بازگشت

مقتد و مقتدي به


لقد نهض الكثير من رجال الدهر والأفذاذ المصلحين في العالم، فبثوا إرشاداتهم وخدموا الإنسانية بإصلاحهم وتعاليمهم في الأمم، غير مبالين بما يهددهم من الأخطار ولا محتفين بما يلاقون من الكوارث، بل مستسهلين الصعب في سبيل نشر دعوة الإصلاح في الناس والقيام بمهمتهم الواجبة في تقويم المجتمع والأخذ بيده الي اعتناق المُثل العليا علي حد قول الشاعر:



لأستَسهلنَّ الصَعبَ أو أدركَ المُني

فَما انقادَت الامالُ إلا لصابرِ



وكان في الرعيل الأول من حسنات الدهر ومفاخر الأجيال وعظماء التاريخ انبياء اللَّه ورسله الذين خلع اللَّه عليهم خِلعه السنية في نحو قوله «اللَّه يصطفي من الملائكة رسلاً ومن الناس» [1] وفي قوله «اللَّه أعلم حيث يجعل رسالته» [2] فقاموا بوظيفتهم الكريمة وثابروا علي بعث الخلق من رقدته وكان ذلك هدفهم الوحيد الذي جعلوه قبالة أعينهم، فلم يروا غيره ولم يبصروا سواه، ولا تطلب في قصصهم وامتهانهم في اُممهم أثراً بعد عين، فهذا القران الكريم ينادي بأعلي صوته بما لاقوه من مصاعب حياتهم، من تكذيبهم ورميهم -وحاشاهم - بالسحر والكهانة والشعر والجنون، ثم عقب ذلك بما أكرم به أنبياءه ورسله من القتل علي يد شرار اُممهم بقوله تعالي «أفكلما جاءكم رسولٌ بما لا تهوي أنفسكم استكبرتم ففريقاً كذّبتم وفريقاً تقتلون» [3] ، «ويقتلون الأنبياء بغير حقٍ ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون» [4] الي غير ذلك من الآيات، وفي الحديث أن بني


إسرائيل كانوا يقتلون في كل يوم من طلوع الفجر الي طلوع الشمس سبعين نبياً ثم يجلسون في أسواقهم وينقلبون في أعمالهم ومعايشهم كأنهم لم يفعلوا من ذلك شيئاً [5] وربما اقتضت المصلحة الألهية أن يكف عن بعض أنبيائه ورسله بأس المعتدين من الأمة وينجيه من القتل نجاةً عاديةً إذا أبي أن يُجري الأشياء إلا بأسبابها، أو خرقاً لناموس العادة وإرغاماً لأنف الطبيعة وهو بعباده حكيم عليم، ولم نر من صَدع بالرسالة معززاً بالقوة الكافية الطبيعية والقدرة القاهرة العادية إلا أقل القليل الملحق بالفروض النادرة، أما سليمان بن داود الذي اُتي ملكاً لا ينبغي لأحد من بعده فسخّر اللَّه له مُلك الإنس والجن وسخّر له الريح غدوّها شهر ورواحها شهر، فإنما كان ذلك من باب المعجزة وخرق العادة، ولكن هلمِّ الخطب الي سيد بني آدم ومفخرة العالم نبينا محمد بن عبد اللَّه صاحب الإرادة الصادقة الماضية التي لا يثنيها القدر ولا يعارضها القضاء، ورب العزيمة الجبّارة التي كان بها سيّد أولي العزم من الرسل فقد عاش علي ما خاطبه اللَّه تعالي يتيماً فآوي وعائلاً فأغني، وإذا به يصدع برسالته العامة علي الصفا والمروة في موسم الحاج، وكان المتنفذين في زمانه قريش وخيلاؤها التي ما ذلّت منذ عزّت، وكانوا يعبدون من دون اللَّه ثلاث مائة وستين صنماً [6] ، فيهيب بهم بملأ فيه ويدعوهم لعبادة اللَّه وحده ويسبُّ أصنامهم ويسفّه علي عبادتها أحلامهم، فنزلت عليهم هذه الدعوة نزول الصاعقة من دون إنذار، وفاجأهم هذا الأمر العظيم من الصادق الأمين المعروف عندهم بالفقير اليتيم، فغلت مراجل شنئانهم عليه وحرصوا علي قتله فضلاً عن تكذيبهم له بكل ما اُتوا من قوّة، وبذلوا في تحقيق ذلك غاية جدّهم وجهدهم، فهم يقتلونه في كل يوم مراراً، لكن اللَّه يعصمه من كيدهم جهاراً، فاحتمل منهم الأذي، وصابرهم بالحلم والأناة وجادلهم بالتي هي أحسن، وتكبّد


المشاق في سبيل اللَّه ولوجه اللَّه وحده، وإذا عظمت الغاية عند النفس هانت لديها المقدمات مهما كانت عظيمة، فلمّا عجزوا عن مقاومته بالقوة والعنف لجئوا لاستمالته اليهم بالطمع واللطف، فوعدوه أن يجمعوا له من الأموال ما يكون به أغني أهل مكة جميعاً، ويسوّدوه علي قبائل قريش كافة، إن هو ترك تلك الحجارة التي يزعمون أنها أربابهم، فرفض ذلك رفضاً باتاً لا هوادة فيه، وأجابهم بكلمته الخالدة التي ضرب بها المثل في الصبر والجَلَد، وصدق العزيمة في التمسك بالمبدأ المقدس، فقال «واللَّه لو وضعتم الشمس في يميني والقمر في شمالي علي أن أترك هذا الأمر، ما تركته حتي يظهره اللَّه أو أموت دونه» [7] فشكر اللَّه سعيه واظهر علي يده أمره وأتمَّ دينه ولو كره المشركون، وقد أعاد التاريخ نفسه ولم يمض قرنٌ من الزمن علي تلك الرسالة الكريمة، فرأي سبط ذلك النبي العظيم دين جدّه الذي ضحّي بمهجته المفداة بجملة عالم التكوين في سبيل إعلاء كلمته ورفع مناره قد تداولته أيدي الأحفاد من أعدائه أوّل استهلاله وعندما ترعرع وشبَّ، وعما قليل سيعود نسياً منسياً وتعفو معالمه وتندرس آثاره كأن لم يكن شيئاً مذكوراً، يوضح لك ذلك قوله عليه السلام «وعلي الإسلام السلام إذ قد بليت الأمة بوال مثل يزيد» [8] فهل تراه وهو وارث النبي، وحامل عهد اللَّه علي أن يسهر علي حفظ دين اللَّه يكتفي من نفسه بأن يودّع دين جدّه بهذه الكلمة ليموت بين يديه، وهو يري في نفسه المقدرة علي كبح عادية المعتدين، إذن فقد ورث يزيدٌ أبا سفيان في عدواته لدين الإسلام، ولم يرث الحسين محمداً باني كيان الإسلام، وصاحب العزيمة الصادقة التي كان سيد اُولي العزم من الرسل غير مدافع، وواحد ابطال التاريخ وعظماء الكون بلا استثناء، فلم يُسوّغ له واجبه الديني وجعل سيرة محمد وعلي نصب عينيه إلا القيام لكبح عادية الضلال بنفسه وما ملكت يمينه،


ملبياً صريخ الحق والهدي، غير مبالٍ أوقع علي الموت أم الموت وقع عليه، متمماً لسيرة جدّه ومقتدياً بهداه، مشاركاً له في جنس قضيته وفصولها، أما إنه قُتل وسلم اللَّه جدّه من القتل، بعد أن عرّض نفسه للقتل مراراً، ووطّنها عليه دائماً، فليس هذا بفضل تكثر فيه الأنواع بل أمر راجع الي اللَّه فيما يراه من المصلحة لعباده وهو بعباده حكيم عليم.

وقد قتل الكثير من الأنبياء والمرسلين، كما قصَّ اللَّه علينا ذلك في الذكر المبين، مبكتاً بذلك علي القاتلين دون المقتولين، بل كثيراً ما نراه ينوّه بذكر المقتولين في سبيله ويسمهم بالأوسمة الجليلة، كوسام الشهداء، ويبرّئهم من الموت، وانما الميت ميت الأحياء «ولا تحسبنَّ الذين قتلوا في سبيل اللَّه أمواتاً بل أحياء عند ربهم يرزقون» [9] فسمي القتل في سبيله حياةً حياةَ عزٍ وشرفٍ، حياة روح طاهر وذِكر خالد، حياةَ مثوبةٍ وافرة ونعيم مقيم، ولو كان في القتل أية غضاضة، ولو لم يكن فيه شرف عظيم لاشترط السلامة منه للمجاهدين في سبيله، ولكنه تعالي قال «إن اللَّه اشتري من المؤمنين أنفسهم وأموالهم علي أن لهم الجنة يقاتلون في سبيل اللَّه فيقتِلونَ ويُقتَلون وعداً عليه حقاً في التوراة والإنجيل والقرآن ومَن أوفي بعهده من اللَّه فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به وذلك هو الفوز العظيم» [10] .

نعم اقتدي الحسين بجدّه ولم يأل الإسلام نصراً بجدّه وجهده، ورفض طلب بني امية كما رفض جدّه إقتراح قريش، فقتل الحسين وسلم اللَّه جدّه من القتل بعد أن وطّن نفسه عليه، ولكن اقتراح يزيد علي الحسين كان أشد من اقتراح سلفه علي جدّ الحسين، قريش أرادوا من النبي أن لا يدعوا الي عبادة اللَّه وحده، وان عَبده هو وحده، ويسوّدوه عليهم، ويجمعوا له من الأموال ما يكون به أغني أهل


مكة، ويزيد اقترح علي الحسين أن ينزل علي حكمه فأما يدفعه الي سرجون ليقتله بعمّه حنظلة أو جدّه عتبة، أو خاله الوليد، أو يقتله قتلة أخري هي شرٌ من هذه وأخزي، فسمت به نفسه القدسية فسمي الموت في سبيل العز والشرف سعادةً [11] ، ورأي القتل في نصرة الدين والهدي شهادةً، وآثر الإستشهاد في سبيل المبدأ المقدس علي الحياة مع الظالمين فضلاً عن القتل علي الشاكلة التي ألفها فيهم مع أصحاب جدّه وأبيه، وكيف ينزع الحسين عن دعوته لدين جدّه طمعاً بحياة موهومة يمنُ عليه بها قوم أنذال أجلاف، أو انتظاراً لقتلة ذليلة يعتقدها علي يدي أشرار جفاة، وهو يري جدّه لا يتنازل عن دعوته بعد أن بذل له أمجاد مكة وأشرافها وأفلاذ كبدها ما بذلوا، ولكنها البصائر تعمي دون الأبصار، وتقدست ساحة النبي الكريم عن وصمة إعتراض المعترضين واقتفي اثره واقتدي بهداه سبطه المسدد وحفيده الكريم.

وان تعجبت من إعتراض القوم عليه فعجبٌ عدم إعتراضهم علي من زعم اقتداءه به، بل تري تاريخ الإسلام والعرب يسجل مواقف الكثير من اُباة الضيم الذين نهضوا في وجه السلطة القاهرة معتدين بالحسين بحسب إبائهم للضيم وأنفتهم علي النزول علي الخسف، وإن كانوا من وجهة تاريخهم في الدين قد خطبوا خبط عشواء في الليلة الظلماء، أمثال أبناء الزبير وشبيب الخارجي وقطري بن الفجاءة، وقد اعترفوا أنفسهم بتقدم الحسين لهم وتفوقه عليهم وقالوا «ما ترك الحسين لابن حُرةٍ عذراً» فتجد الكثير من حَمَلة الاقلام، ولعل منهم المعترضين علي نهضة الحسين يتشدّقون بذكر مواقفهم ويعجبون بصبرهم وثباتهم، زاعمين أنهم يحملون للأجيال المتأخرة مفاخر أسلافهم لتكون لهم قانوناً يعملون به، وقاعدة كريمة يجرون عليها، نقول فما أجدر الحسين عليه السلام بإنشاد هذا البيت، وللَّه در قائله:




إذا مفاخري اللاتي اتيه بها

عُدّت ذنوباً فقُل كيفَ أعتذرُ



وإلا فما بال القوم يجعلون مفاخره حسنات لغيره وسيئات له، وأفعاله مكارم لاُولئك المقتفين كما يظنون به، وذنوباً له دونهم، فهل كانت لأسم الحسين عليه السلام خصوصية في الإعتراض، فقد سمّاه اللَّه بذلك [12] بعد أخيه الحسن وأبيه علي عليه السلام وامه فاطمة عليها السلام وجدّه محمدصلي الله عليه وآله، فإن أسماءهم تنزل من السماء، وهي مشتقة من اسماء باري ء الأرض والسماء، أم هذه الخاصة في الإعتراض لليوم الذي قتل فيه، فقد كان أهل الجاهلية يعظمون الأشهر الحُرم، ومنها محرم الحرام، وبنو اُمية لم ترعَ حرمة شهرها ولا حرمة نبيها، فقتلت ابن بنت نبيها في الشهر الحرام، بعد ما طلبوا قتله في البلد الحرام.



قتلوا الحرامَ من الأئمةِ

في الحرامِ مِنَ الشهورِ



وإن كان الذنب للأرض التي قتل فيها، فإنها أرض مقدسة ولولاها لما خلق اللَّه مكة ولا بيتها العتيق، وقد ظفرت بدمه الذي نشأ من دم رسول اللَّه، وأريق فيها لوجه اللَّه، فاكتست به عرصاتها قبال كسوة الكعبة من صنعة اليمن.



يُهنيكِ يا كربلا وَشي ء ظَفرتِ بهِ

مِن صَنعةِ الُيمْنِ لا مِن صَنعة اليمَنِ



حَوت سِبطَ عَرشِ الجَليلِ العَظيمِ

فكُلُ المَعاني لَها راجعه [13] .





پاورقي

[1] سورة الحج / 75.

[2] سورة الانعام / 124.

[3] سورة البقرة / 87.

[4] سورة آل عمران / 112.

[5] بحار الانوار ج 44 ص 365.

[6] انظر أخبار مکة لابي الوليد الازرقي ج 1 ص 120.

[7] السيرة النبوية لابن هشام ج 1 ص 285.

[8] الملهوف علي قتلي الطفوف ص 99.

[9] سورة آل عمران / 169.

[10] سورة التوبة / 111.

[11] فقال عليه السلام في احدي خطبه العسجدية (اني لا اري الموت إلا سعادة والحياة مع الظالمين إلا برما...).

[12] انظر مقتل الحسين للخوارزمي ج 1 ص 88.

[13] من قصيدة لمؤلف الکتاب حشره اللَّه مع النبي وآله الاطياب يرثي بها الحسين عليه السلام مطلعها:



أشمس الضحي اشرقت طالعه

فأبصرت انوارها لامعه.