بازگشت

لماذا يطلب المبارزة


لقد ورث الحسين شجاعة جدّه وأبيه، واستوت علي جسده درعُ الرسول حيث تحمّل عهد الإمامة عن أخيه، فكان إمام العصر وخليفة الزمان، وكان المثل الكامل في الصفات الحسني، وكان نسيجَ وَحدِه في مكارم الأخلاق ومحاسن الشيم، نعم وربك لأن صفات إمام العصر إمام الصفات النبيلة في كل عصر ومصر، البحر في جنب كرمه قطرة، والجبل الأشم عند صبره وثباته ذرة، وسحبان في جنب فصاحته كباقل [1] ، والأسد في مقاومته أجبن من صافر [2] ، لذلك كان يوم الطف كلما تكاثرت الجنود لحربه وقتاله تلقاها بصدره الرحيب وجاشه المطمئن وضميره المرتاح، وكلّما تفاقمت الحوادث وتكاثفت الخطوب أشرق لها وجهه، وبرقت أساريره، وزادت الطلاقة في محياه الكريم الوضي ء.



تزيدُ الطلاقةُ في وجهِهِ

إذا مَلمل الرُعبُ أقرانها [3] .



ولكن يحار العقل ويتردد الفكر في شي ء واحد جاء به التاريخ من باب إرسال المُسلماتِ، ولم يتلعثم في نقله لسانه، ألا وهو طلبُ الحسين من القوم المبارزة [4] ، فاخذوا يبرزون له واحداً بعد واحد حتي قتل منهم في ذلك خلقاً كثيراً [5] ، وقدر في أكثر الروايات بألف وخمسمائة مبارز، حتي أقبل الشمر الي ابن سعد، وقال له «أيها الأمير إن هذا الرجل يفنينا مبارزةً» [6] وأشار عليه بأن


يحمل عليه الجيش كله حملة رجل واحد، فقبل مشورته [7] ، فإن المعترض واقف علي ثنية الأعتراض يترصّد ثغرة يلج منها الي مقصده وطريقاً يسلكه ليفضي به الي أمله الذي يتوخاه، فله أن يصرخ بملي ء شدقيه قائلاً إذا كان الحسين عِدل القران - كما يزعمون - والقرآن لا يفتأ يتحدي العوالم التي كان كتاب اللَّه اليها وحُجته عليها بأن يأتوا بمثله فلا يأتون ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً، فما بال الحسين يمنع من إجتماع جيش الكوفة علي قتاله بل لا يستنزل فصيلةً من فصائله، بل اثنين من شجعانه وأبطاله، اليس هذا يؤذن بضعفه عن مقاومة الجيش بأسره، ويُعلن بعجزه عن مقابلة الشجعان إذا تكثرت وحداتها، أم وراء هذه الأمور شيء آخر.

قلنا: ليس وراء هذا الإعتراض شيء واحد وإنما هي أشياء متعددة:

الأول: المبارزة من سنن أهل الحرب والقتال في كل دين وفي كل دور من أدوار الزمن، وإن استوت الصفوف وتوافقت الجيوش، فضلاً عما إذا بقي المحارب وحيداً يقابل جيشاً يضم الفيالق، المُنظَّمة الرايات والبيارق، وجاء الإسلام فاقرّ هذه القاعدة، فمنع في جهاده المقدس أن يُعين المبارز من جُنوده جندي آخر علي قِرنه في النزال ما لم ينجده من أصحابه أحد، وهذا رسول اللَّه في أعرف وقايعه بدر الكبري لم يخرج لشيبة وعُتبة وابنه الوليد إلا عدّتهم ثلاثة من بني عفراء [8] ، ولما اقترحوا أن يخرج لهم أكفأهم من قريش، وقد فهم من لحن خطابهم ومن ملاحظة زهوهم وغرورهم بأنفسهم أنهم لا يرون لأنفسهم اكفاءً إلا بني هاشم أشرف الناس حسباً وأعلاهم نسباً، فأجابهم الي مسئولهم وأخرج لهم أعزّ الناس عليه أخاه علياً وعمّه الحمزة وابن عمّه عبيدة [9] ، وانزل اللَّه فيهم [10] «هذان خصمان إختصموا في ربهم» [11] وقضي لأوليائه علي أعدائه،


فقطع دابر القوم الكافرين، والحمد للَّه رب العالمين.

والحسين لمّا أخرج لجيش الكوفة أنصاره البواسل اُحاد وثناء [12] لزمهم في سنة القتال أن يبارزوهم كذلك موحد ومثني دون أن تحمل عليهم كتائب، أو يقاومهم الجيش بأسره مقانب، ولكنَّ بني أمية خرقوا النواميس العربية، تبعاً للمناهج الدينية، فأراد الحسين أن ينبههم علي غلطهم وغفلتهم، ليقلعوا عن سوء فعلهم، وإذا كانوا يرون لمبارزيهم الأول ظهيراً، ويظنون أنه سينجدهم إذا حملوا علي أفرادهم كتائب ومقانب، فالآن وقد اسفرت الحرب عن وحدته وتبين لهم خلاءُ ظهره من معين وظهير لم تبق لهم ولا لمن يريد اصلاح تاريخهم حجةً يتعللون بها، وكانت كلمة اللَّه العليا، وكلمة الذين كفروا السفلي، وولي اللَّه الغالب المنصور، وعدوّه المغلوب المخذول «ولن يجعل اللَّهُ للكافرين علي المؤمنين سبيلاً» [13] .

الثاني: ما نقل عن العقد الفريد [14] أنه لمّا خيرهم أن يدعوه يرجع من حيث أتي الي مدينة جده ومسقط رأسه، أو يسير الي ثغر من ثغور المسلمين، فيكون له ما لهم وعليه ما عليهم، أو يبارزوه واحداً بعد واحد، فأبي عليه القوم هذه الخصال كلها مال معه ثلاثون رجلاً وقالوا «أبن رسول اللَّه يطلب منكم أمراً من ثلاثة أمور فلا تعطونه واحداً منها [15] «نقول فاذا هدي اللَّه بهذا الإقتراح منه، وبامتناعهم عن إجابته ثلاثين نفساً من اُمّة جدّه وأنقذهم اللَّه من الضلال، ودخول النار، فكم يكون ربح الحسين عليه السلام عند اللَّه، وقد سمع قول جده لأبيه «يا علي لأن يهدي اللَّه بك نفساً واحدةً خيرٌ لك مما طلعت عليه الشمس أو غربت [16] «إي واللَّه خير من الدنيا وما فيها وهل جآء الحسين إلا هادياً لاُمة


جده، وهل قاتلها إلا علي الرشاد وإنقاذها من عذاب اللَّه، وجدّه يباهي الأنبياء باُمته يوم القيامة ولو بالسقط الواحد فما بالك بثلاثين رجلاً جري عليهم قلم التكليف.

الثالث: إذا مال معه ثلاثون رجلاً أن لم يعطه القوم واحدةً من ثلاث، فكان الأولي أن يميل معه ثلاثون ألفاً، أن منعوه إياها بعد أن منحوه بواحدة منها، إذا يجب عليهم أن ينتبهوا كما انتبه اولئك الثلاثون فيقولوا «ما عدا مما بدا [17] «أتُحلون المبارزة ساعة وتحرمونها اُخري، أليس المؤمنون علي شروطهم، أليس العهد بل الوعد مسئولاً عنه، أعلي كتاب اللَّه، أم علي سنة رسول اللَّه، أم علي قواعد الحرب، ونواميس القتال عند العرب تغدرون به، بعد تلك المبارزة التي اقترحها عليكم فمنحتموه بها وقررتموها معه، فتحملون عليه هذه الحملة الشعواء، وتفترقون عليه أربع فرق، فرقة بالسيوف، وفرقة بالرماح، وفرقة بالسهام، وفرقة بالحجارة، وما هو إلا رجل واحد، دوعوه ويلكم تقتله الفرق التي تحيط بقلبه، وتتوغل نبراتها في ضمائره، فِرقة العطش، وفرقة الغربة، وفرقة فقد الأحبة، وفرقة حزنه علي دينه الحنيف، ومبدئه المقدس الذي عاد كرةً تتلاقفها طواغيتكم، يزيد بعد معاوية، ومعاوية بعد يزيد، هذا بعدما ضحي جده محمد بمهجته في إعلاءِ مناره وبناء كيانه، ولكن أين المهتدون، وان اتضحت الطرق ونهجت المسالك، فانها لا تعمي الأبصار ولكن تعمي القلوب التي في الصدور، فصبر جميل أبا عبد اللَّه واللَّه المستعان علي ما يصفون، يا ابن رسول اللَّه.



يا ابنَ بنت النبي ضَيّعتِ العهدَ

اُناس والحافظونَ قليلُ [18] .



الرابع: لا شك أن الأمر الشخصي الخاص الصادر عن موضوعه الخاص


الحقيقي أبلغ وأتم في كثير من الوجوه والأعتبارات من الأمر الكلي العام الصادر عن موضوعه الكلي، ولهذا يقدمُ عليه ويخصصه، بل الكلي العام كلما قلّت أفراده، وإن بقي إضافياً ولكنه قرب من الخاص كان أبلغ وأتم، وأنظر الي أمير المؤمنين لما اعترف الخوارج كلهم بقتل عامله عبد اللَّه بن خباب بن الأرث [19] ، وكانوا كلتةً [20] واحدةً أمرهم أن ينقسموا كتيبتين، فاعترفت كل كتيبة بقتله، ثم قسم كل واحدة منهما إثنين فاعترفا بقتله، وما زال يقسم كتائب، فيعترفون بقتله، حتي لم تبق شبهة في العرف في عدم إندكاك صوتٍ من أصواتهم ضمن اصوات أصحابه، فعندها قال «لو اعترف أهل الأرض كلهم بقتل عبد اللَّه - أي علي هذه الشاكلة من التخصيص - لقتلتهم عن آخرهم [21] «وكان غرضه من هذا التقرير بعد تقسيمهم أن لا يعتذر منهم واحدٌ بأن لا صوت لي في هذا الإعتراف، وقد اندك إنكاري السكوتي أو القولي ضمن اصوات اصحابي، فاشتبه الأمر حتي أدي الحال في وقوفي معهم الي قتلي بغير حجة واضحة ولا سلطان مبين، وكذلك، الأمر في تقرير الشهود في الدعاوي بعد تفريقهم وتأكيد البيعة علي المبايعين واحداً بعد واحد، الي كثير من الأمثلة والشواهد.

الخامس: من كان يظن يا تري أن ينتهي الصلف وقلة الحياء بأفراد الجيش واحاد العسكر وأشخاصه كلهم أن يريدوا وضع سلاحهم بسيّدهم الحسين، من دون تحفظٍ ولا استحياء، وهو ريحانة نبيهم وثمرة قلب بضعة رسولهم، اُف لهم ولأمهم الويل والهَبَل.



ما كانَ أوقحها صَبيحةَ قابلَت

بالبيِض جبهتَهُ تُريق دِماءها [22] .




هذا مهللٌ أخو كليب بن ربيعة لما أراد عبداهُ قتله بوضع سلاحهما فيه، قال لهما «أتضعان سلاحكما بسيدكما، ولكني مللت الحياة وسئمت العيش، فخذا البيضة من رأسي تبلغا قصدكما من قتلي» وعندها ملكهما الخجل من سيدهما، ورجعا عن وضع سلاحهما فيه، ولكنهما انتهيا الي امره في كيفية قتله، والحسين واللَّه أجلّ قدراً وأعظم هيبةً وأملأ للعين من مهلل بن ربيعة واخيه صاحب الحِمي المضروب به المثل.

السادس: لقد كان المظنون بل المتيقن بهؤلاء الذين حظوا حظوة خاصةً بلقاء سيد شباب أهل الجنّة وتشرفوا برؤية وجهه المبارك الميمون الذي يذكرهم برؤية وجه الرسول يمتلك لقاؤه مشاعرهم وتستولي رؤية وجهه علي قلوبهم وأفئدتهم، فتميل بها الي الحق والهدي وتخرجهم من الظلمات الي النور، لا سيّما إذا انضّم الي ذلك ما تحلي به من ثياب رسول اللَّه وسلاحه ومركبه، فتجلي بوجه رسول اللَّه، وتحلي بحلية رسول اللَّه، وما شفعه به من نصوص أثرية فيه، عن حامل رسالة السمآء، واستشهد علي مُدعاه أهل الصدق والحفاظ من المعمّرين [23] ، فإنه لا تزال الحياة تحتفظ بالكثير ممن سمعوا ذلك منه، وحفظوا عنه ولقد اتفق ذلك للكثير من الناس معه ومع سلفه الكريم الصالح، وإن زَعَمَت أُم المؤمنين عائشة أن سحر علي بن أبي طالب عظيم [24] ، وأن أولاده يحذون حذوه، حيث انتخبت من عسكرها رجلاً شديدَ العدواة لعلي بن أبي طالب، لتبعث معه برسالتها اليه وأوصته أن لا يغلبه بسحره، ولكنه سرعان ما بهرته آية الحق وجذبه مغناطيس الرُشد، فعاد محباً حميماً بعد أن كان عدواً صميماً.




إنما هذه القلوبُ حَديدٌ

وَجَميلُ الاراءِ مغناطيسُ



فقالت ما بعثنا الي ابن ابي طالب أحداً إلا سحره، وهكذا الشامي الذي شتم الحسن أوّل الأمر واجترأ علي قدس أبيه، ثم قال له في آخر أمره «لقد جئت من الشام، وما علي وجه الأرض أبغض إليّ مِنك، وها أنا أرجع الي بلادي، وما علي وجه الأرض أحبُ اليّ منك» [25] وكيف يستبعد ذلك علي أهل البيت وهم ورثة محمد الذي اتفق له ذلك كثيراً، أليس يقول واصفه من رأه بديهةً هابه، ومن خالطه أحبّه، يشير الي جمال خَلقِه وجَميل خُلقِه، وهو وربك افضل عند اللَّه من موسي الذي يقول اللَّه «وألقيت عليكَ محبةً مني» [26] وبطل روايتنا الحسين منه عليه السلام كما يقول «حسينٌ مني وأنا من حسين» [27] وهذه اُمه تقول في ترقيصه، وقلبها مفعم بالسرور طافح بالبشر، إذ تتوسم من مشابهة شمائله لشمائل أبيها أنه سيعيد دور أبيها المجيد وعصره عصر النور الذهبي، فتقول له:



أنتَ شبيهٌ بأبي

لَستَ شبيهاً بعلي [28] .



فمن جذبه لقاؤه الخاص الي الدين، وملكته أخلاقه وهيبته حتي أدّت به الي الرشد رسول بن سعد الخزيمي الذي أرسله ابن سعد اليه، وقال له إمض الي الحسين، وقل له ما الذي جاء بك الينا، واقدمك علينا، فاقبل حتي وقف بإزاء الحسين فناداه، فقال الحسين اتعرفون هذا الرجل، فقالوا هذا رجل فيه الخير إلا


أنه شهد هذا الموضع، فقال سلوه ما يريد، فقال اريد الدخول علي الحسين، فقال له زهير ألقِ سلاحك وادخل، فقال حُباً وكرامة، ثم ألقي سلاحه ودخل عليه، فقبّل يديه ورجليه، فقال يا مولاي ما الذي جآء بك الينا، وأقدمك علينا، فقال عليه السلام كُتبكم، فقال الذين كاتبوك هم اليوم من خواص ابن زياد، فقال إرجع الي صاحبك وأخبره بذلك، فقال يا مولاي من الذي يختار النار علي الجنة، فواللَّه ما اُفارقك حتي ألقي حِمامي بين يديك، فقال له الحسين واصلك اللَّه كما واصلتنا بنفسك، ثم اقام عنده حتي قُتل بين يديه، فإن اللَّه لمّا أراد هدايته ساق له التوفيق بأن يحظي هذه الحظوة الخاصة بلقاء سيد الشهداء، وإذا أراد اللَّه شيئاً يسَّر أسبابه، ولو لم يُوَفق للقائه لم يستضيء بنور الرشد والهدي إلا ما شاء اللَّه.

السابع: إننا واللَّه نعجب كثيراً كيف لم يستول الخوف علي اولئك الذين ينتدبون لمبارزته بآحادهم، وهم يرون الجيش بكامله قد عجز عن مقاومته، فضلاً عن شركائهم في المبارزة الذين تقدموهم، فقتلوا بين أيديهم، ويلهم أليس لهم بصائر ولا ابصار.



هُم اجتمعوا فاعياهُم فأنّي

تقومُ له مُبارزةُ الرِجالِ [29] .



ألم ترَ الشجعان تتقهقر عن مصرعه كلما أقدمت علي ذبحه وهو صريع لا حراك به، ولكنه ما فتح عينيه في وجه أحدهم إلا ارتعدت فرائصه [30] ورمي السيف من يده جُبناً وخوراً، وولي هارباً يعتذر لمن لقيه أنه قد فتح عينيه في وجهي، فاشبهتا عيني جده رسول اللَّه صلي اللَّه عليه وآله.



فما أجلَتِ الحربُ عَن مِثلهِ

صَريعاً يُجبِّنُ شُجعانَها



صَريعاً متي عايَنَتهُ الكُماةُ

يَختطِفُ الرُّعبُ ألوانها [31] .



وهو فتيً تُغنيه عَن سيفِهِ

كراتُ عينيهِ إذا ما رَنا [32] .




الثامن: نُقل عن زين العابدين أنه كان يري أباه أرواح العالم فِداه يكف بأسه في الحرب عن الكثير ممن يعترض له في القتال ويقصد غيره فيقتله، فيعجب من ذلك إذ الحكيم من يضع الأشياء في مواضعها، ولما رجعت له الإمامة وعصَّبه اللَّه بتاج الخلافة، وتحمّل عهد اللَّه علم السر في ذلك، وأن الذين كفَّ بأسه عنهم كان في أصلابهم ولو الي يوم القيامة ودائع سيرعف بهم الزمان فينتحلون مودّتهم ويحشرون معهم، بخلاف الذين يقصدهم بسيفه فيقتلهم [33] ، نعم «يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي» [34] نقول فالمبارز للحسين إن رأي في صلبه وديعته هداه وكفي ضربته التي جاء مستسلماً لها ومَنَّ عليه بحياة جديدة، وإن لم يأت التاريخ لواحد من مبارزيه من هذا القبيل، بل كان ذلك في الحملة الكلية ويوم رتّل سيفه في رقاب الجيش وجمهرة العسكر «يوم نبطش البطشة الكبري إنا منتقمون» [35] وإن لم يكن المبارز في صلبه أحد من المؤمنين لم يتكلّف الحسين طلبه، بل يكون هو الذي طلب القتل بسيف الحسين، وغيره في ذلك الوقت كالمسالم الطالب للحياد، وقد مهّد اللَّه لجده قبله قاعدة الجنوح للسلم مهما جنح العدو، ولو كان الظفر له علي عدوّه فأوحي اليه «وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل علي اللَّه» [36] .

التاسع: أن المبارزة تدعوا الي طول العمر في الحياة، وطول العمر في طاعة اللَّه من أمثال الحسين محبوب، إذ فيه ترتفع الدرجات وتتضاعف الحسنات، لأنه إذا مات ابنُ آدم انقطع عمله، والدنيا مزرعة الآخرة، وكلما كثر الزرع الطيب زاد


ابتهاج صاحبه وتضاعف سرور مجتنيه، ولقد مات أحد المسلمين في عهد حامل الرساله الخالدة المقدسة، فقاسوه في الثواب برجل مات من المسلمين قبله بسنتين، فلم يرتض النبي هذا القياس منهم، بل قال لهم فأين عبادة هذه السنتين التي تأخر بها عن صاحبه، وإذا ثبت أن الجن والإنس والملائكة لم يحصوا ثواب نفس من أنفاس أبيه ليلة مبيته علي فراش رسول اللَّه، فكيف يحصي ثواب الحسين في أنفاسه التي مددتها المبارزة، وهو يجاهد في سبيل اللَّه ويقي بنفسه عن دين رسول اللَّه.

العاشر: لعل الحسين أراد بهذه المماهلة أن يثوب القوم للرشد ويسلكوا معه سنن الهدي، كلما طال دعاؤه لهم، فإن النفوس السامية لا تنقطع حبال أملها التي تربطها بنجاح دعوتها الي آخر حدود الإمكان، وهو ابن من قال لملائكة العذاب، وقد أرادوا تعجيل الإنتقام والثأر من قومه الذين كذّبوه وأرادوا قتله «دعوني وقومي فإنهم لا يعلمون» فشكر اللَّه سعيه وحقق له أمله، وإذا بأولئك الأعداء الألداء الذين كانوا يحرصون علي قتله أشدَّ الحرص يفدون أنفسهم دون جسده ودماءهم ومهجهم دون دينه الحق ومبدئه المقدس، كما أن الحسين أرواحنا فداه أراد طول الإملاء والاستدراج لمن أصمَّ اللَّه سمعه وختم علي قلبه، فلم يفلح ولم يُصغ لنداء الهدي والرشاد، كما قال تعالي «سنستدرجهم من حيث لا يعلمون - واُملي لهم أن كيدي متين» [37] .

الحادي عشر: لعله بهذه المماهلة كان ينتظر المدد الموعود به من اطراف المملكة الإسلامية، ليفوز بنُصرته، وليخطوا الخطوة السعيدة بالإلتفاف تحت رايته، كابن مسعود النهشلي وجيشه الكثيف البصري وكل من ستبلغه دعوته التي بعث بها رُسله في طريقه الي الكوفة، ومن يدرينا أنه بلغه الكثير منهم في ظرف هذه المماهلة والتأني، كسعيد البصري التميمي - إن صحت الرواية - وكأن ابن زياد وقائده ابن سعد قد ادركا غرضه من طلب المماهلة والتأني بكل وجه،


فناقضاه من كل وجه، حتي استحث ابن زياد قائده علي مناجزته الحرب، إذ العجلة فرصة العجَزةِ، وأراد ابن سعد تنفيذ أمره عصر اليوم التاسع [38] ، ولمّا طلب الحسين علي يد أخيه العباس أن يؤجلوهم تلك العَشية، ليصلّوا لربهم تلك الليلة [39] لم يجب ابن سعد (لع) إلا بعد جهد جهيد، بعد أن توجّه له رؤساء عسكره، وعلي رأسهم شبث بن ربعي، فأجاب راغماً [40] ، ولكنه زاد علي أميره في الطين بِلّة ولم يخش سُبّة الدهر وعار الأبد، فغدر وفجر ونقض عهده في إعطائه للحسين عليه السلام حق البراز الواجب عليه إعطاؤه حتي عند الجاهلية وهمجيتها، فأمر الجيش بأسره أن ينقسموا قسمين، ليفترق عليه ثلاثون ألفاً، فرقةٌ بالسهام، وفرقة بالسيوف، وفرقة بالرماح، وفرقة بالحجارة [41] ، وأردفهم بالقسم الثاني، وهو الكثرة الهائلة، فأحاطوا به من كل جانب.



فكانَ إذا أصابتهُ سِهامُ

تكسَّرتِ النِصالُ علي النصالِ



دأبه الذَبُّ الي أن شبَّ في القلبِ الأوام

وَحكي جُثمانُه القُنفذ مِن رَشقِ السِهامِ



وتَوالي الطَعنُ والضربُ عَلي الليثِ الهُمام

وَعَراه مِن نَزيف الدَّمِ ضَعفُ الساعدين [42] .



حتي اغمي عليه - وا سيّداه - من كثرة نزف الدماء، فاراد أبو الحتوف أن يختبره أحيٌ هو أم ميت، فأخذ حجراً من الأرض، فلاح له ضياء جبهته كالمصباح في ظلمة النقع وليل القَتام، لأنها موضع شفاه الرسول إلا قبّله، فصكّه فيها [43] - شلَّت يمينه ولحقتها شِماله - أرأيت زجاجة المصباح إذا صكّها الحجر الصّليب فانتَبه - بأبي هو وأُمي - من شِدَة الضربة، وإذا بالدم يُلقي حجاباً كثيفاً أحمرَ بينه وبين حُرمه، فرفع ثوبه ليمسح الدم عن جبهته ويحيط حُرمه بعين رعايته،، وعندها سطع لسنان بن أنس النخعي بياض الموضع الثاني لتقبيل


رسول اللَّه من صدر الحسين، فمكّن في كبد قوسه المشوُمة سهماً أصاب قلب الرسول وخرق فؤاد الوصي المرتضي والزهراء البتول، وكان محدداً مسموماً ذا ثلاث شعب [44] .



فانبَرت نبلةٌ فَشَلَت يدا رِجسٍ

رَماها وَكفُّ علجِ بَراها



فَهوي الأخشَبُ الأشمُ، فماجَت

نُقطة الكونِ أرضُها وسَماها



ومكن في حَشاهُ السَهمَ رِجسٌ

كأنَّ بهِ رَمي قَلبَ الوُجوُدِ [45] .



وأخذ بنو أُمية يبارزون من جسد الحسين عليه السلام المواضع الخاصة لتقبيل الرسول صلي اللَّه عليه وآله فمكّن الشمر [46] سيّفه في منحر الحسين بعد أن تربع علي صدره المعظم [47] «وما هو صدرٌ بل خِزانة توحيدِ» وقرع يزيد بمخصرته ثغر الحسين [48] الذي طالما كان يترشفه الرسول ويمصُ لعابه بفمه، وجآء مروان يُرنّح أعطافه ويشمت به، إذ لم يقبَل مشورته في أوّل بيعة يزيد، فيقول فضَّ اللَّهُ فاه - وهو يقلّب رأس الحسين (عليه السلام) بيديه - ألا شلّت يداه -:



يا حَبذا بَردُك في اليَدَينِ

وَلونُكَ الأحمرُ في الخَدَّينِ



كَأنما حُفَت بوَردَتينِ

شَفَيتُ صَدري مِن دَم الحُسينِ [49] .





پاورقي

[1] سحبان رجل يضرب المثل بفصاحته، وباقل رجل يضرب المثل بعيّه وفهاهته / المؤلف.

[2] الصافر کما في مجمع الامثال ج 1 ص 192: طائر يتعلق من الشجر برجليه وينکس رأسه خوفاً من ان ينام فيؤخذ فيصفر منکوساً طول ليلته.

[3] من قصيدة لکبير شعراء عصره السيد حيدر الحلي عطر اللَّه تربته مطلعها:



ترکت حشاک وسلوانها

فخلي حشايَ وسلوانها.

[4] لاحظ مقتل الحسين للخوارزمي ج 2 ص 33.

[5] مقتل الحسين للسيد محمد تقي بحر العلوم ص 438.

[6] مقتل ابي مخنف ص 140.

[7] اسرار الشهادة ص 411.

[8] وهم حسب ما جاء في کتاب المغازي للواقدي ج 1 ص 68 مُعاذ ومُعوذ وعوف.

[9] انظر السيرة النبوية لابن هشام ج 2 ص 277.

[10] کما في تفسير التبيان للشيخ الطوسي ج 7 ص 302.

[11] سورة الحج / 19.

[12] احاد وثناء وموحد ومثني: بمعني واحداً واحداً واثنين اثنين / المؤلف.

[13] سورة النساء / 141.

[14] العقد الفريد ج 4 ص 379.

[15] نفس المصدر.

[16] سفينة البحار باب الهاء بعده الدال.

[17] يقول محمد عبده ان اول من سُمعت منه هذه الکلمة هو امير المؤمنين علي بن ابي طالب عليه السلام.

انظر شرحه علي النهج الشريف ج 1 ص 77.

[18] من قصيدة عصماء للشريف الرضي رحمه اللَّه مطلعها:



راحلٌ انت والليالي نزولُ

ومضرٌ بک البقاء الطويلُ.

[19] من اصحاب رسول اللَّه (ص) قتله وزوجته الخوارج وذلک سنة 37 هجرية.

انظر ترجمته في اسد الغابة لابن الاثير ج 2 ص 584.

[20] الکتلة: من الطين ونحوه القطعة المجتمعة المتلبدة وتستعمل في الناس مجازاً / المؤلف.

[21] انظر تنقيح المقال ج 2 ص 180.

[22] من قصيدة تزيد ابياتها علي ثمانين بيتاً للمغفور له السيد حيدر الحلي مطلعها:



کم ذا تطارح في مني ورقاءها

خفّض عليک فليس داؤک داءها.

[23] يشير رحمه اللَّه الي ما قاله الامام الحسين عليه السلام في خطبته التي القاها يوم العاشر علي اولئک الارجاس الانجاس الذين طلقوا الدين ثلاثاً جاء فيها بعد کلام (... اولم يبلغکم قول رسول اللَّه لي ولاخي هذان سيدا شباب اهل الجنة... فإن صدقتموني فيما اقول وهو الحق... وان کذبتموني فإن فيکم مَن إن سألتموه عن ذلک اخبرکم سلوا جابر بن عبد اللَّه الانصاري وابا سعيد الخدري وسهل...).

[24] وقد زعم ذلک غيرها من مبغضي امير المؤمنين عليه السلام.

انظر اثبات الهداة للحر العاملي ج 2 ص 400.

[25] روي ان رجلاً شامياً رأي الامام راکباً فجعل يلعنه والحسن لا يرد فلما فرغ اقبل الحسن فسلم عليه وضحک وقال (أيها الشيخ اظنک غريباً ولعلک شبهت فلو استعتبتنا اعتبناک ولو سألتنا اعطيناک ولو استرشدتنا ارشدناک وان کنت جائعاً اشبعناک وان کنت عرياناً کسوناک وان کنت محتاجاً اغنيناک وان کنت طريداً آويناک وان کان لک حاجة قضيناها لک فلو حرکت رحلک الينا وکنت ضيفنا الي وقت ارتحالک کان اعود عليک لأن لنا موضعاً رحباً وجاهاً عريضاً ومالاً کثيراً).

(فلما سمع الرجل کلامه عليه السلام بکي ثم قال اشهد انک خليفة اللَّه في ارضه اللَّه اعلم حيث يجعل رسالته لقد کنت انت وابوک ابغض خلق اللَّه الي والآن انت احب خلق اللَّه الي...).

انظر اخلاق اهل البيت للعلامة السيد مهدي الصدر ص 39.

[26] سورة طه / 39.

[27] اسد الغابة لابن الاثير ج 2 ص 23.

[28] العوالم للشيخ عبد اللَّه البحراني ج 17 ص 29.

[29] من قصيدة لمؤلف الکتاب رضي اللَّه عنه وقد تقدمت الاشارة اليها.

[30] انظر الارشاد للشيخ المفيد ج 2 ص 112، ومقتل الحسين للخوارزمي ج 2 ص 36.

[31] من قصيدة لشاعر اهل البيت السيد حيدر الحلي وقد مرت الاشارة اليها آنفاً.

[32] للشاعر المبدع السيد جعفر الحلي رحمه اللَّه من قصيدته التي رثي بها الامام الحسين عليه السلام ومطلعها:



في طلب العز يهون الفنا

ولا يروم العز إلا انا.

[33] قال الامام زين العابدين عليه السلام ما نصّه (رأيت کافراً وقد ضرب في خاصرة ابي برمحه فلم يقتله ابي فلما انتقلت الامامة اليَّ عرفت ان ذلک الکافر کان في صلبه من يحبنا اهل البيت).

انظر اسرار الشهادة للفاضل الدربندي ص 411.

[34] سورة الروم / 19.

[35] سورة الدخان / 16.

[36] سورة الانفال / 61.

[37] سورة الاعراف / 183 - 182.

[38] انظر منتهي الامال ج 1 ص 643.

[39] الارشاد ج 2 ص 90.

[40] الملهوف علي قتلي الطفوف ص 150.

[41] الايقاد ص 131.

[42] للشيخ حسن الدمستاني البحراني المتوفي سنة 1181 هجرية.

[43] انظر الملهوف علي قتلي الطفوف ص 172.

[44] الملهوف علي قتلي الطفوف ص 172.

[45] من قصيدة للمؤلف طاب ثراه وقد اشرنا اليها آنفاً.

[46] هو الخبيث الدنس شمر بن ذي الجوشن عليه لعنة اللَّه ولعنة اللاعنين.

اقول: ذکر المحقق الثبت الشيخ عباس القمي رحمه اللَّه في ج 4 ص 492 من کتابه (سفينة البحار) نقلاً عن کتاب (مثالب العرب) لهشام بن الکلبي ان امراءة ذي الجوشن خرجت من جبانة السبيع الي جبانة کندة فعطشت في الطريق ولاقت راعياً يرعي الغنم فطلبت منه الماء فأبي أن يعطيها إلا بالاصابة منها فمکنته فواقعها الراعي فحملت بشمر هذا.

[47] انظر مقتل الحسين للخوارزمي ج 2 ص 36.

[48] تذکرة الخواص ص 261، والاتحاف بحب الاشراف ص 70، ومناقب آل‏ابي طالب ج 4 ص 114.

[49] مثير الاحزان لابن نما الحلي ص 95.