بازگشت

موقف وزيري الحسين مِن عدوه ابن مرجانة


فتح ابن زياد ابواب قصر الإمارة، وأذن عدوّ اللَّه للناس إذناً عاماً [1] - ليروا ما فتح اللَّه عليه بزعمه - وليهنئوه بظفره بعدوه الحسين، وأدخل عليه السبايا والرؤوس، فبذخ بأنفه وشمخ بعطفه، وأخذ يسأل عن أسماء السبايا ليشمت بهم فرداً فرداً، وقد أخذ الجمع مجالسهم علي طبقاتهم، وكان المجلس يضم الطبقات المختلفة من عِليَة الناس وأوساطهم وأوشابهم، ومن قوّاد عسكره ورؤساء اسباع الكوفة وقبائلهم التي كانت تزخر إذ ذاك بجماهيرهم، قالت الرواية واُدخلت عليه زينب بنت علي وهي متنكرة [2] ، وعليها أرذل ثيابها [3] فجلست ناحية، وقد حفَّ بها إماؤها [4] ، فقال ابن زياد من هذه فلم تجبه، فأعاد القول ثانية وثالثة فلم تجبه [5] ، ومن يكون ابن زياد حتي تجيبه زينب وما يكون قدره الي جنب عظمة قدرها لتلتفت اليه، نعم قال له بعض الخدم من إمائها هذه زينب بنت علي [6] ، فأقبل عليها ابن زياد، وقال الحمد للَّه الذي فضحكم وقتلكم [7] ، فانبرت عقيلة أمير المؤمنين لمناضلته، وردَّت كيده في نحره بكلماتها القارصة التي نزلت عليه نزول الصواعق المحرقة حتي عاد عيده عليه يوماً عبوساً قمطريراً، وانعقدت سحابة من الحزن بين عينيه، فكان يوم نعيمه يوم بؤس عليه حيث أجابته قائلةً


«الحمد للَّه الذي اكرمنا بنبيه محمد، وطهرنا من الرجس تطهيراً، إنما يفتضح الفاسق ويكذب الفاجر، وهو أنت يا عدو اللَّه وعدو رسوله» [8] فقال لها كيف رأيت صنع اللَّه بأخيك وأهل بيته [9] ، فقالت ما رأيت إلا جميلاً اولئك قوم كتب اللَّه عليهم القتل، فبرزوا الي مضاجعهم، وسيجمع اللَّه بينك وبينهم تتحاججون وتتخاصمون عنده [10] ، وإن لك يا بن زياد موقفاً فاستعد له جواباً، وأنّي لك به وهو وفي رواية أنها قالت له في آخر كلامها، فانظر لمن الفلج يا ابن مرجانه [11] ، فغضب ابن زياد من ذكر اُمه في مجلسه ورفع قضيبه وهمَّ بضربها فامسك ابن حريث به ولم يدعه يهوي به عليها، قائلاً له انها إمرأة والمرأة لا تؤاخذ بشي ء من خطابها [12] ، وقد كان هذا الكلام من ابن حريث سياسة ومكراً وتمويهاً علي ابن زياد المغرور بنفسه المزهوّ بظفره، وإنما أمسك بقضيبه فلم يدعه يضرب زينب، لأنه رأي رؤساء قبائل الكوفة قد عاد اليهم الشمم العربي والنزعة القومية الطائفية فتنكرت وجوههم، ووقفت شعورهم، وتقززت نفوسهم، أن رأوا ابن زياد يرفع قضيبه، ويهمُّ بضرب عقيلة نبيهم العربي الكريم، ومخدّرة اميرهم بالأمس علي بن أبي طالب، وقد كان عاراً في الجاهلية أن يردَّ الرجل علي المرأة كلامها فضلاً عن ضربها بسوط، فإنه يعيّر بذلك عند الرأي العام وعقبه من بعده.

ولمّا انتهي بابن زياد السؤال عن زين العابدين، قال له من انت فقال له بعض الحاضرين هذا علي بن الحسين [13] ، فقال ابن زياد أليس قد قتل اللَّه علي بن


الحسين [14] ، قال له الإمام قد كان لي أخ اكبر مني قتله الناس [15] ، فقال ابن زياد قتله اللَّه [16] ، فقال علي بن الحسين «اللَّه يتوفي الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها» [17] فغضب ابن زياد، وقال ألك جرأة علي جوابي، وفيك بقيّة علي الرد عليّ [18] ، إذهبوا به فاضربوا عنقه [19] ، فتعقلت به زينب، وقالت يا ابن زياد حسبك من دمائنا، واعتنقته وقالت واللَّه لا اُفارقه، وإن قتلتموه فاقتلوني معه [20] ، فنظر ابن زياد إليها، وقال واعجباه للرَّحم، واللَّه إني لأظنها تودُّ أن أقتلها دونه، دعوه فإني أراه لما به [21] ، فانظر الي موقفها العظيم تجاه هذا العدو الألد، وكيف أنقذت حُجة عصرها وإمام زمانها من مخالبه، وخلّصته من أن ينفذ به أمره بالقتل، لأنه كما قدّمنا - لم يستطع ضربها بسوط فكيف يتمكن من قتلها، ولمّا رأي أن أمره بقتل العليل لا ينفذ إلا بقتلها معه، وهو لا يتمكن من قتلها بل ضربها تنازل عن إرادته مرغماً وتظاهر بالعفو عن زين العابدين حيلةً ومكراً، ومن ههنا تعلم أن حمل الحسين لزينب معه كان لا بد منه إذ لو لم تدافع عن السجاد لقتل إلا ما شاء اللَّه، كما قتل عبد اللَّه بن عفيف الأزدي [22] في غيبة عشيرته لأن للحاكم المستبد برأيه قتل


الرجال ولو كان بغير حجة بينة ولا سلطان مبين، ولما أراد الشمر قتله في كربلاء لم تكفهم عن قتله إلا اليد الغيبية والقدرة الإلهية لأن ابن سعد علم إنه إذا صمم علي قتله، قام عليهم بالسيف فافناهم عن آخرهم بالقدرة اللاهوتية، ولو دافعت عنه زينب وفدته بنفسها لقتلت قبله، كما قتل الكثير من نساء أنصار الحسين، بلا نكير في ذلك العسكر الذي ضيّع رشده وهداه في جميع السبيل دينية أو عربية أو بشرية، وهكذا يوم أمر يزيد أن يأخذه الجلواز الي بعض البساتين ويحفر له قبراً ويقتله بالسيف، فلمّا رفع السيف ليضرب عنقه ضربته يد في الهواء وقتله اللَّه بها فأمر يزيد أن يدفن في حفيرته [23] ، وقد كان ذلك في غيبة زينب، فحفظ اللَّه لها إمامها وردَّ كيد الذين كفروا في نحورهم.

وأدخل السبايا علي ابن زياد يوماً آخر، فرأي زينب وهي تختفي بين النساء وتستر وجهها بكمّها لأن قناعها اُخذ منها [24] - وقد عرفها اللعين في مجلسه الأول فلم يحتج للسؤال عنها - بل قال لها يا زينب كلميني بحق جدّك رسول اللَّه [25] ، لأنه عرف في مجلسها الأول أنه ليس أهلاً لأن تكلمه، فتذرّع لكلامها معه بهذا القسم العظيم، فقالت وما الذي تريد، وقد هتكتني بين الناس [26] ، قال كيف رأيت صنع اللَّه بأخيك، أراد أن يكابر الأمير يزيد (لع) في ملكه، فخيب اللَّه أمله وقطع رجاءه، فقالت زينب ويلك يا ابن مرجانة، كم تسحب علينا أثواب غيك، فإن أخي إن طلب الخلافة فلا عدوان عليه، فإنه طلب ميراث جدّه وأبيه، وإنه أحق بالخلافة منك وممن أمّرك لكنك استخرت الجحيم لنفسك، فاستعد للَّه جواباً، إذا كان القاضي هو اللَّه، والخصم جدي رسول اللَّه، والسجن جهنم [27] ، قال فغار علي بن


الحسين علي عمّته - وقد علم مما تقدم أن بن زياد لا يتمكن من قتله - فانتصر لها قائلاً لأبن زياد «الي كم تهتك عمتي بين مَن يعرفها ومَن لا يعرفها، قطع اللَّه يديك ورجليك» [28] قال فاستشاط ابن زياد وأمر بضرب عنقه، فمُنع من ذلك، نقول لم يُمنع عن قتله إلا لأن حاشيته علمت مما تقدم أنه لا يقتل زين العابدين حتي تقتل زينب ولن تقتل زينب عليها السلام حتي يقتل رؤساء قبائل الكوفة، ولن يقتل رؤساء الكوفة حتي تقتل قبائلهم، وقتل ابن زياد وحده أهون من ذلك كله، فكفَّ عن قتله مرغماً، وتنازل عن إرادته مخذولاً مدحوراً، وما ابن زياد في الكوفة العلوية بأعظم سلطاناً وأنفذ أمراً من طاغيته وأميره يزيد في عاصمة ملكه الشام الأموية، وقد اتفق له أن أمر بقتل زين العابدين فأخرجوه فخرجت اُم كلثوم من ورائه، وقالت الي اين يا حبيبي، قال عمتي الي السيف، فصاحت وا غوثاه باللَّه عزّ وجل وا بقيّة مَن لا يبقي، يا سلالة نبي الهدي، يا بقية علي المرتضي، فضجَّ الناس بالبكاء، فقال رجل من القوم يا يزيد ردَّ الغلام وإلا فإنك مقتول، فردُّوه [29] ، فإذا قدر أهل الشام أن يقتلوا يزيد إذا صمم علي قتل زين العابدين فقتل ابن زياد في الكوفة أيسر وأهون، فقد انتصر الإمام لعمته في مجلس ابن زياد «بحدِّ لسانٍ ما عن السيف ينقصُ» بل هو واللَّه اقطع وأمضي من حدِّ السيف وصدر السنان، وأنقذته زينب من القتل بسبب ما صدر في المجلس الأول من عجزه عن ضربها فضلاً عن قتلها الذي حتّمت أن يكون مساوقاً لقتل خليفة عصرها غير أن اللعين كان إذا عجز عن معارضة زينب بالسبّ، ونكلَ عن مقاومة كفيلها بالتهديد والوعيد عمد الي رأس أخيها الحسين، فشفي قلبه بضربه، وثأر لنفسه بالتبسم في وجهه والإستهزاء به، ولكنه يستجير بذلك من الرمضاء بالنار، لأن الرأس الشريف يتكلم خرقاً للطبيعة وينذره بتلاوة القرآن خلافاً لمجاري العادة وما الي ذلك من تهديده


والتنديد به، أُحضر بين يديه يوماً فقال له ما اسرع الشيب اليك يا حسين لقد كنت حسن الثغر [30] ، وبيده قضيب يضرب ثناياه [31] - ألا شلّت يداه -.



أتضربُها شُلَّت يمينكَ إنها

وجوهٌ لوجهِ اللَّهِ طال سجودها



فانتصر له زيد بن أرقم وقال له إرفع قضيبك عن ثنايا أبي عبد اللَّه فطالما رأيت رسول اللَّه يقبلهما بفمه [32] ، وحمله بين يديه يوماً فارتعدت يداه، فوضع الرأس علي فخذه، فقطرت قطرة من الدم من نحره الشريف علي ثوبه فخرقته، حتي وصل الي فخذه فجرحه، وصار جرحاً منكراً، فكلما عالجه لم يتعالج، حتي إزداد نتناً وعفونةً، فلم يزل يحمل معه المسك لإخفاء تلك العفونة [33] .

وأمر به أن يصلب علي خشبة في الصيارفة وهو أوّل رأس صلب في الإسلام علي خشبة [34] ، فتنحنح الرأس وقرأ سورة الكهف الي قوله تعالي «إنهم فتيةٌ آمنوا بربهم فزدناهم هديً» [35] فلم يزدهم إلا ضلالاً، وتمادي ابن زيادفي بغيه، ولجَّ في عتوّه وتمرّده، فصلب الرأس خارج الكوفة علي شجرة [36] ، فسمع منه «وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون» [37] وأصرَّ ابن زياد في طغيانه واستكبر استكباراً فأمر أن يطاف برأس الحسين علي رمح طويل في سكك الكوفة فمر بيزيد بن أرقم وهو يتلو «أم حسبت أن أصحاب الكهف والرقيم


كانوا من آياتنا عجباً» [38] قال فقفّ شعري وناديت رأسك واللَّه يا ابن رسول اللَّه وأمرك أعجب وأعجب [39] .

وعن الحارث بن وكيدة، قال كنت فيمن حمل رأس الحسين، فسمعته يقرأ سورة الكهف، فجعلت أشك في نفسي وأنا أسمع نغمة أبي عبد اللَّه، يا بن وكيدة أما علمت إنا معاشر الأئمة أحياء عند ربنا نرزق [40] ، قال فقلت في نفسي أسرق رأسه، فنادي يا ابن وكيدة ليس الي ذلك سبيل، سفكهم دمي أعظم عند اللَّه من تسييرهم إياي، فذرهم فسوف يعلمون إذا الأغلال في أعناقهم والسلاسل يسحبون [41] .



لهفي لرأسكَ وهو يرفعُ مشرقاً

كالبدرِ فوقَ الذابلِ الميادِ



يتلو الكتابَ وما سمعتُ بواعظٍ

تخذِ القنا بدلاً عن الأعوادِ [42] .





پاورقي

[1] منتهي الآمال ج 1 ص 735.

[2] اعلام الوري للطبرسي ج 1 ص 471.

[3] سير الائمة للسيد محسن الامين العاملي ج 3 ص 145.

[4] تظلم الزهرا عليها السلام ص251.

[5] مثير الاحزان لابن نما ص 90.

[6] مقتل الحسين عليه السلام للخوارزمي ج2 ص42.

[7] الملهوف علي قتلي الطفوف ص 201.

[8] مقتل الحسين للخوارزمي ج 2 ص 42.

[9] تظلم الزهراء ص 251.

[10] الارشاد للشيخ المفيد ج 2 ص 115.

[11] مقتل الحسين للمقرم ص 324.

[12] نفس المهموم ص 407.

[13] الايقاد ص 160.

[14] بحار الانوار ج 45 ص 117.

[15] تاريخ الطبري ج 4 ص 350.

[16] منتهي الآمال ج 1 ص737.

[17] سور الزمر / 42.

[18] سير الائمة للسيد محسن الامين العاملي ج 3 ص 146.

[19] الارشاد ج 2 ص 116.

[20] مقتل الحسين للخوارزمي ج 2 ص 43.

[21] تاريخ بن الاثير ج 4 ص 34.

[22] من اصحاب مولانا امير المؤمنين عليه السلام.

وصفه الشيخ عباس القمي في ص 738 من الجزء الاول من کتابه (منتهي الآمال) بأنه (من الزهاد والعبّاد وقد اصيبت عينه اليسري في الجمل والاخري في صفين لنصرة امير المؤمنين...).

قتله عبيد اللَّه بن زياد لما اعترض عليه حين نال من الحسين عليه السلام.

انظر الملهوف علي قتلي الطفوف ص 203، ونفس المهموم ص 410.

[23] تظلم الزهراء ص 276.

[24] اسرار الشهادة ص 477.

[25] تظلم الزهراء ص 251.

[26] اسرار الشهادة ص 477.

[27] اسرار الشهادة ص 477.

[28] تظلم الزهراء ص 252.

[29] اسرار الشهادة للفاضل الدربندي ص 501.

[30] البحار ج 45 ص 167.

[31] مثير الاحزان لابن نما ص 91.

[32] الارشاد للشيخ المفيد ج 2 ص 114.

[33] معالي السبطين ج 2 ص 104 نقلاً عن حبيب السِير.

[34] تذکرة الخواص ص 259.

[35] مقتل الحسين للسيد المقرم ص 332.

[36] نفس المصدر.

[37] سورة الشعراء / 227.

[38] سورة الکهف / 9.

[39] نفس المهموم ص 412.

[40] تظلم الزهراء ص 12.

[41] اسرار الشهادة ص 477.

[42] من قصيدة جيدة للشيخ احمد النحوي مطلعها:



بأبي ابيّ الضيم لا يعطي العدي

حذر المنية منه فضلَ قيادِ.