بازگشت

كيف برزوا للجيش آحادا


الشجاعة قوّة إرادة في القلب، ومضاءة عزيمة في النفس تبعث صاحبها علي تحريك عضلاته [1] علي الإقدام علي المخاطر وتربأ به عن الإحجام وتولية الدُبر، وقد تكون غريزيةً في النفس، وذلك فضل اللَّه يؤتيه من يشاء واللَّه ذو الفضل العظيم، وقد تكون موروثةً من العنصر، وللعناصر أثرها العجيب وعملها القوي في تركيز الملكات في محالّها المستعِدة لقبولها ولكنها في الغالب تكتَسب من التدرّب والتمرّن، فإن العادات قهارةٌ (ولكل إمري ءٍ من دهره ما تعوّدا) [2] ، وللبيئة التي يعيش بها الإنسان عاملها الفعّال حيث يتحقق عنده أن الأقدام مكرمة وفخار، والجبن منقصة وذلة وعار لشخص الجبان وسُبَّة خالدة في أعقابه فيضحي ببدنه دون سمعته وبحياته الفانية أمام ذِكرِه وصِيته والذكر للإنسان عمر ثاني.

أما القتال الذي يراد به وجه اللَّه سبحانه فيكون مبعث الشجاعة فيه - علاوة علي ما ذكرنا - قوّة الإيمان في النفس ورسوخ العقيدة في القلب، لذلك تقدّر بمقياس تعلقه وشدّة إرتباطه بمبادئه المقدّسة ومبلغ أخذه بنصيبه منها.

وقد اختار اللَّه لحبيبه الحسين أنصاراً توفّرت فيهم بواعث الشجاعة وتكثرت فيهم دواعي البسالة، كانوا شجعاناً في طبايعهم وغرائزهم وكانوا فرسان المصر وأهل البصائر وقوماً مستميتين، كما شهد لهم عدوّهم [3] ، وقد لمس الإيمان قرارة نفوسهم، فأحبوا الحسين لذاته ومعناه وتسابقوا للموت دونه مستأنسين به


استيئناس الطفل بمحالب اُمه [4] ، وخلفوا به جدّه رسول اللَّه لمّا وَعَوا قوله صلي الله عليه وآله: «إني مخلف فيكم الثقلين كتاب اللَّه وعترتي أهل بيتي فانظروا كيف تخلفوني فيهما [5] «وحفظوا به بيضة الإسلام لأنه يتجلي لأعينهم بشخصه الربّاني، ونصروا المثل العليا لأنها تتمثل بأسمي معانيها في نفسه الكريمة، وذادوا عن حوض العدل وشريعة الأنصاف وردعوا الظلم ووقفوا سداً منيعاً في وجه تيّاره، والأخذ بيد المظلوم غريزة النفوس البشرية السليمة فضلاً عن كبرائها من عظماء الرجال، فقد دعاه أهل الكوفة ليحملهم علي المحجّة البيضاء والطريق اللاحِب، وينقذهم من مخالب اُمية السبعيّة التي عاشت فساداً بدينهم ودُنياهم، ولا كما عاث فرعون فساداً في بني اسرائيل وبلادهم، فلما لبّي دعوتهم عدوا عليه يقتلونه ومن معه من انصاره وأطفاله تلبيةً لدعوة اُمية من غير ما رأفةٍ ولا رحمة.

ولقد ضاعف قوّتهم المعنوية وزادها سبب هو أعظم الأسباب وأقواها ألا وهو اتصالهم بالحسين، فأسرتهم أخلاقه وسرت اليهم طبائعه وجذبت قلوبهم ونفسياتهم نفسيته العظيمة، كما يجذب الحديد المغناطيس فكأن اللَّه خلقهم له عن جديد علي مثاله وطبعهم علي غراره. هذا وَبَلُهَ [6] ما يرجونه - كما بشّرهم - من دخول الجنّة ومعانقة الحور العين علي حد قول بعضهم [7] «واللَّه ما بيننا


وبين الحور العين إلا أن يميل علينا هؤلاء بأسيافهم [8] «بل روي أنه أراهم منازلهم وهم في قيد الحياة، فلا تعجب إذا لاقي كل واحدٍ منهم بمفرده جيش الكوفة بقضّه وقضيضه وعدده وعدّته، ونقل لك التاريخ أنه ضاق بقتال أشدائهم ذرعاً واعتصم مقاتلته عنهم بالفرار والهزيمة فإن الأرادة إذا عظمت صغر لديها كل كبير، والبواعث النفسية إذا توفّرت تضاءل [9] في جانبها كل عدد، فكأنما خلقت هذه البواعث في نفس كل واحد عزائم لا منتهي لها مُدّة وشدة وعِدة، فتراه إذا برز وحده للجيش بأسره.



يَصولُ فرداً بجيشٍ من عزائمه

وتراً ولكنّه للجمع قد وَتَرا [10] .



بشممَ الحسين وإبائه وصلابة الإيمان الذي خامر نفسه يحيي الهيجاء بثغره الباسم وقد قطبت في وجهه وكشّرت عن أنيابها، ويخمد لهبها المحتدم غيظاً وغضباً بوجهه الوضييء الوضّاح، فكانوا من أظهر مصاديق قول أمير المؤمنين (عظم الخالق في أنفسهم فصغر ما دونه في أعينهم [11] (ولست اُحابيهم الثناء، أو أكيل لهم المدح جزافاً فهذا العدو يعترف لهم بذلك، حيث لام العذول بعض من حضر منهم وقعة الطف، فقال فيما قال: «ثارت علينا عِصابة أيديها علي مقابض سيوفها كالأسود الضارية، تحطم الفرسان يميناً وشمالاً، تُلقي نفسها علي الموت، لا تقبل الأمان ولا ترغب في المال ولا يحول بينها وبين حياض المنيّة الخ، وهذا أعرف الناس بنفسياتهم سيدهم الحسين يشهد لهم بكلمته الثمينة الخالدة [12] : «أما بعد فإني لا أعلم أصحاباً أوفي ولا خيراً من أصحابي ولا أهل بيتٍ أبرّ ولا


أوصل من أهل بيتي» أجل واللَّه لم يسجل التاريخ منذ بزوغ فجرِه الي يوم الناس هذا لواحد من بني الإنسان لاقي بمفرده جيشاً برمته، فلم يهن عجزاً ولم يستكن ذُلاً، ولم تحز عزيمته جُبناً، اللهم الا ما كان ممن عجبت من حملاته ملائكة السموات يوم اُحد «إذ تصعدون ولا تلوون علي أحد والرسول يدعوكم في اُخراكم» [13] ، «ويوم حنينٍ إذ أعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم شيئاً وضاقت عليكم الأرض بما رحبت ثم وليتم مدبرين» [14] وعلي يذود بهم المشركين ويردُّ كتائبهم عن وجه سيد المرسلين، يحصد الرؤوس حصداً ويقُدّ الابدان بسيفه قدّاً، وجبرئيل يشيد بذكره وينوّه بمدحه منادياً بين السماء والأرض.



لا سيف إلا ذو الفقار

ولا فتي إلا علي [15] .



اذاً فلا تحسبنا مبالغين في مدحهم أو مغرقين في وصفهم إذا قلنا فيهم:



فإن لم يكن فيهم عليٌ فكلُّهم

عليٌ أمير المؤمنين إذا كرّا



لقد تضاحكوا للقاء الموت جذلاً وأجنّهم حب الحسين فرحاً حتي نضوا الدّروع عن أجسادهم واصحروا بها لسيوف الأعداء ورماحهم، ودعوا علي أنفسهم أن تأكلهم السباع أحياءً إن هم تركوه وحده وانصرفوا عنه ولم ينصروه، وتمنّوا أن يقتلوا دونه ثم يحيوا ثم يحرقوا يفعل ذلك بهم مراراً، وقد صدقوا اللَّه ما عاهدوه، فقد روي أنه لمّا وقف بينهم يندبهم ويرثيهم ويدعوهم لنصرته وحماية حُرمه (وهم جثث فوق الصعيد هوامدُ) قد فُرّق بين رؤوسهم وأجسادهم دَبت بهم تلك الأماني الحُلوة بدلَ الأرواح، ونهضت بهم عزائمهم بعدما سرَت في عروقهم وشرايينهم عوض الدِماء، فأخذت جُثثهم تضطرب علي وجه الأرض كأنها تستأذنه بالقيام ولقاء الأعداء كما استأذنوه في حياتهم بالبراز غير آبهين


بتفريق رؤوسهم عن أجسادهم ولا مُحتفين بفراق أرواحهم، وأيم اللَّه لو أذن لهم بالقيام لقاموا، وببراز الأعداء لبارزوهم أشدّ من البراز الأول، لكنّه أومي اليهم بالسكون وأشار إليهم أن يعودوا كما كانوا، فسكنوا امتثال أمره، وعادوا الي نومتهم طواعية رأيه، واذا كان هذا سيرهم معه في حياتهم ودأبهم بعد مماتهم فلا نري صاحب الرواية مُبالغاً في وصفه إذ يقول وقف الحسين علي أصحابه كالطّير المتكسرة أجنحته، وأخذ يدعوهم بأسمائهم واحداً واحداً، يا مسلم بن عقيل، ويا هاني بن عروة، ويا حبيب بن مظاهر، ويا زهير بن القين، ويا فلان ويا فلان، يا ابطال الصفا ويا ليوث الهيجاء، مالي أناديكم فلا تجيبون وأعوكم فلا تسمعون، أنتم نيام أرجوكم تنتبهون أم حالت مودّتكم عن أمامكم فلا تسمعون، هذه نساء الرسول لفقدكم قد علاهنّ النحول ولكن صرعكم واللَّه ريب المنون وغدربكم الدهر الخؤون [16] .



أحبّاي لو غيرُ الحمامِ اصابكم عتبت

ولكن ما علي الموت معتب



الي اللَّه أشكو لا الي الناس أشتكي

أري الأرض تبقي والأخلاء تذهب





پاورقي

[1] جمع عَضَلة: کل عَصَبةٍ يجتمع معها اللحم المؤلف.

[2] هذا صَدرُ بيتٍ وأما عجزه فهو (وعادات سيف الدولة الطعنُ في العدا).

والبيت لحکيم الشعراء أبي الطيب المتنبي وهو من قصيدة يمدح بها سيف الدولة الحمداني.

[3] قال بن أبي الحديد المعتزلي في ج 3 ص 263 من شرحه علي النهج قيل لرجل شهد يوم الطف مع عمر بن سعد: ويحک أقتلتم ذرية رسول اللَّه فاندفع قائلاً (عظظت بالجندل إنک لو شهدت ما شهدنا لفعلت ما فعلنا ثارت علينا عصابة أيديها علي مقابض سيوفها کالاسود الضارية تحطم الفرسان يميناً وشمالاً وتلقي انفسها علي الموت لا تقبل الامان ولا ترغب...).

[4] قال السيد حيدر الحلي في احدي روائعه ولقد احسن کل الاحسان:



يتسابقون الي الکفاح ثيابهم

فيها وعمتهم قناً وشفارُ



متنافسين علي المنية بينهم

فکأنما هي غادة معطاءُ



.

[5] هذا هو حديث الثقلين‏وهو حديث تناقلته کتب الفريقين سنة وشيعة وقد ذکره من علماء الجمهور ما يلي:

1 - الامام احمد بن حنبل في ج 3 من مسنده.

2 - ابن عبد ربه الاندلسي في ج 2 من العقد الفريد.

3 - ابن الصباغ المالکي في الفصول المهمة.

4 - ابن الجوزي في تذکرة الخواص.

5 - القندوزي الحنفي في ينابيع المودة، وغير هؤلاء کثير.

[6] بَلُهَ: اسم فعل بمعني دع واترک / المؤلف.

[7] أراد رحمه اللَّه بهذا البعض برير بن خضير الهمداني رضي اللَّه عنه.

انظر الملهوف علي قتلي الطفوف ص 155.

[8] ابصار العين للشيخ محمد السماوي ص 71.

[9] تضاءل: صغر وضعف / المؤلف.

[10] للمؤلف قدس سره وقد جاء في ضمن قصيدته التي ندب فيها الامام المهدي عجل اللَّه تعالي فرجه الشريف ورثي جدّه الحسين وقد مرت الاشارة اليها.

[11] انظر خطبة المتقين شرح محمد عبده ج 2 ص 60.

[12] الواردة في ضمن خطبته التي خطبها ليلة العاشر من المحرم في اصحابه المغاوير والتي استهلها بقوله (اثني علي اللَّه تعالي احسن الثناء واحمده في...).انظر مقتل الحسين للسيد المقرم ص 212.

[13] آل عمران / 153.

[14] التوبة / 25.

[15] اقول: يروق لي هنا أن ادعوک الي أن تقرأ ما کتبه ابن ابي الحديد المعتزلي في ج 14 ص 250 من شرحه علي النهج عن شجاعة أمير المؤمنين عليه السلام الفائقة وبسالته النادرة في هذه المعرکة.

[16] انظر مقتل الحسين لأبي مخنف ص 133.