بازگشت

لماذا بشر وحده اباه بالرؤا


في ظني أن المعترض سيقول، أيّة خصوصية لعلي بن الحسين الأكبر [1] ، دون أصحاب أبيه من صاغيته [2] وأنصاره، فيدعوا أباه وهو في دور الإحتضار: «يا أبتاه هذا جدّي رسول اللَّه قد سقاني بكأسه الأوفي شربةً لا اظمأ بعدها أبداً وهو يقول العجل العجل فإن لك كأساً مذخورةً حتي تشربها الساعة [3] «، فإنه إن كان قد زاول الحرب عطشاناً، فمن الذي زاولها منهم وهو رَيّان، وإن كان أمسّهم بالحسين عليه السلام رحماً فإن الأجنبي أولي بتوفير الأجر لأنه كالمتطوع السابق بالجميل والأحسان، وأمّا مِثلُ الأكبر فهو قائم بواجبه، وقد سار في الأمثال «لا شكر علي أداء الواجب» فخيرُ علاج لهذا الخبر أن نعتبره من الموضوعات، شأن غيره من الأخبار فهي كثيرة جداً.

قلنا أمّا كون الواجب لا شكر فيه بل كون المتطوع أفضل منه فغير تام، بل قد تقرر في علم الفقه، أن الواجب أفضل من المستحب، علي أن جهاد أنصار الحسين وأولاده وأخوته علي شاكلة واحدة إن واجباً وإن مستحباً، ولو لم يكن في الواجب شكر لما أثاب اللَّه المجاهدين بل الأنبياء والمرسلين.

فأما كون أجرهم بالأستحقاق أو بالتفضيل من اللَّه سبحانه فلا يدخل في


غرضنا، ولا يدور عليه محور بحثنا، ولكنّا نري اللَّه سبحانه يقول لنبيه، باني كيان الإسلام ورافع قواعد الدين وسيد المجاهدين في سبيله، «وكان فضل اللَّه عليك عظيما» [4] وفي موضع آخر «إن فضله كان عليك كبيرا» [5] وأمّا الإلتجاء للإعتقاد بوضع الخبر وتكذيبه لأدني شبهة تعوض في الذهن وقبل علاجه بوجه مقبول في العقل فبعيد عن مساغ، العرف وساحة الأصول الخطابية عند كافة الناس، نعم يلتجأ الي ذلك إذا خالف ضرورة الشرع أو صادم بداهة العقل والوجدان، أو عارض علي الأقل ما هو أشهر منه متناً أو أصح منه سنداً.

فنقول في الجواب أن حديث هتاف الأكبر بأبيه ليس فيه أي إختصاص للأكبر، ولا يمنع من أن غيره سقاه الرسول ماءً وهو في قيد الحياة، فبشّر بذلك غيره، فلا نحتاج للبحث عن هذا الإختصاص أورد الحديث إذا فقد الوجه، إلا إذا قلنا بحجيّة مفهوم اللقب [6] ، والتاريخ لم يضمن لنا نقل كل حادثة تقع فيه فعدم الوجدان لا يدل علي عدم الوجود، ولو سلمنا أن الأكبر عليه السلام اختص بأن ينطلق لسانه فيبشّر أباه دون بقية أنصاره، فيمكن أن نتصور لذلك وجوهاً:

الأول: لعله كان أشدّ من غيره عطشاً، إلا أباه عليه السلام أرواحنا فداه، ألا تراه لمّا رجع من الحرب شاكياً له العطش لم يحوّله علي غيره في إقناعه بأن هناك من هو أشدّ منه عطشاً ليسلو عن عطشه، لأن المصاب إذا نظر لمصاب غيره المساوي لمصابه أو الأشد، تسلي عن مصيبته، ولهذا قصّ اللَّه علي نبينا أخبار الأمم السالفة في تكذيبهم انبياءهم ورسلهم «وإن يكذبوك فقد كذّبت رسلٌ من قبلك» [7] وقالت الخنساء [8] في رثاء أخيها صخر:




ولولا كَثرةُ الباكين حَولي

علي قتلاهمُ لَقتلتُ نفسي



فتسلي الأكبر عن عطشه، بل نسي النار الملتهبة بين أضلاعه لمّا وضع أبوه لسانه في فمه [9] ، فأحسَّ من يبوسة اللسان، شدة اُوارِ العطش، في الجَنان [10] ومن بُعد عهده بالريق أن القلب لا يدور فيه دم الحياة، وسوف تسكن عروقه وشرايينه [11] ولا تنبض في آخر الأرماق إذ اللسان دليل القلب، والعنوان حاكٍ عن المعنون، فطبيعي وهو الذي يتفاني في سبيل حياة أبيه لأنها حياة مبدئه المقدّس ودينه الحق أن ينسي عطش قلبه، ولا يحسّ منه بشيء، وبديهي أن تتضاعف قوّته المعنوية فينشط علي جهاد العدو، ولا بدع فقد سمعنا بالكثير من العشاق لم يحسوا بوقع السلاح ولا ألم النار ان سمعوا أنين معشوقهم، فأي عاشق أصدق عشقاً من الأكبر، وأي معشوق أولي بالحب الصادق والعشق الحقيقي من ريحانة الرسول وقرة عين الزهراء البتول.

وسببٌ آخر لشدة عطش الأكبر وهو: طول مزاولته للحرب فقد ضج العسكر من كثرة مَن قتل منهم وغبر في وجوه القوم، حتي ظنّوا أن حيدراً الكرار قد شقّ ضريحه وجاء لنصرة ولده، وعندها حمي بعض أبطال الجيش، وهم طارق وأبوه وابنه فحاربوه مبارزةً واحداً بعد واحد، فكانوا بين يديه وشدة بأسه كالعصافير في مخالب الصقر [12] ، ثم رماه بن سعد بذخيرته من الجيش وبطله الذي أعدّه للشدائد بكر بن غانم فأمر الحسين أمّه ليلي [13] أن تدعوا لولدها الوحيد ثقةً


بحديث النبي صلي اللَّه عليه وآله: «دعاء الوالدة في ولدها مستجاب [14] «فنصر اللَّه علياً علي قِرنه بكر بحديث النبي صلي الله عليه وآله كما نصر جدّه علياً علي مناجزة بطل الأحزاب بدعاء النبي صلي الله عليه وآله، وبعد قتله وقف يتحداهم للمبارزة ويدعوهم للمناجزة، فلم يبرز اليه أحد، فرجع الي أبيه يطلب الجائزة شربة ماءٍ يتقوي بها علي القوم الظالمين -يا لفظاعة الخطب عند الحسين عليه السلام، يا لعظم مصيبة الوالد إذا لم يجد ما يسعف به الوليد بشيء يطلبه منه وقد مسّت له الحاجة، عزيز علينا واللَّه أن يطلب الينا أبناؤنا شيئاً عزيزاً وجوده، ثم لا نقدر علي إسعافهم به، فكيف إذا كان مبذولاً لكل أحد كالماء.

فردّه بأبي وأمي الي الميدان رداً جميلاً، بعد أن دفع لسانه في فمه، ليكون علي اطميئنان أن أباه أشد منه عطشاً، وإن لم يزاول الحرب والقتال، فلو كان هناك ماء لآثره به كما آثره بريقه، بناء علي استمرار بقائه في حلقه.



فانصاعَ يُؤثره عليهِ بريقهِ

لو كان ثَمةَ ريقُه لم يَجمُدِ



كلٌ حشاشتُهُ كَصاليهِ الغَضا

ولسانُه ظمأ كشِقّةِ مِبرَدِ [15] .



وسبب ثالث لشدّة عطش الأكبر كأبيه الحسين، أن جسديهما لم يستطع أحدٌ حملهما بغير وسيلة تجمع أوصالهما، من كثرة الجروح التي أصابتهما فجسد الحسين رفعه زين العابدين لقبره ببارية أتا بها بنو أسد [16] ، والأكبر جمع أبوه الحسين أوصال جسده بردائه لمّا أراد حمله الي الخيام، ولا شك أن كثرة الجراح توجب شدّة استعار نار العطش واللواح [17] .

نقول واذا ثبت أن الحسين وولدَه الأكبر كانا أشدَ عطشاً من كلّ من عداهما


لزم نبي الرحمة أن يختصّهما ويسقيهما وهما في دور الإحتضار.

الثاني: أن الحسين قارن في تسلية ولده بين دفع لسانه في فمه وبين قوله له: «يا بني قاتل قليلاً فما أسرع ما تلقي جدّك محمداً فيسقيك بكأسه الأوفي شربةً لا تظمأ بعدها أبداً [18] «فأراد اللَّه أن يُعجّل البشارة لحبيبه وابن حبيبه بأنه قد أنجز له وعده، ولم يخلف له ظنه وثقته به، فسقي مهجة قلبه بحوض نبيّه من كأس وليّه شربةً لا يظمأ بعدها أبداً، والحسين وإن اعتقد ذلك في أنصاره كلهم، بل اعتقده لهم الأعداء، ولكن للتصريح لذةً كما جاء في الأمثال، فما ألذّ وقع هذه البشارة في مسامع الحسين، إني أظن أن الأكبر مضي الي ربه وهو مطمئن أن سرور الحسين بهذه البشارة سيندك فيه حزنه بمصاب ولده البار الحبيب.

الثالث: لقد صح في الروايات أن الأكبر كان يشبه رسول اللَّه خَلقاً وخُلقاً ومَنطقاً، ولقد كانت مصيبة أهل البيت عليهم السلام برسول اللَّه عظيمةً جداً، وشوقهم لرؤية وجهه المبارك وخُلقه العظيم ومنطقه العذب الفصيح لا يزال يزيد وينمو علي توالي الشهور والأيام، فلمّا ولد الأكبر فأشبهه بهذه الصِفات خفَ بعض وجدهم وأخذوا يشبعون نهمهم لرؤية وجه الرسول بالنظر لوجه شبيه الرسول، ورُبما قيل أنه كان يأمره بالأذان قُبالة وجهه ليسمع اسم الرسول بنغمة صوت الرسول المنبعثة من شمائل الرسول فلما برز الأكبر وحده للقاء جيش الكوفة بكامله:



فتلقّي الجموعَ فرداً ولكن

كلُّ عضوٍ في الروعِ منه جموعُ [19] .



أتبعه أبوه بَصره، وكله وجدٌ عليه وهيام، وقيل أخذ يهرول خلفه لأنه سلب فؤاده ولبّه حيث صُرع فيه، الأمل واليأس، فالأمل برجوعه يحيا ويعيش إخلاداً لشجاعته التي يعهدها في ولده، فقد جاءته حبوةً من جده حيدرٍ الكرار واليأس يعظم ويشتد لأنه رآه مشتاقاً للشهادة وجوار الملك الجبار، ألم تسمع الي قوله


للنساء ولقد تعلقن به لمّا هم بالرجوع: «دعنه فقد اشتاق الحبيب الي حبيبه» لذلك أرسلها زفرةً من قرارة نفسه ورفع سبابته الي السماء شاكياً لإله الأرض والسماء قائلاً فيما قال: «اللهم اشهد علي هؤلاء القوم فقد برز إليهم غلام أشبه الناس خَلقاً وخُلقاً ومَنطقاً برسولك، وكُنا إذا اشتقنا الي نبيّك نظرنا الي وجهه [20] «فالآن - وقد أيِسنا منه - الي أي وجهة نتوجه؟

فطبيعي والحال هذه أن أمل الحسين عليه السلام قد ذوي بموت الأكبر من جده رسول اللَّه وسلوته عن رسول اللَّه، فأين الوجه الذي ينظرهُ اذا اشتاق، وكله شوق للنظر الي جده، لذلك أخذ الأكبر بدوره يسليه عن نفسه بنفسه، قائلاً له هذا جدي فكأنه يقول له إذا انقطع أملك من رسول اللَّه وذوي رجاؤك من شبهه وعوضه وبديله وعجل اللحاق به، فها هو عندي حاضر، ولقدومك منتظر، فتحظي حينئذٍ برؤية الأصل وفرعه، والمعوض وعوضه.

الرابع: لقد ترك الأكبر والده الحسين عليه السلام يتلهف للقاء رسول اللَّه فهو في رغبة شديدة لرؤيته حباً لذاته، وهو في شوق عظيم للمثول بين يديه، ليتمتع من رؤية وجهه ويسرح نظره في رياض قسماته، وهو في حنين للإتصال به ليبُث له ما يكن ضميره من شِكاته، وربما سمعه الأكبر يوصي بذلك بعض أنصاره وحُماته، وفي ظني أن أحرّ شكوي يبثها لرسول اللَّه إذا اتصل به منع اُمته ولده ومهجة قلبه من ورود الماء علي شِدة حاجته إليه، وهو ميسورٌ تحت أيديهم، تتمرغ فيه الكلاب والخنازير، فما إن مثل الأكبر بين يدي جدّه رسول اللَّه حتي هتف بالحسين: «هذا جدي قد سقاني شربةً فلا أظمأ بعدها أبداً [21] «فكأنه يقول له لقيت جدي وقمت مقامك بالشكاية لديه، ونبتُ منابك في التظلم بمجرد أن مثلت بين يديه، فاعداك في الشكوي وسقاني شربةً لا أظمأ بعدها أبداً «وما


عند اللَّه خير وأبقي» [22] «وللاخرة خيرٌ لك من الأولي - ولسوف يعطيك ربك فترضي» [23] .

الخامس: انك سمعت ما جاء في الرواية في مسير الحسين، حيث هوّمت عيناه بالنوم ساعةً، وانتبه وهو يقول إنا للَّه وإنا إليه راجعون، فأقبل عليه ولده علي الأكبر، وقال له يا أبت لِمَ استرجعت لا أراك اللَّه سوءً، فقال يا ولدي خفقت خفقةً، فرايت فارساً وهو يقول: القوم يسيرون والمنايا تسير بهم، فقال له ابنه علي يا أبه أفلسنا علي الحق، فقال بلي يا بني والذي اليه مرجع العباد، فقال يا أبه إذاً لا نبالي بالموت، فقال له الحسين جزاك اللَّه خير ما جزي ولداً عن والده [24] - فيستفاد من هذه الرواية أن علياً الأكبر تجلي بأجلي مظاهر الحرص في حُب الجهاد وفي سبيل اللَّه نصرةً للحق وازهاقاً للباطل وذياداً عن شريعة العدل والهدي الي آخر نفس يلفظه من أنفاس حياته، وإذ قد صُرع عن جواده - ولا تسل عما أصابه من الجراحات التي لا تعد ولا تحصي - أراد أن يوصي لمن خَلفه من أنصار أبيه أن لا يكلوا عن الجهاد أجل «حُبَّ لأخيك المؤمن ما تُحبُ لنَفسكَ» كما أوصي سعد بن الربيع [25] لأخوانه الأنصار بنصرة رسول اللَّه بعد أن صرع في واقعة اُحد إذ قال لمن جاء ينظره كامر الرسول أفي الأحياء هو أم الأموات - وكان من الانصار - «أبلغ قومك عني السلام وقل لهم إن سعد بن الربيع يقول لكم إنه لا عذر لكم إن خُلص الي نبيكم وفيكم عين تطرف [26] «فقال الرسول تعليقاً علي وصيته وإشادةً بإيمانه المتين «رحم اللَّه سعداً نصرنا حياً


وأوصي بنا ميّتاً [27] «وكذلك حبيب لما استعد لقبول وصيّة مسلم بن عوسجة بنصرة الحسين الغريب، ولكن وصية الأكبر كانت أبلغ أثراً من وصية سعد وابن عوسجة، لأن وصيتهما مجردةً عن المصلحة المرتبة علي الجهاد، فقد جاءا بالوصية علي حقيقتها، والأكبر كنّي عنها بذكر المصلحة وهو الاستقاء بعد شدّةِ ذلك العطش من حوض الرسول بكأسه الأوفي، والمجاهد بعد في قد الحياة الدنيا فما بالك به إذا انتقل الي الحياة الدائمية الأبدية نعم «لهم البشري في الحياة الدنيا وفي الآخرة لا تبديل لكلمات اللَّه ذلك هو الفوز العظيم» [28] وقد ذكر علماء البيان أن الكناية أبلغ من التصريح، لإقترانها بالدليل والبرهان، ألا تري شهداء بئر معونة أو اُحُد لمّا رأوا جزاءهم عند اللَّه جزاءاً موفوراً، تمنوا أن يجدوا لهم رسولاً يبلغ من خلفهم بما لقوا عند اللَّه وبما أعدّ اللَّه للمجاهدين لئلا يكلوا عن الجهاد، فقال لهم اللَّه أنا أبلغهم عنكم وأوحي الي نبيّه الصادق المصدّق: «ولا تحسبنَّ الذين قتلوا في سبيل اللَّه أمواتاً بل أحياء عند ربهم يرزقون - فرحين بما اتاهم اللَّه من فضله ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خَلفهم ألا خوف عليهم ولا هم يحزنون - يستبشرون بنعمةٍ من اللَّه وفضلٍ وإن اللَّه لا يضيع أجر المؤمنين» [29] .

السادس: لقد رجع علي بن الحسين الي الميدان ناسياً عطشه، أن رأي التفاوت عظيماً في المقياس بين عطشه وعطش أبيه، وإذا كان أبوه أشد منه عطشاً فينبغي أن يسقي قبله بكأس الرسول الأوفي، وإذا لم تأت نوبته بعد في السُقيا لأنه لم يدخل في دور الإحتضار، فاللازم الإنتقال الي البشارة لأن ذكر العيش نصف العيش فما إن رأي الأكبر الكأسين بيد جدّه المصطفي يتلقي بهما الأشدّين عطشاً، حتي هتف بأبيه يبشره بهما، ولكنه رآي قُصاري مقصد الحسين


سقيا ولده وكان قصاري مناه سقيا أبيه، لأنه أشد منه عطشاً، وهو له أشد من نفسه حباً، لذلك آثر قصد أبيه علي قصده كما آثره الأب البار الرحيم بريقه، فبدأ بذكر مُني ابيه قبل مُني نفسه، فقال: «هذا جدي رسول اللَّه سقاني بكأسه الأوفي شربةً لا اظمأ بعدها أبداً، وهو يقول لك عجّل فإن لك كأساً مذخوراً [30] «وإذا جاءت الرواية أن الحسين لمّا ألقي نفسه علي ولده دخل في دور الأحتضار فلا أري سببه إلا شدّة مُني الأكبر وحرصه أن تأتي نوبة أبيه، فيسقيه جدّه تلك الكأس المذخورة، وقد أعطي اللَّه الأكبر ما تمنّي، لولا أن عمّته العقيلة حالت دون مُناه، إذ خرجت من الخيمة تؤم الشّلوَ المبضَع، ويراها حميد بن مسلم، وهي تنادي وا ابن أخاه [31] ، فشغلت أخاها غيرة اللَّه بأمر النواميس، والعرض مقدم علي الأولاد والنفوس، فترك ابنه لفتيانه يحملون أخاهم الي الخيمة بعد أن جمع بيده أوصاله المبعثرة بردائه وردَّ اُخته الي الخيمة [32] حذراً من شماتة الأعداء.

السابع: يقول في الأكبر واصفه ومطريه، وإن شئت قل مُقرضه وناعيه:



جَمع الصِفاتِ الغُرَّ وهي تُراثهُ

عن كلِ غطريفٍ وشهمٍ اصيدِ [33] .



فمن الدين ورثهم في صفاتهم الغراء ونعوتهم العُليا الخمسة الأشباح عليهم السلام، فكان يُشبه المصطفي خَلقاً وخُلقاً ومَنطقاً، وكان يشبه المرتضي شجاعة واسماً «والأسماء تنزل من السماء» وأشبه عمّه الحسن الزكي جواداً وكرماً، وجدته الزهراء قصر عمر [34] ، وعدم مبالاة بالسلطة القائمة، وقلة اكثراثٍ بالقوة


الغاشمة، فإن جدته الزهراء لم تُبال بأوّل سلطة أسست أساس الظلم والجور، إذ صبّت عليها حاصباً من زواجرها، وقرعتها بسياط مواعظها في خطبتها البليغة المرتجلة [35] ، في حشد من المهاجرين والأنصار وجاء حفيدها يعيد بدوره العهد المجيد الفاطمي، غير هيّاب من تجمهرهم، ولا محتف بكثرتهم، ولم يحسب أي حساب لتحفزهم وتحرّقهم.



أنا عليُ بن الحُسين بن علي

نحنُ وبيت اللَّه أولي بالنبي



تا اللَّه لا يحكم فينا بن الدعي

أضربكم باليفِ أحمي عن أبي



ضربَ غلامٍ هاشميٍ عَلوي [36] .

وقد ورث بطل روايتنا أباه الحسين بالإباءِ عن الضَّيم والأنفة عن ارتكاب الدنيّة ومسالمة الأعداء فدون ذلك ارتكاب المنية، ولسان حاله يهتف صارخاً في مسمع الدهر مدوياً في اذن العدو المتجبّر المختال.



لا تَسقِني كأسَ المدامِ بذلةٍ

بل فاسقِني بالعزِّ كأسَ الحنظلِ



ففتَّ في عضده وانفلت زمام الصبر من يده أن سمع أعداءَ أبيه ينادونه بلسان الشماتة والظفر «يا حسين أما تري الماء يلوح كأنه كبد السماء، واللَّه لن تذوق منه قطرةً واحدةً حتي تردَ الحامية فتشرب من حميمها [37] «فلم يرَ ما يكبح به جماحهم ويخفض من غُلوائهم إلا أن يظهر في جهادهم ظهور من لم يبال بالعطش، مفنداً لزعمهم أن سوف يقتلونهم بسلاح العطش وأعظم من ذلك قولهم للحسين سَتَردُ الحامية وتسقي من حميمها، فكذّب زعمهم وهتف في متوسطهم «هذا جدي رسول اللَّه سقاني شربةً لا أظمأ بعدها أبداً» كما وعدهم بذلك أبوه


الحسين حيث قال في ردِّ قولهم هذا «بل أردُ علي جدي فيسقيني من حوض الكوثر [38] «فكأن الأكبر يقول للأعداء لا حاجة لنا بفراتكم، وإن كان ميراثنا من جدتنا الزهراء، فانظروا ما فعلنا بكم في الحرب علي شدّة عطشنا، هذا في الحياة الدنيا فاقصروا عن الشماتة أيها اللئام، وأما في الآخرة فهذا جزاؤنا عند اللَّه لا كما زعمتم يا أعداء اللَّه واأعداء الإنسانية.

وأما الحسين فقد علّق علي كلمة ولده هذا مصدّقاً له فيما قال: «ولدي علي قتلوك ومن شرب الماء منعوك تشفياً منّي وشماتةً بي ألم يعلموا أنّك لا تبالي بمنعهم، ولا تكترث بفراتهم فقد غبّرت علي عطشك بجيشهم، (كأنهم ما عرفوك) أنك وارث الزهراء، والفرات بعض صداقها [39] ، (ولا عرفوا مَن جدك وأبوك) أليس جدّك رسول اللَّه الذي طوق رقاب العالمين بمنّه وفضله أن جاءهم بدينٍ فيه سعادةُ دنياهم وآخرتهم وقد قال المرء يحفظ في بنيه، فما بالهم لم يحفظوه فيك وأبوك علي بن أبي طالب الذي بايعوه عموماً علي يد رسول اللَّه صلي الله عليه وآله يوم الغدير بالولاية علي الأحمر والأسود الي يوم القيامة، وقد بايع هؤلاء علي الخصوص أباك الحسين علي أن ينصروه ولا يخذلوه، لا علي أن يقاتلوا مهجة قلبه علي شدة عطشه ثم يتعطفوا عليه من كل جانب ويقتلوه، ثم ودع الحياة


الدنيا إذ ودّعه بكلمة تصاعدت معها شظايا قلبه بزفراته الحارّة المتصاعدة من صميم فؤاده وأعماق ضمائره «علي الدنيا بعد العفا [40] «لأنك كنت زهرتها وقد ذهبت، ونضرتها وقد امحت، فعادت دَوحةُ الأمل أغصانها يابسةً، وبسمةُ المُني مقطبةً عابسةً فأين ذلك الوجه الذي اشبع فيه نهمتي من النظر لوجه جدي المصطفي، واين تلك الفروسية التي جددت ذكريات شجاعة أبي المرتضي، واين تلك السماحة التي أحيت جود أخي الحسن المجتبي، اليوم مات الخمسة اصحاب الكسا، اليوم حرمت علي مصاب غيرك البكا، ولدي علي، ولدي علي، ولدي علي [41] .



بُنَي أجِبني فقد أوشكَت

تُفارِقُ رُوحيَ جُثمانِيه



بُنَي الآن قَطعتُ الرَّجا

ألم تَكُ غايَة آماليه



الآن فقدتُ مِثالَ النبي

وَسلواي عن كُلِ أسلافيه [42] .



فلتذهَبِ الدُنيا عَلَي الدُنيا العَفا

ما بعدَ يومِكَ مِن زَمانٍ أرغَدِ [43] .





پاورقي

[1] هو علي بن الحسين بن علي بن ابي طالب عليه السلام.

کنيته: (ابو الحسن) کما يظهر من الزيارة المروية عن الامام الصادق عليه السلام علي لسان ابي حمزة الثمالي.

جاء في ص 416 من (کامل الزيارات) لابن قولويه القمي رحمه اللَّه ان الامام الصادق قال لابي حمزة بعد کلام (ثم ضع خدک علي القبر - يريد قبر علي بن الحسين - وقل صلي اللَّه عليک يا ابا الحسن ثلاثاًبأبي انت وامي...).

لقبه: (الاکبر) لکونه اکبر اولاد امامنا الحسين عليه السلام.

ولد في الحادي عشر من شهر شعبان سنة 23 واستشهد يوم العاشر من محرم سنة 61 فيکون له من العمر ما يقارب سبعاً وعشرين سنة.

[2] صاغية الرجل: قومه الذين يميلون اليه / المؤلف.

[3] مقتل الحسين للخوارزمي ج 2 ص 31.

[4] سورة النساء / 113.

[5] سورة الاسراء / 87.

[6] مثال عدم حجيّة مفهوم اللقب أن تقول محمد رسول اللَّه فانه لا تنفي رسالة غيره کموسي / المؤلف.

[7] سورة فاطر / 4.

[8] هي تماضر بنت عمرو بن الشريد من بني سليم کانت اشعر نساء عصرها لها شعر کثير جلّه في رثاء اخويها معاوية وصخر.

[9] انظر مقتل الحسين للخوارزمي ج 2 ص 31.

[10] الجَنان: القلب / المؤلف.

[11] الشرايين: جمع شريان: العرق النابض الذي يجري فيه الدم الأحمر / المؤلف.

[12] لما برز علي بن الحسين الاکبر عليه السلام دعا عمر بن سعد بطارق بن کثير وکان فارساً...

اقرأ تتمة الخبر في کتاب اسرار الشهادة للفاضل الدربندي ص 370.

[13] هي ليلي بنت أبي مرة بن مسعود الثقفي حسب ما جاء في کتاب الارشاد للشيخ المفيد ج 2 ص 106 وکتاب اعلام الوري للطبرسي ج 1 ص 478، وتاريخ اليعقوبي ج 2 ص 247.

وتنتمي هذه المرأة الجليلة الي بيت جليل شريف فإن جدها عروة احد العظيمين اللذين قالت قريش فيهما (لولا اُنزل هذا القران علي رجل من القريتين عظيم).

فقد ذکر المفسرون في تفاسيرهم ان المراد بالقريتين مکة المکرمة والطائف، والعظيم الاخر هو الوليد بن المغيرة المخزومي.

[14] اسرار الشهادة ص 370.

[15] من قصيدة تعد من محاسن الشعر وهي للمغفور له الشيخ عبد الحسين العاملي رحمه اللَّه يرثي بها علي الاکبر عليه السلام مطلعها:



حجرٌ علي عيني يمرُ بها الکري

من بعد نازلةٍ بعترةِ احمدِ.

[16] نفس المهموم للشيخ عباس القمي ص 391.

[17] اعلم أن العطش والظماء واللواح والاوام والصّدَي کلها مترادفة أو متقاربة / المؤلف.

[18] بحار الانوار ج 45 ص 43.

[19] للسيد حيدر الحلي رحمه اللَّه وقد جاء في ظمن قصيدته التي استهلها بقوله:



قد عهدنا الربوع وهي ربيع

اين لا اين انسها المجموعُ.

[20] بحار الانوار ج 45 ص 42.

[21] مقتل الخوارزمي ج 2 ص 31.

[22] سورة القصص / 60.

[23] سورة الضحي / 5 - 4.

[24] انظر ارشاد المفيد ج 2 ص 82، وروضة الواعظين ج 1 ص 180، وتاريخ الطبري ج 4 ص 308.

[25] هو سعد بن الربيع بن عمرو بن أبي زهير بن مالک... الخزرجي الانصاري.

شهد العقبة الاولي والثانية وشهد بدراً وقتل يوم احد.

انظر ترجمته في اُسد الغابة لابن الاثير ج 2 ص 293.

[26] الاستيعاب للقرطبي ج 2 ص 157.

[27] تنقيح المقال ج 2 ص 13.

[28] سورة يونس / 64.

[29] سورة آل عمران / 171 - 170 - 169.

[30] مقتل الحسين للخوارزمي ج 2 ص 31.

[31] الملهوف علي قتلي الطفوف ص 167.

[32] نفس المهموم ص 312.

[33] من قصيدة عامرة في رثاء علي الاکبر عليه السلام للعلامة الشيخ عبد الحسين العاملي طاب رمسه وقد مرت الاشارة اليها آنفاً.

[34] نعم قصر عمر الزهور الفواحه.

قال الشيخ المجلسي رحمه اللَّه في البحار ج 43 ص 7 أن فاطمة عليها السلام توفيت ولها من العمر ثماني عشرة سنة وخمسة وسبعون يوماً.

وقال الشيخ الکليني في الکافي ج 1 ص 459 ما نصه ولدت فاطمة عليها السلام بعد مبعث رسول اللَّه بخمس سنين وتوفيت ولها ثمان عشرة سنة وخمسة وسبعون يوماً وعلي هذا عامة من ترجم لها سلام اللَّه عليها.

[35] يريد قدس اللَّه نفسه الزکية خطبة الزهراء الکبري التي القتها في جمع غفير من المهاجرين والانصار والتي افتتحتها بقولها (الحمد للَّه علي ما أنعم وله الشکرُ علي ما ألهم والثناء بما قدم من عموم نعم...).

انظر الاحتجاج للطبرسي ج 1 ص 97.

[36] المناقب لابن شهرآشوب ج 4 ص 109.

[37] مثير الاحزان لابن نما ص 71.

[38] أقول: ان الذي قاله عليه السلام في رد قولهم الدال علي خبث نفوسهم وقساوة قلوبهم وشراسة طباعهم هو الآتي کما في جملة من الکتب المعتبرة (بل أرد علي جدي رسول اللَّه وأسکن معه في داره في مقعد صدق عند مليک مقتدر وأشرب من ماء غير آسن وأشکو اليه ما ارتکبتم مني وفعلتم بي).

انظر مثير الاحزان لابن نما ص 75، ونفس المهموم للشيخ عباس القمي ص 366، والملهوف علي قتلي الطفوف ص 177، ومقتل الحسين للعلامة المقرم ص 282.

[39] کما صرحت بذلک أخبار کثيرة وروايات وفيرة منها:

قال الامام جعفر بن محمد الصادق عليه السلام بعد کلام: (ومن مهرها خُمس الدنيا والجنة والنار تدخل أعدائها النار وتدخل أوليائها الجنة وأربعة أنهار - عدَّ منها الامام عليه السلام الفرات -.

انظر دلائل الامامة لابي جعفر محمد بن جرير الطبري الامامي ص 18.

قال ابن العرندس الحلي عظم اللَّه مرقده في احدي قصائده الممتعة:



أيقتل ضمآناً حسينٌ بکربلا

وفي کل عضوٍ من أنامله بحرُ



ووالده الساقي علي الحوض في غدٍ

وفاطمة ماء الفرات لها مهرُ



.

[40] انظر الارشاد للشيخ المفيد ج 2 ص 106.

[41] أقول قرأت في مقتل الحسين للمغفور له آية اللَّه السيد محمد تقي بحر العلوم رحمه اللَّه أن الحسين کان وهو في طريقه الي ولده الاکبر يکثر من قول ولدي علي ولدي علي...

[42] من قصيدة لمؤلف الکتاب يرثي بها علي بن الحسين الاکبر عليه السلام مطلعها:



ترفعتِ الانفسُ السامية

الي ذروة الرتب العالية.

[43] من قصيدة في رثاء علي الاکبر لناظمها العلامة الاديب الشيخ عبد الحسين العاملي رحمه اللَّه.