا السكوت الذي فاجاها «ليتهم يعلمون ما ذاد


ها ها» يا للَّه للعجب ما هذا الصمت والسكون الذي اعتراها، فحركوها وهم يظنون أنهم ينبهونها من نومها، ويوقظونها من غفوتها، وإذا بها ميّتة قد فارقت روحها الدنيا ورأسها علي رأس أبيها المقطوع، [42] اللَّه اكبر اللَّه اكبر.



وطفلةٍ قد براها فَقدُ والدها

بري القداحِ فلم تهدأ ولم تنمِ



وجهاً لوجهٍ أروها الرأس فانعطفت

وقبلته علي وجدٍ فماً لفمِ



فشقَّ مِنها فؤاداً سيفُ رؤيته

فلم تعِش وهو صدعٌ غير ملتئمِ [43] .





پاورقي

[1] الحمزة بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف، من شجعان العرب ومن ابطالهم المعروفين.

اسلم في السنة الثانية من المبعث ثم هاجر الي المدينة وشهد بدراً وابلي فيها بلاءً عظيماً وشهد اُحد وبها قتل عليه السلام وذلک يوم السبت في النصف من شهر شوال....

[2] السيرة النبوية لابن هشام ج 4 ص 42.

[3] کان من اصحاب رسول اللَّه المرموقين سيداً من سادات الانصار مقدماً وجيهاً له رئاسة وسيادة يعترف قومه له بها - علي حد تعبير من ترجم له -.

مات بحوران من ارض الشام لسنتين ونصف مضيتا من خلافة عمر بن الخطاب.

[4] الاستيعاب للقرطبي ج 2 ص 163.

[5] السيرة النبوية لابن هشام ج 4 ص 49، وتأريخ الطبري ج 2 ص 334.

[6] يحدثنا التاريخ فيقول: بعد ان توسط نبي العظمة محمد (ص) مکة المکرمة وقد أحدق به جيشه الظافر راح يخاطب المکيين قائلاً (ماذا تقولون وماذا تظنون) فقالوا نقول خيراً ونظن خيراً أخ کريم وابن اخٍ کريم وقد قدرت، فقال (لبئس جيران النبي کنتم لقد کذبتم وطردتم واخرجتم وفللتم ثم ما رضيتم حتي جئتموني في بلادي تقاتلوني فاذهبوا فانتم الطلقاء).

[7] المغازي للواقدي ج 2 ص 818.

[8] ميزان الحکمة ج 2 ص 1420.

[9] الخصائص الزينبية ص 188.

[10] سورة الروم / 10.

[11] سورة آل عمران / 178.

[12] الشنف والبغض والإحنة والشنئان والضّغن الفاظ مترادفة أو متقاربة / المؤلف.

[13] الي آخر الخطبة التي يمکنک أن تقرأها في‏الملهوف علي قتلي الطفوف للسيد بن طاووس، ونفس المهموم للشيخ عباس القمي، ومقتل الحسين للسيد عبد الرزاق المقرم، ومقتل الحسين للخوارزمي، وبلاغات النساء لابن طيفور و و.

[14] جامع الاخبار ص 150.

[15] سورة المنافقون / 8.

[16] له سلام اللَّه عليه من العمر آنذاک - حسب ما جاء في ص 305 من مقتل الحسين للمقرم - سنتان وشهور.

[17] نفس المهموم ص 437.

[18] سورة الصف / 9.

[19] هذا صدر بيتٍ وأما عجزه فهو «ميامين في أبياتهم نزل الذکرُ».

والبيت من قصيدة عامرة للشاعر الماهر الشيخ صالح بن عبد الوهاب الشهير ب(العرندس) ومطلعها:



طوايا نظامي في الزمان لها نشرُ

يعطرها من طيب ذکراکمُ نشرُ



وقد اشتهر بين الاصحاب - کما يقول الشيخ الاميني في ج7 ص 14 من کتابه (الغدير) - إنها لم تقرأ في مجلسٍ إلا وحضره الامام المهدي عجل اللَّه تعالي فرجه الشريف.

[20] يريد بها الخطبة الکبري التي تعتبر من انصع الادلة واقوي البراهين علي أن الزهراء فاطمة عليها السلام کانت قد بلغت القمة في الفصاحة والبلاغة.

اقرأ هذه الخطبة العسجدية في کتاب (بلاغات النساء) لابن طيفور ص 23.

[21] مقتل الحسين لآية اللَّه السيد محمد تقي آل بحر العلوم ص 371.

[22] کما في الحکاية التي اوردها الشيخ المازندراني رحمه اللَّه في کتابه (معالي السبطين) ج 2 ص 134.

[23] انظر (المسترشد في امامة امير المؤمنين) للطبري الامامي ص 382 و (بيت الاحزان) للمحدث الجليل الشيخ عباس القمي ص 111.

[24] من قصيدة جزلة للشاعر الکبير الشيخ صالح الکواز المتوفي سنة 1290 هجرية مطلعها:



هل بعد موقفنا علي يبرينِ

أحيا بطرفٍ بالدموع ظنينِ.

[25] اسرار الشهادة ص 504.

[26] بحار الانوار ج 45 ص 156.

[27] تذکرة الخواص ص 264.

[28] منتهي الآمال ج 1 ص 770.

[29] الارشاد ج 2 ص 121.

[30] مقتل الحسين للخوارزمي ج 2 ص 62.

[31] اعلام الوري ج 1 ص 475.

[32] مقتل الحسين للمقرم ص 357.

[33] منتهي الآمال ج 1 ص 771.

[34] سورة فاطر / 43.

[35] ميسون امرأة من بني کلب تزوجها معاوية بن ابي سفيان وکان ابوها واسمه بجدل شيخ کلب وکان لبجدل عبد اسمه سفاح، وسفاح هذا وقع يوماً علي ميسون فاذهب بکارتها وحملت منه ثم أنها حُملت الي معاوية فوجدها ثيباً فأبقاها عنده الي أن دخل عليها يوماً فسمعها تنشد هذه الابيات:



ولبسُ عباءةٍ وتقر عيني

أحبُ اليَّ من لبس الشفوفِ



وبيتٌ تخفق الارياح فيه

أحبُ اليَّ من قصر منيفِ



وبکرٌ تتبع الاضعان صعبٌ

أحبُ اليَّ من بغلٍ زفوف



وکلبٌ ينبح الاضياف دوني

أحب الي من هرٍ الوف



وخرق من بني عمي فقيرٌ

أحبُ الي من علج عنيف



فقال لها معاوية: ما رضيتِ يا ابنة بجدل حتي جعلتني علجاً عنيفاً اذهبي الي اهلک فمضت الي بادية بني کلب فوضعت يزيد هناک.

[36] بحار الانوار ج 45 ص 176.

[37] أمالي الشيخ الصدوق ص 231.

[38] لابن ابي عيينه المهلبي.

[39] واسمها (رقية) وکان لها من العمر ثلاث سنين حسب ما جاء في (الايقاد) للسيد العظيمي ص 179.

[40] اقول: قرأت فيما مضي من الايام قصة موت هذه الجدة الحنون وخلاصتها: أنها کتبت اليه کتاباً تعرب فيه عن شوقها العارم له وتحرقها لرؤيته ومعاناتها من جراء غيبته التي طال امدها وبالتالي تسأله العودة الي العراق لتنّعُم برؤيته.... فلما انتهي اليه کتابها عاد من فوره الي العراق وانتهي به السير الي بغداد فکتب اليها کتاباً اخبرها فيه أنه في بغداد وليس بمقدوره‏مواصلة السير الي الکوفة لاسباب لذا - يقول في کتابه - أسألک أيتها الجدة أن تتوجهي الي بغداد لينعم کل واحد منّا برؤية الآخر، فلما انتهي اليها الکتاب ووقع بصرها عليه ماتت من ساعتها.... فقال يرثيها بقصيدة مثبتة في ديوانه مطلعها:



ألا لا اُري الاحداث حمداً ولا ذما

فما بطشها جهلاً ولا کفّها حلما.

[41] جاء في بعض الاخبار أنها کانت تقول في ندبتها (أبه من الذي قطع الرأس الشريف، أبه من الذي خضّب الشيب العفيف، أبه من الذي ايتمني علي صغر سني....).

[42] الايقاد ص 180، وتظلم الزهراء ص 280.

[43] من قصيدة للمؤلف قدس سره يندب فيها الامام المنتظر عليه السلام ويرثي جده الحسين مطلعها:



أصوتُ جبريل ذا عن ثغر مبتسمِ

مبشراً بظهور النور في الحرمِ.