بازگشت

في تضحية الحسين بنفسه


كان الآذان للصلوات الخمس من النواميس التي بالغ الرسول صلي الله عليه وآله في توطيد قواعدها وحرّض المسلمين علي تخليدها في الأمة قولاً وفعلاً، الي أن يرث اللَّه الأرض ومن عليها وجاء دور الملك العضوض - دور خلافة معاوية - فسفي علي وجهه الرماد وفقي ء في عينيه الحصرم أن يسمع اسم محمد يهيب [1] به المؤذن في الصوامع وعلي منارات الجوامع ويدعوا المسلمين لتكتظ بهم المساجد فيصلوا ويسجدوا لوجه اللَّه وحده، ويذكروا اسم محمد وآل محمد في كثير من أوراد الصلاة ولم يستطع لسرّه كتماناً - وهو المعبّر عنه بالداهية - حتي أفشي ذلك الي المغيرة ابن شعبة [2] ، وقد خرج عن طوره الذي يعهده فيه من الدهاء حيث احتدمت وقده غضبه وحنقه بسماع اسم ابن ابي كبشة يخلّده اللَّه الي الأبد دون غيره من الخلايف مصرحاً له بأنه «لا خير في الحياة ولا اُمَّ لك إلا دفناً دفناً» طبيعي والحالة هذه أن يفكر معاوية أعمق التفكير في إزالة هذا الحجر الذي يعتبره خال المؤمنين حجر عثرة في طريق عقيدته بديهي أن يسهر ليله متململاً تململ السليم اذا لم يجد الظروف مواتية لإمضاء عزيمته في محق هذه الكلمة من الأذان لأن مضمون هذه الكلمة زمام غيره من مضامين تلك الكلمات التي سنأتي علي تفصيلها، فما غاظه لفظها بل معناها، ولكن ما يصنع إذا قدر في نفسه انتهاء حياته، ولم يتسنَّ له قلع هذا الحجر الأساسي من هذا البناء المحكم، نعم لا بد أن يلتجي ء لأن يوصي خليفته يزيد، ليكمل سيرته ويبلغه مناه، وإن كان في عساكر الموتي، لأنه يعهده بالإقدام والصرامة لا يداري أحداً في نيل مقاصده، ولا يداجي فيخشي العواقب في بلوغ أوطاره من شهواته، ولم يكتف خال المؤمنين من نفسه تجاه


ذلك أن جعل سبّ أمير المؤمنين من أعظم فصول الأذان، فكان بعض المؤذنين يسبّه كل يوم بعد الأذان الف مرة، وفي يوم الجمعة أربعة آلاف مرة [3] ، حتي شاب عليه الصغير وهرم عليه الكبير، حتي جعل ذلك من العقائد الإسلامية في أذهان المتدينين البسطاء، ولم يرض من وجدانه بأن يقنت عليه وعلي اصحابه ويجعل سبّهم من أعظم أوراد الصلاة [4] ، وأدركه الموت ولم يبلغ مناه بأن لا يذكر اسم محمد في الأذان، فالتجأ الي الوصية لخليفته ماضي العزيمة صارم الإرادة لتحقيق كل ما تهوي نفسه الأمارة بالسوء، فأوشكت قاعدة الأذان أن تتداعي، وأشرف بناؤه المحكم أن ينهار، وكل ذلك بعين الحسين، ولم تخف عليه طامات معاوية وخليفته الجديد طرفة عين، لذلك فكر أعمق التفكير في دحض مطالب اُمية والوقوف في تيار نواياهم السيئة في الإسلام وعدم بلوغ امالهم وإدراك أمانيهم، فأعطاه اللَّه مناه بقتله وشكر اللَّه سعيه بمفاداته وتضحيته.

وعساك تقول ما هو خطر الأذان، وما أثره العظيم في المجتمع الإسلامي، وماذا يكون إذا انقضت منه كلمة واحدة، وهي الشهادة لمحمد بالرسالة، ليقتل الحسين نفسه علي تخليدها الي الأبد كما تقولون، وكيف كان قتل الحسين اخر الأسباب لهذه الاُمنية التي أدركها وحظي بها كما تزعمون، ولكنّا نقول أما الاذان فهو شعار المسلمين، ليجتمعوا للصلاة التي هي أحبّ الأعمال وأفضلها عند اللَّه بعد معرفته [5] وهي عمود الدين [6] ، واذا قُبلت قُبل ما سواها وإن رُدت ردَّ ما سواها [7] ، وهي العلامة الفارقة بين المسلم وبين أن يكفر في كثير من رواياتنا [8] ،


ويكفيك أن تري القران الكريم وثقل النبي يكرر ذكرها ويوصي بإقامتها ويبالغ في ذمّ تاركها بل يكفيك أن تتلوا منه آيةً واحدة هي قوله تعالي «إن الصلاة تنهي عن الفحشاء والمنكر» [9] .



تنهي عن المنكرَ والفحشاءِ

أقصر فهذا منتهي الثناءِ



ولولا خطره لما كرر في اليوم خمس مرات لتقبل قلوب المسلمين قبل آذانهم وتستقبل بكل نشاط وارتياح مضامين هذه الفصول وتستشف هذه الجواهر والكلمات التي انتقاها الوحي من صميم العقيدة الإسلامية والدرر الغوالي التي تخيّرها من معدن اصول الدين المحكمة وفروعه المقررة المتقنة، فيكرر المؤذن «اللَّه اكبر» اربع مرات لأن أفضل الأعمال معرفة اللَّه بإثبات صفات الكمال كلها له وتنزيه جلاله من صفات النقص، فإذا قال المؤذن، «اللَّه اكبر» [10] بحذف المجرور بمن، فهل تعرف ما للحذف من فوائد لا ينهض بها الذكر؟

وتنبوا الألفاظ عن أدائها حق الأداء أليس معناه تقدير كل ما يمكن ويناسب مقتضي الحال، وأعظمها اللَّه اكبر من أن يوصف بصفة، وأعلي من أن يعرف بكنهه حق المعرفة، وأعظم من أن تدركه العقول، وأجل من أن يلحقه نقص تعالي اللَّه عن ذلك علواً كبيراً، فإذا أذعنّا لمعني هذه الجملة لم نكن توهمناه بل نكون قد أكبرناه أن يُحد بحدّ، أو أن يكون له مثل أو ند «فليس يعرف إلا اللَّه ما اللَّه» ونكون قد ناقضنا المشركين كل المناقضة إذ جعلوا له شركاء من خلقه، وما قدروا اللَّه حق قدره، ولِما لمعرفة اللَّه بهذا القدر الممكن لنا ولخطرها في نظر الشارع الحكيم كررت علي الملأ الإسلامي أربع مرات تأكيداً بعد تأكيد، ولم يكتف بتوكيد واحد،


- جلَّ اللَّه وعظمت كبرياؤه وتعالي جدّه، سبحانك ربنا ما عرفناك حق معرفتك «سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم» [11] ثم ينتقل المؤذن بعد معرفة اللَّه كما أمر اللَّه فيشهد ويشهد كل من سمعه موافقاً لشهادته بنفي الآلهة دونه نعم واللَّه «أارباب متفرقون خير أم اللَّه الواحد القهار ما تعبدون من دونه إلا اسماء سميتموها انتم وآباؤكم ما أنزل اللَّه بها من سلطان» [12] فإن كل شي ء هالك إلا وجهه وباطل ما خلاه ومخلوق له ومملوك لسلطانه فكيف يشاركه وأنّي يقاس به إن الشرك لظلم عظيم.

أرأيت المؤذن الي أي أوّج بلغ، والي اي مرتقي رقي؟، والي اي عقيدة صعد، والي أي جو من العظمة حلق، أعلمت من أنّي صوّب الي الكلمة التي أقضّت مضجع معاوية وتمنّي الموت ولو بأن يدفن حياً دون سماعها، وهي تشنيف اذان المسلمين بذكر اسم المحبوب المشتق من اسم ربهم المحمود المعبود، والإشادة بذكر رسالته الخالدة برغم الحاسدين وعدم الإكتراث وقلّة المبالاة بمنكريها المعاندين، لتتفتح لها اذان قلوبهم تفتح الأزهار لنسيم الأسحار وتتشقق لها كتشقق الأكمام والبراعم [13] للريح العليلة والشمال البليل.

هذا وفي رأيي أن معاوية يشير الي الاذان كلّه، لأنه شعار الإسلام، وجعل هذه الكلمة وحدها واسطة لتمنيه أن يدفن حياً، لأن الوقت لم يواتيه أن يعلن بعقيدته كلها أمام المغيرة، فاكتفي عن الكل بالجزء لأن مضمون هذه الكلمة كالزمام لمضمون غيرها كما ذكرنا، واعاد علي ذاكرته تاريخ سلفه الذي لا زال يزيد يقتص أثره، وقد سمعوا صوت بلال يهتف بالأذان علي الكعبة، فقال أحدهم


«لبطن الأرض خيرٌ من ظهرها» [14] وقال الآخر «الحمد للَّه الذي أمات أبي، قبل أن يري هذا الغراب ينعق علي ظهر الكعبة» [15] وقال ثالث «أما كفي ابن أبي كبشة إلا أن يقرن اسمه باسم ربّه» [16] وإذا أوعز معاوية الي يزيد بأن يحقق له مناه وهو في عداد الموتي، فإنما مناه قطع الأذان من أصله وقلعه من أساسه وكأنه ينظر الي الغيب من ستر رقيق فيسمع قول الحُماني [17] الشاعر العلوي:



ولما تنازعنا الفَخار قَضي لنا

عَليكم بما نَهوي نداءُ الصَّوامعِ



وبعد تركيز العقائد الحقّة في أذهان المسلمين، لأن اعمال الخير لا تقبل إلا من المسلم «إنما يتقبل اللَّه من المتقين» [18] .

يبلغ المؤذن غرضه الذي من أجله مهّد تلك المقدمات الجليلة، فيدعوا المسلمين الي الإقبال علي الصلاة ويرحب بمجيئهم لأدائها لأنها ركن دينهم الأعظم، ولأنها السبب الأكبر للفلاح والفوز عند اللَّه في دار المقامة، ولأنها خير


الأعمال وأفضلها بعد المعرفة كما قدمناه، ويعود فياتي بكلمة اللَّه اكبر مؤكداً لها خوف أن يكونوا قد غفلت عنها أذهانهم بالمبادرة لأمتثال هذه الأوامر التي لحقتها، وتري الشارع الحكيم لا يكتفي بهذا التكرار حتي يجعل هذا التنزيه للَّه والإكبار لجلاله مفتاحاً لصلاة المسلم بعد توكيده لها مرتين في اثناء إقامتها وبعد إعادتها ست مرات عند افتتاحيتها وندبه لأن يكررها اثناء أعمالها وأركانها المهمة كالركوع والسجود، ثم يودّع صلاته بها ثلاثاً، ويكرّرها كثيراً في تعقيبه اثناء تسبيح الزهراء [19] وغيره «اللَّه اكبر كلمّا كبّر اللَّه كما يحب اللَّه أن يكبّر وكما هو أهله، وكما ينبغي لكرم وجهه وعزّ جلاله» ويجعل المؤذّن ختام أذانه مسكاً فيكرر لا إله إلا اللَّه، من دون أشهد، تنبيهاً علي الحقيقة وبياناً لواقع الأمر بقطع النظر عن شهادته وشهادة غيره من المسلمين، وبعدم لحاظ المعركة القائمة فيها بينهم وبين أعدائهم الجاحدين.

وهيهنا سانحة فكر ورأي لا بد من إبدائه والأدلاء به، الا وهو شهادة أن علياً ولي اللَّه فقد اختلف المسلمون فيها، ففريق منهم تركوها واعتقدوا أنها بدعة لأنهم لم يتلقوها في أخبار الأذان الأوّل عن الرسول المبجّل وجاء بها فريق آخر شهادة ثالثة عزز بها شهادة الرسالة المشفوع بها شهادة التوحيد، وهو يعتقد كالفريق


الأول أنه لم يتلقها عن الصادع بشريعة الإسلام ولا عن أحد اهل بيته الصادقين، لكنّه يأتي بها تبركاً وتيمناً، فإنه «ما كل ما لا نصَّ فيه بدعة» ولي فيها رأي - ولعلّه يختص بي - ان هذه الشهادة من فصول الأذان كالشهادتين الأوليين، وقد نزل بها الوحي شروي أخواتها التي ذكرناها، وبلّغه النبي اُمته اما بنفسه وبلا واسطة أو بواسطة أحد عترته خزّان علمه وحفّاظ شريعته، فإن كان الرسول جاء بها مباشرة فقد طوّحت بها اولي السياسات من بعده كما كما تناست بيعة الغدير وكل ما الي ذلك.



ودع عنك نَهباً صِيح في حُجراته

وهاتِ حَديثاً ما حديث الرواحلِ [20] .



فليت شعري ما بال حيّ علي خير العمل ذهبت من الأذان بعد وجودها في عهد الرسول وزمن الخليفة الأوّل، ثم أتي بها فريق من حُفاظ الصحابة، وذكروا أنها من الأذان الأول ونقلت لنا عن طريق الاحاد، وهي لا تضاد بيعة السقيفة من وجه إلا إذا فسرت بأن معناها اقلبوا علي برِ فاطمة وولدها، وغير أن هذا من البطون الخفية كبطون القرآن، ولا اظن المانع سمع به، فكان عليه أن يأخذ بظاهر اللفظ فإن الصلاة خير الأعمال وأفضلها - كما ذكرنا انفاً- فهل يا تري يستطيع أحدُ الحُفّاظ أو غيرهم أن يأتي بشهادة الولاية في أذانه، ثم يعتذر عند معارضيه بأنها من الأذان الأول، وهي تناقض بيعة السقيفة كل المناقضة وتقلعها من أساسها، ولو فرض أن ضحّي أحدهم بمهجته دون الاشادة بها فأين النفوس التي يبذلها أربابها في سبيل نقل هذه التضحية، وهذا سيف معاوية (لع) يَنطِفُ بدماء المؤمنين، إن لم يبرأوا من امير المؤمنين، وإعلاناته تتوالي «إن برئت الذمّة ممن روي لعلي عليه السلام وأهل بيته فضيلةً، ومن قامت عليه البيّنة انّه يحب علياً فاقتلوه، ثم ارتقي به البغض والشنئان فاعطي دستوراً في جميع مملكته ملكه العضوض لاُمرائه


الذين باعوه آخرتهم بدنياه «أن اقتلوا علي الظنّة واحبسوا علي التهمة» [21] .

ومع هذا كله فقد حدثني بعض المولعين بالأسفار والمنقبين فيها عن الآثار، انّه رآي كتاباً لا يزال مخطوطاً في المكتبة الظاهرية العربية بدمشق اسمه «السلافة في أمر الخلافة» لصاحبه «الشيخ عبد اللَّه المراغي» من أعلام اصحاب السنة في القرن السابع الهجري، وفيه روايتان مضمون إحداهما أنّه اذّن الفارسي، فرفع الصحابة لرسول اللَّه أنه زاد في الأذان «اشهد أن علياً ولي اللَّه» فجبههم النبي بالتوبيخ والتأنيب اللاذع، وأقرّ لسلمان هذه الزيادة ومضمون الأخري أنهم سمعوا أبا ذر الغفاري - بعد بيعة الغدير - يهتف في الأذان، فرفعوا ذلك الي النبي فقال لهم أما وعيتم خطبتي يوم الغدير لعلي بالولاية أما سمعتم قولي في أبي ذر «ما أظلّت الخضراء ولا أقلّت الغبراء علي ذي لهجة اصدق من ابي ذر الغفاري» [22] إنكم لمنقلبون بعدي علي اعقابكم [23] .

هذا ويمكن أن يكون النبي جاء بها بواسطة عترته المتأخر زمانه عن عصره، لأن الأمور كانت غير مواتية، والأحوال غير مناسبة، لتنجيز جميع اوامر الشريعة الخاتمة لشرايع السماء، وقد بقي الكثير من أحكامها في مرحلة الإقتضاء شطراً من حياة الرسول، اي اطلاع الشارع علي وجود المصلحة في الشي ء المأمور به، والمفسدة في المنهي عنه لأن الحسن والقبح ذاتيان في الأشياء، وأوامر الشارع ونواهيه كاشفة عنهما، ولم يبلغ مرتبة التنجيز أي امر المكلفين بها وايقاعها عملاً إلا بعد زمن طويل، كبيعة الغدير علي ولاية الأمير، فإن الرسول الأعظم صاحب العزيمة الصادقة لم يستطع تنجيزها إلا في آخر عهده الشريف، بعد تكرار اخذٍ


وردٍ، وبعد تهديد جاءه من اللَّه وتوعيد، وبعد أن ضمن اللَّه له العصمة من الناس وكفي باللَّه ولياً وكفي باللَّه نصيراً، وأقام الكثير من أحكامها الاخر في مرحلة الاقتضاء الي زمان الصادقين حيث وقعا في فترة وضعف من الدولتين الدولة الأموية المدبرة بمقتها وخروجها من النفوس لتلوث تاريخها بدم الحسين وآل الحسين، والدولة العباسية القائمة علي الأخذ بثار الحسين وآل الحسين، لا جرم دخلت هذه الأحكام في مرحلة التنجّز والفعلية فصدع بها الصادقان عن جدّهما الصادق الأمين، وبقي بعض الأحكام لمن خلفهما من ائمة الإسلام الي قيام القائم المنتظر خاتم الأوصياء لخاتم الأنبياء، وعلي كل فقد اتصل عمل الشيعة بالمتأخرين من ائمتهم حفاظ الشريعة حتي عرف ذلك البدوي والقروي والملل الخارجة عن نحلة الإسلام وتناقلته الأجيال جيلاً بعد جيل، وصاغراً عن كابر، وعضّوا عليها بنواجذهم، ولم يجدوا لأنفسهم، في تركها رخصة، اللهم إلا إذا خافوا علي دمائهم، فتكون في درجة سبّ أمير المؤمنين وهي أدني درجةً من البراءة منه إذا عملنا بخطبته في شأن معاوية «ألا وأنه سيأمركم بسبي والبراءة مني أما السبّ فسبّوني فإنه لي زكاة ولكم نجاة وأما البراءة فلا تتبرئوا مني، فإني ولدت علي الفطرة وسبقت الي الإيمان والهجرة» [24] فرمي الشيعة الكرام بانهم هكذا اصفقوا [25] علي البدعة واجمعوا علي الباطل ظلم عظيم، والإعتذار عنهم بالتيمّن والتبرّك ونحوهما عذر لا يرتضيه عقلي لاولئك الفحول لأني لا أراه يبعد كثيراً عن القول الأول وهذا أحد الأدلة علي أن لا عصمة إلا لمن عصمه اللَّه، والكمال للَّه وحده، صحيح أن محض استبعاد صدور هذه العملية من الشيعة بدون صدور الأمر عن ائمتهم لا يكون دليلاً كافياً، ولكن ألا يجوز أن يكون مرجحاً للأخبار الصادرة بالأمر علي الأخبار التاركة لذكر هذا الفصل وحملها علي التقية


كالأخبار الدالة علي تحريم المتعة.

بعد أن عرفت شدّة مدخلية الأذان في دين الإسلام وكونه الشعار له دون الدّثار تؤمن كل الإيمان أن معاوية رمز لمحو الإسلام وقطع دابره حين امتعض [26] من تكرار ذكر اسم محمد فيه وتعلم جيداً أن الحسين عرف مغزاه وتحقق أنه إذا ترك يزيد لشهواته ونزعاته الشيطانية ووصايا ابيه معاوية، وهو يري عبادة بقر الشام لابن هند كعبادة أبناء هند للبقر، لا جرم يحقق يزيد اُمنية أبيه معاوية ويزف له البشري بأنه عفّي علي آثار الإسلام وذهبت معالمه كالأذان وغير الأذان، فدخلت في خبر كان فتقر عيّنه وينشرح صدره بذلك وإن حالت بينهما الجنادل والصفائح ولعله لا يبقي لك شك يخامرك إذا استمعت معي الي الحديث الدائر بين زين العابدين خليفة الحسين والمطّلع جيداً علي اسرار نهضة الحسين وبين ابراهيم بن طلحة بن عبيد اللَّه التميمي، كما ذكر المفيد انه لما انتهوا الي باب يزيد استقبلهم هذا الشقي، وقال يا علي بن الحسين من غلب، وهو يغطي وجهه - لأنه يتبسم شماتةً ولكنه يستخفي من الناس ولا يستخفون من اللَّه - فقال له الإمام روحي فداه «إذا أردت أن تعلم من غلب ودخل وقت الصلاة فاذّن وأقم « [27] أفلست تفهم معي أن الحسين أدرك غرضه بهذا القتل، لأنه لو لم يعارض يزيد فيقتله يزيد لعفي يزيد علي اثار الإسلام إذن فالحسين أحيا بقتله الإسلام وآثاره فهو الغالب الظافر بمقصده، وأعاد هذا المعني بأبلغ وأظهر من هذا البيان حين خطب بالشام في مجلس يزيد الحاشد خطبته المعروفة التي ذكر فيها كثيراً من فضائل جدّه المصطفي وأبيه المرتضي بعد أن نزل خطيبه عن المنبر وقد فرغ - يا للَّه ويا للمسلمين - من سب أمير المؤمنين وأبناء أمير المؤمنين، فلم ينزل الإمام إلا بفضيحة يزيد فضيحة آل أبي سفيان كافةً، كما توسّم ذلك فيه يزيد قبل تسنمه ذروة


المنبر، ولكن هل تعلم كيف افتضح يزيد وآل ابي سفيان أمام أهل الشام علي يد خليفة العصر والزمان، ذلك لأن معاوية توغّل في أهل الشام واستغل سذاجة عقولهم، فأثبت عندهم أنه وأهل بيته من بني اُمية هم آل محمد الذين فرض اللَّه الصلاة عليهم في فروض الصلوات، وكرّر علي أذهانهم أن علياً وأهل بيته هم أعداء الإسلام وبني الإسلام فوجب سبهم والبراءة منهم «رمتني بدائها وانسلت» [28] وخاف يزيد أن لا تنطلي هذه الفرية علي أهل مجلسه الحاشد الجامع للغث والسمين، فأظهر أن هؤلاء السبايا عائلة أحد الخوارج الذين خرجوا علي سلطان المسلمين وجاء زين العابدين عليه السلام بالحجة البيّنة والبرهان الساطع بل الدواء الناجع، لدحض مزاعم يزيد ومعاوية، وأنه ليس ابن خارجي - كما يزعم يزيد - بل ابن محمد صفوة العالم الصادع بشريعة السماء الخالدة وتسلسل في خطبته الي دحض مزاعم معاوية، بأن علياً عدو دين الإسلام ونبي الإسلام فبيّن - لا فُضَّ فوه - ما لجدّه أمير المؤمنين في رفع قواعد الدين، وأنه هو الذي ضرب خراطيم الخلق - أي انافهم - حتي قالوا لا إله إلا اللَّه فهو شريك المصطفي، وعلي كاهله ثبتت اركان الهدي، وطبعاً أن الجو لم يصف حينذاك فان مجلس يزيد لم يقتصر علي أهل الشام بل يضم كثيراً من الروّاد إليها والمترددين عليها، وسيصدقون زين العابدين لو أراد لقوله تنفيذاً، واللَّه شهيد علي ما قال وكفي باللَّه شهيداً، وإذا كان خطيبه الآن قد فرغ من سبّ هذا المساهم الأول والمشاطر الوحيد في رفع قواعد الإسلام، وإذا كان جيشه قد فرغ من قتل ذرية عترة النبي، وها هو قد جاء بعيالهم اساري، فقد خرج يزيد وآله من دين الإسلام، وإن لم يدخلوا فيه، وقتل الإسلام بقتل انصار الإسلام، وبسبّه وسبَّ ابيه لمن كان السابُّ له ساباً للَّه ورسوله، فانعكس الأمر علي يزيد، وبهت الذي كفر، وسقط في يده


وتحيّر، وكان أولي به من أبيه أن يتمني لو يدفن حياً فيعيد كلمة أبيه الغابرة «لا خير في الحياة بعد هذه الفضيحة - إلا دفناً دفناً» غير أنه لمّا رأي البيّنة قد قمات عليه ودمغته الحجة الواضحة والسلطان المبين، وأنه هو وآله أعداء الدين وقتلة الإسلام، تحيّز الي جانب من الدفاع عن نفسه، ظن أنه اعظم اثراً وأبلغ نفعاً من جميع ما عداه، فأمر المؤذن بأن يقطع خطبة زين العابدين عليه السلام بالأذان [29] ليخفف من وطأة العار الذي وسمه به الإمام والفضيحة في خروجه من دين الإسلام، بل إرادة قتله لدين الإسلام، ظناً منه أن المؤذن إذا هتف عن أمره بفصول الأذان - وهي ما هي - في الإشادة بصميم عقائد الإسلام كان معارضاً لخطبة الإمام بعض المعارضة، وستعود بتكرار الأذان في الأوقات حجته داحضةً، وانّي لو لم أكن مسلماً لما أتيت بشعار الإسلام، ولو كنت اذنت الدين بالقتال لتسلحت بقطع الأذان دون الإشادة بفصول الأذان، وإلا فمن كان يتصور يا تري أن معاوية وهو الداهية، يقطع خطبة الحسن عليه السلام، بأن يقول له «خُذ في نعت الرطب» [30] ويزيد المستهتر الخليع الثمل بسكراته المتعددة يقطع خطبة زين العابدين، ويعارضها بفصول الأذان، ولكنه لعنه اللَّه وأخزاه فرّ بذلك من المطر الي الميزاب، واستجار من الرمضاء بالنار، فقد انصت الإمام عليه السلام بكليته لسماع الأذان، وأرهف لمضامينه العالية منه الاذان، فلما قال المؤذن اللَّه اكبر وكرّرها، قال لا شي ء اكبر من اللَّه [31] ، فلما قال المؤذن اشهد أن لا إله إلا اللَّه قال علي شهد بها شعري وبشري وعظمي ولحمي ودمي [32] فلمّا قال المؤذن أشهد أن محمداً رسول اللَّه، التفت الإمام من فوق المنبر الي يزيد - ولعل لمعاوية حدساً خاف به من مغبّة دوام هذه الكلمة في


الأذان - حيث قال له - وكأنه ينتزع كلامه من لسان حال الرأي العام في ذلك الحفل الحاشد الحاقد عليه - محمدٌ هذا جدي أم جدّك يا يزيد فإن زعمت أنه جدّك فقد كذبت وكفرت، وإن زعمت أنّه جدّي فلم قتلت عترته [33] ، ولم قتلت أبي وسبيت نساءه، معاشر الناس هل فيكم من جدّه رسول اللَّه، ثم اهوي الي جيبه فشقه [34] صارخاً بلسان حاله:



تا اللَّهِ إنك يا يزيد قتلتهُ

سراً بقتلكَ للحسينِ علانية





پاورقي

[1] أهاب بصاحبه: دعاه، والراعي بغنمه صاح بها لتقف / المؤلف.

[2] مرَّ عليک ما افشي به معاوية للمغيرة بن شعبة في الجزء الاول من هذا الکتاب فراجع.

[3] انظر ينابيع المودة للقندوزي الحنفي ج 2 ص 389.

[4] اقرأ ما کتبه ابن ابي الحديد في شرحه علي النهج ج 4 ص 56 تحت عنوان (فصل فيما روي من سبِّ معاوية وحزبه لعلي).

[5] انظر الکافي للکليني ج 3 ص 264.

[6] انظر الوسائل للحر العاملي ج 4 ص 27.

[7] انظر الکافي ج 3 ص 268.

[8] انظر ثواب الاعمال للشيخ الصدوق ص 231.

[9] سورة العنکبوت / 45.

[10] ولهذه الفصول في الأخبار تفاسير اُخر، ولکنها بطون خفيّة فراجعها في مظانها / المؤلف.

[11] سورة البقرة / 32.

[12] سورة يوسف / 40 - 39.

[13] البراعم: جمع بُرعم وبُرعمة: زهر النبات قبل أن يتفتح ودخيله الجنبذ والجنبل / المؤلف.

[14] انظر هذه الاقوال الصادرة عن اولئک الحانقين الحاقدين في ج 4 ص 56 من السيرة النبوية لابن هشام، وفي باب الباء بعده اللام من سفينة البحار للشيخ عباس القمي.

[15] انظر هذه الاقوال الصادرة عن اولئک الحانقين الحاقدين في ج 4 ص 56 من السيرة النبوية لابن هشام، وفي باب الباء بعده اللام من سفينة البحار للشيخ عباس القمي.

[16] انظر هذه الاقوال الصادرة عن اولئک الحانقين الحاقدين في ج 4 ص 56 من السيرة النبوية لابن هشام، وفي باب الباء بعده اللام من سفينة البحار للشيخ عباس القمي.

[17] الحماني هو ابو الحسين علي بن محمد بن جعفر...الکوفي الحماني.

وصفه الشيخ الاميني في ج 3 ص 58 من کتابه (الغدير) بأنه من فقهاء العترة الطاهرة ومن خطباء بني هاشم وشعرائهم المفلقين.

والبيت جاء في ضمن ابيات رقيقة قرأها امامنا الهادي عليه السلام في مجلس المتوکل العباسي وذلک لما سئل المتوکل ابن الجهم السؤال التالي: من أشعر الناس؟، فذکر له شعراء الجاهلية والاسلام ثم أنه سئل أبا الحسن الهادي عليه السلام فقال: الحماني حيث يقول:



لقد فاخرتنا من قريشٍ عصابةٌ

بمدِّ خدودٍ وامتداد اصابعِ



فلما تنازعنا المقال قضي لنا

عليهم بما نهوي نداء الصوامعِ



ترانا سکوتاً والشهيد بفضلنا

عليهم جهيرُ الصوت في کل جامعِ



فإن رسول اللَّه احمدَ جدنا

ونحنُ بنوه کالنجوم الطوالعِ



فقال المتوکل وما نداء الصوامع يا ابا الحسن؟ فقال الامام: أشهد أن لا إله إلا اللَّه وأشهد أن محمداً رسول اللَّه.

ثم قال له الامام محمد هذا جدي ام جدک؟ فضحک المتوکل وقال: هو جدک لا ندفعک عنه.

[18] سورة المائدة / 27.

[19] تسبيح الزهراء عليها السلام هو - کما جاء في الآثار الواردة عن المعصومين - أن يقول المصلي بعد فراغه من کل صلاة (اللَّه اکبر) أربعاً وثلاثين مرة، و (الحمد للَّه) ثلاثاً وثلاثين مرة و (سبحان اللَّه) ثلاثاً وثلاثين مرةً.

والروايات في فضل هذا التسبيح کثيرة منها: ما روي عن الامام الصادق عليه السلام انه قال في تفسير قوله تعالي (والذاکرين اللَّه کثيراً) من بات علي تسبيح فاطمة عليها السلام کان من الذاکرين اللَّه کثيراً.

انظر (مجمع البيان) للشيخ الطبرسي ج 8 ص 561.

وقال عليه السلام لابي هارون المکفوف (يا أبا هارون إنا نأمر صبياننا بتسبيح فاطمة کما نأمرهم بالصلاة فالزمه فإنه لم يلزمه عبدٌ فيشقي).

الي غير ذلک من النصوص الشريفة التي جاء الحث فيها علي ضرورة الالتزام بتسبيح الصديقة الکبري عليها السلام.

[20] البيت لامري‏ء القيس.

[21] لاحظ في هذا المجال ما کتبه العلامة الاميني طاب ثراه في کتابه الاغر (الغدير) ج 11 ص 16 وما بعدها.

[22] الاختصاص للشيخ المفيد ص 13.

[23] اقول: اقرأ ما کتبه العلامة الکبير والمحقق الشهير المغفور له السيد عبد الرزاق المقرم رحمه اللَّه حول الشهادة الثالثة في کتابه الصغير في حجمه الکبير في نفعه وفائدته (سر الايمان).

[24] شرح ابن ابي الحديد ج 4 ص 56.

[25] اصفقوا علي أمر واحد: اجتمعوا عليه / المؤلف.

[26] امتعض من الأمر: غضب منه وشقّ عليه / المؤلف.

[27] انظر بحار الانوار ج 45 ص 177.

[28] هذا مثل يضرب لمن يعير غيره بما هو فيه / المؤلف.

[29] مقتل الحسين للخوارزمي ج 2 ص 71.

[30] انظر بحار الانوار ج 43 ص 356.

[31] منتهي الآمال ج 1 ص 773.

[32] الايقاد ص 177.

[33] مقتل الحسين للخوارزمي ج 2 ص 71.

[34] نفس المهموم ص 451.